الفصل الثالث والعشرون

1.1K 49 3
                                    

الفصل الثالث والعشرون: ماذا بعد؟*

الأغنية لـ (كاظم الساهر)

-أنتَ لا تنتمي الا الى خوفك
-مايا ميلر

نزلت مايا الى الصالة التي خصصها لها مكسم لترقص، وقفت تنظر اليها بصدمة.. لم تستوعب بعد ما عرفته لتوها .. بيدها كانت تحمل شريط اختبار الحمل الذي يؤكد لها بأنها تتداخل في روح مكسم بأكثر الطرق حميمية وقرباً .. وجهها جامد الملامح تماماً...
دخلت بخطى ثقيلة.. واتجهت عينها الى كيس الملاكمة الذي تدلى من السقف في الزاوية وبدا لها في هذه اللحظة مثل جثة مشنوقة....
وقفت في وسط الصالة.. تحيطها المرايا التي صنعها لأجلها... وتمتد خلفها واجهة الزجاج التي تطل على مكتبه...... كم ليلة قضتها تتدرب هنا وهو يجلس في مكتبه؟ كم حديثاً خاضاه عن احلامها في الرقص؟ ... كم كلمة مشجعة رماها بها؟ .....
اعتصر الألم ملامح وجهها.... على المرآة انعكست أمامها امرأة مجعدة الملامح بالوجع .. تقف متهدلة الكتفين وتبدو وكأنها خارجة للتو من فاجعة.....
رمشت.. وضعت يدها على قلبها تلمسه بأصابعها ثم رفعت اصابعها أمام عينها كأنها تنتظر ان ترى دماً نازفاً في المكان الذي طعنها في مكسم
لماذا؟ ... لماذا؟
نخرت الكلمة ذات الخمسة أحرف عقلها.. هو لم يظهر أبداً معارضته لمهنتها .. بل بالعكس .. لقد ساندها وشجعها ورأت الفخر في عينيه في كل مرة ينجح فيها عرض لفرقتها.... او هذا ما بدا لها على الأقل !
اغمضت عيناها متأوهة.... هل هذا الألم حقيقي؟ هل ما سمعته حقيقياً؟... هل مكسم فعل ذلك حقاً؟ ... لقد رآها تتكسر بين يديه بقهر... لقد رأى الخيبة التي وقعت بها.. ومع هذا لم ينطق بكلمة ...
ضربت في رأسها جملته حين كانا في الباص ليلة العرض:
" لربما كان العرض سينجح لو لم تكوني معي"
كتمت شهقتها بكفها وقد اتسعت عيناها حتى آخرهما وهي تدرك مقصد جملته ....... ان هذا حقيقي !.... ما يحصل حقيقي فعلاً .... ما فعله مكسم حقيقي !
عندها رفعت يدها عن فمها ... واعتصرت اصابعه شريط اختبار الحمل .. وصرخت ... صرخت..
صرخت حتى كادت ان تتكسر المرايا حولها... ويقع السقف عليها ....
صرخت حتى جرحت حنجرتها وبات صراخها يخرج خافتاً كعويل حيوان مجروح ....
صرخت ...... ثم رفعت يدها الى أعلى ... ووقفت على رؤوس أصابعها ... ودارت حول نفسها راقصة ..... اخذت دموعها تنساب دون حساب على وجهها ... كأنها أنهار من نار...
لم تتوقف عن الدوران ... أخذت ترقص ذات الرقصة التي قضت أياماً طويلة تتدرب عليها لأجل عرضها المنفرد.... عرضها الذي لم ينجح بسبب زوجها....
صاحت بنفسها وقد شعرت انها ستسقط....
-ارقصي... ارقصي
أطاع جسدها صوتها المجروح الباكي.... وواصلت الرقص ..!
.........................................
كان جسدها يتمدد على أرض الصالة الباردة بعدما هدها التعب من الرقص... لم تدري لكم من الوقت رقصت ولا كم من الدموع ذرفت ..
لكنها تعلم بأن سؤالاً واحداً كان ينهش تفكيرها:
"لماذا؟"
من خلف الواجهة الزجاجية اطل مكتب مكسم... وقد تناثرت عليه بضع ملفات ... قطبت وهي تتذكر الورقة الصفراء... والدته وما فعلته به....
والدته راقصة الباليه !
نهضت من مكانها جالسة وما زالت يدها تتعلق بشريط اختبار الحمل.... قطبت جبينها وهي تشعر بملوحة الدموع التي غطت وجهها ....
هل هذا هو السبب؟.... والدته؟
مسحت خدها بيدها وهي تستوعب ...!
حين حدثها عن والدتها... عن علاقاتها السريعة.. عن اهمالها له ... وعن الصحافة ... لم تربط أبداً بين مهنتها وبين ما وصلت اليه !.... لقد كانت راقصة مشهورة ومحبوبة ومهنتها تطلبت منها التنقل كثيراً والتعرف على اشخاص كثر وهذا قد ادى بالتالي الى اهماله وانخراطها في حياة الشهرة !........
همست بألم وهي تدرك حجم الفاجعة:
-يا إلهي !
كيف لم تدرك بأنها تحمل مهنة المرأة التي آذته؟
كيف لم يخطر ببالها ما يعني ان تكون راقصة باليه بالنسبة لرجل حطمته راقصة باليه ؟
كيف لم تفهم كل تلك المرات التي تشبث بها مكسم في الليل وهو ينام الى جانبها وهمس لها بتوسل: "لا تتركيني مايا"....
نظرت الى شريط اختبار الحمل بعيون فارغة وكأن ما ربط خيوطه الآن جمّد كل شيء فيها.....
تساءلت بصوت مرتجف:
-ماذا سأفعل؟
المرايا، المكتب، كيس الملاكة وشريط اختبار الحمل....... كلهم لم يجيبوا سؤالها الذي بقي معلقاً بين قلبها المكسور من فعلته وقلبها المكسور على ما عاناه.
.................................................. ............
دخل مكسم الى البيت فوجده على غير العادة معتماً.... من المفترض ان تكون مايا في البيت الآن وهي تحب ان تنير الغرف حتى ان لم تكن جالسة فيها..... قطب حاجبيه ونادى:
-مايا
لكن لم يكن هناك جواب
صعد درجات السلم المؤدي الى غرفة نومهما...... كان الضوء القادم منها يخبره بأن مايا هنا... تنفس براحة ..
ودخل الغرفة مبتسماً.... لكن ابتسامته اختفت وهو يراها تجلس على ذراع الصوفا الوردية التي اصرت ان تشتريها وتمد ساقيها على ظهرها في جلسة غريبة بينما فستانها الأسود القصير يحيط بساقيها حتى الركبتين ...
كانت تعطيه ظهرها بينما ورأسها يميل ناحية كتفها في تفكير عميق....
منظرها ككل رغم كل جاذبيته كان غير مريح.. خصوصاً وان جلستها الغريبة تلك قد تؤدي الى سقوطها
قال بقلق:
-مايا حبيبتي؟
التفتت ... ونظرت اليه.. مباشرة في عينيه... نظرة جعلته يتراجع خطوة الى الوراء وكأنها اصابته برصاصة
لم تكن نظرة غضب، ولا نظرة كره..... كانت نظرة خيبة وعتب.... نظرة انكسار ووجع صفعته في قلبه
همس بصوت متحشرج:
-مايا؟
تدلت ساقيها عن الصوفا ونزلت عنها ......استقامت واقفة..
قالت مباشرة:
-كان بإمكانك أن تطلب مني أن أتوقف عن الرقص ..... لم يكن عليك ان تطعنني من الخلف
سقطت حقيبة أوراقه والصدمة المليئة بالعار تغطي ملامح وجهه:
-ماذا !
ابتلعت ريقها محاولة منع غصة خنقتها:
-لقد عرفت ان لاري هايتس من اشترى تذاكر العرض.......
اغرورقت عيناها بالدموع:
-لماذا مكسم؟
رغم ان كل ما فيه كان يصرخ به ليتقدم نحوها.. مقبلاً يدها.. طالباً صفحها .. عله يمحي نظرة الانكسار التي تغلف عينيها ... لكنه ظل واقفاً مكانه... شاعراً بأن الوحش القابع في الظلام داخله .. قد تسلط عليه الضوء فجأة .. وتعرى من كل الاقنعة ... وظهر بكل بشاعته أمام أكثر انسانة حاول جهده ان لا يظهره لها مع انها الوحيدة التي كانت تستفزه ...
نظر اليها عاجزاً عن الكذب او الهرب او التوسل
قال بخفوت:
-لقد خفت ان تتركيني.. كما..
صمت .. فأكملت هي عنه:
-كما فعلت والدتك !
شعر بأن أحدهم قد سدد له ركلة في بطنه....... اذ يبدو ان مايا قد ربطت الخيوط بكل سهولة
همست بصوت يشبه النحيب:
-انا آسف...
تقدم خطوة وامتدت يده نحوها كأنه يستجديها العطف:
-أقسم أنني يوم رأيتكِ منهارة عاهدت نفسي ان لا أتدخل وألا أحاول منعكِ
تلونت ملامحها بالألم ولم تستطع كتم دموعها أكثر
قالت بصوت متقطع:
-لو أنك اخبرتني.. كنت سأترك كل شيء لأجلك
رمش وقد انعكس وجعها على ملامحه:
-لقد أخبرتني أنكِ ستختارين الرقص دوماً
اتسعت عيناها وهي تخمن من قال له هذا لكنها مع هذا سألت:
-من؟
همس بصوت مرتجف:
-ناتاشا
اغمضت عيناها:
-يا الهي...
ثم فتحتهما وهمست:
-أنا أحبك مكسم... وليس هناك من شيء أهم منك
شعر بكلمة الحب مثل سهم يخترق قلبه.... لماذا تقول له بأنها تحبه وقد اكتشفت ما فعله بها... لماذا عليها ان تشع رقة وتسامحاً... لماذا عليها ان تقف أمامه بكل ملائكيتها ورحمتها فتعكس وحشيته وحقارته
همس من أعماق قلبه:
-أنا آسف.. اسف مايا
اجابته بعيون دامعة:
-وأنا كذلك آسفة لأنها فعلت بك كل هذا
تشوّهت جاذبية ملامحه بالقهر:
-لقد أوجعتني كثيراً... كثيراً
سال خط دموعها على خدها .. لكنها مدت يدها تمسح عن خده دموعاً لم تنزل لكنها شعرت بها تسيل في روحه:
-سوف نتجاوز الأمر
ما ان نطقت هذه الكلمة حتى احتضنها بين ذراعيه غير قادر على ابقاء يديه لنفسه.. كان عليه ان يشعر بها موجودة وحقيقية بكل النبل والمسامحة التي فيها وليست مجرد حلم يتخيل بأنه يعيشه ....
احاطته بقوة بذراعيه هي الأخرى ودفنت وجهها في عنقه.. وهمست:
-أنا أحبك مكسم....
تشبث بها أكثر.. وشعر بأن دموعاً حارقة تلفح عينيه ...
تمتم بخفوت بالعاً العبرة التي استحكمت حنجرته:
-وأنا أحبكِ مايا.. سأموت إذا خسرتكِ...
************************************************** ***************************************************** ***
كانت الياسمينة الشامية الذابلة تجلس الى جانبه بوجه محدق من شباك الطائرة بجزع وعينان مليئتان بالدموع........ راقب بمشاعر شاحبة ذبولها يوماً بعد آخر طيلة الفترة السابقة... ولكم حاول من كل قلبه ان يخرجها من دائرة الحزن الذي بدا وكأنها تفقد حواسها داخله... دون أن تدري أي حرب قاتلة يعيش مع نفسه لأجلها....
كان في حرب مع قلبه الذي يكاد في كل مرة يراها يشي بحبه لها
كان في حرب مع عينيه التي تدقق في أصغر تفاصيلها كلما مرت به أو جلست أمامه
كان في حرب مع كلماته التي يكاد ينفلت عقالها فتدلي بكل ما وعد نفسه ان لا يبوح به
كان في حرب مع أصابعه التي تتحرق للمسها
ابتلع ريقه وهو يفكر من جديد بسخرية القدر الذي وهبه الحب في كفة مقابلة لكرامته ... ووضعه أمام اختيار صعب بين قلبه العاشق وكرامته المهدورة......
مريم التي تجلس بجانبه الآن دون أن يبدو عليها انها تشعر بوجوده حتى .. أهدرت كرامته لمرتين
الأولى حين نكرته كأنه أقل من أن تعترف بوجوده....
والثانية حين خُطِبت لغيره ولم تكلف نفسها عناء التوضيح له حتى عندما فاتحها بموضوع الزواج....
كان بإمكانه بالتأكيد ان يسألها عن ذلك الخطيب المجهول... لكنه لم يكن يريد ان يظهر ضعفه أمامها.... لقد جرب ذلك مرة حين اعترف لها بحبه ثم رأى النتيجة...
تنهد.... ان مريم تجلس بجانبه.. زوجته.... لكنها ليست معه، ولا ملكه .......!
.................................................. ..........................
سرت رعشة على طول جسدها وهي تخطو الى داخل القصر الفخم الذي يسكن فيه آدم.
لم تكن تتخيل ان آدم غني الى هذه الدرجة... لقد رأت مستوى معيشته المتواضع ولهذا لم تتخيل أبداً ان تكون عائلته على هذا القدر من الثراء... حتى عندما أخبرها ان نفوذ والده حلّ اوراق سفرها واقامتها لم تتخيل ان يكون ذلك النفوذ بهذه القوة والسطوة التي يعكسها هذا القصر.. وأدركت بأنها لا تعرف شيئاً عن آدم ... وقد فات الاوان قليلاً لتدارك الأمر لأنها الان تقف أمام أفراد عائلته مجتمعين كأنها مقاتلة عزلاء أمام جيش مجهز بأحدث الأسلحة..
وسط غرفة الجلوس الباذخة الأناقة... جلس والد آدم، السيد جوزيف، على الأريكة بجانبه السيدة أنجل... كلاهما يرتديان ملابس رسمية كأنهما خارجان للعمل.... بدا والده قوياً بملامح جامدة لم تنتبه لها في المرة الوحيدة التي التقته.... عينان زرقاوان تفيضان ثلجاً جعلت الرعشة تزداد داخلها... بينما والدته كانت عربية الملامح بقوة ... لكن تعابير الثقة والسلطة تعلو وجهها وكأنها تعودت على القاء الأوامر....
بجانبهما جلست فتاة جميلة الملامح تشبه والدته كثيراً... خمنت بالتأكيد انها مايا..... جسدها النحيل كان مغطى بفستان بلون أزرق باهت يرتفع عن ركبتيها بقليل.... تلف ساقيها حول بعضها في جلسة ملكية انيقة
يمين الأريكة، على الكرسي المجاور جلس رجل يقارب عمر والد آدم.. ملامحه شقراء يغلفها الجد والهدوء بينما على الشمال جلس رجل آخر بذات الشقرة والعمر لكن ملامحه تبتسم بعبثية وعيناه تشعان بمكر لطيف واضعاً ساقاً فوق أخرى والغرور يشع من جلسته..
نظرتها التي مشطتهم بتوتر لم تدم سوى بضع ثواني اذ ان مايا قفزت من مكانها تصيح بفرح:
-آدم
ثم ركضت اليه وارتمت في حضنه .. شعرت مريم بالعطف وهي ترى تؤام زوجها تحضنه باكية .. بينما أحاط هو بها واخذ يهدهدها كما الأطفال راسماً بذلك صورة رائعة للأخ مما جعلها تتذكر أخاها فانتابتها غصة وجع مفاجئة....
نهض والد آدم من مكانه ترافقه زوجته ... الملامح الباردة غزاها دفئ ابتسامة ارتسمت على وجهه.. وهو يقول مرحباً:
-مارهابا بكِ بيننا مريم..
ابتسمت لعربيته المتكسرة والتي بالكاد تفهم وهزت رأسها...
أطلت من خلفه والدة آدم.. وفجأة عاد التوتر ينتابها لأنها تذكرت كيف نظرت اليها باتهام ذلك اليوم واخبرتها بأنها السبب ............ لكن السيدة أنجل اخذت منها كل توترها حين ابتسمت ابتسامة عريضة حنون وقالت بترحاب كبير:
-مرحباً بك صغيرتي.. لقد أشرق البيت بحضوركِ
ورغم انها تعجبت للترحاب اللطيف لكنها قدرته شاكرة فابتسمت ابتسامة كبيرة وهزت رأسها
ثم جاء دور مايا التي اخيراً تركت اخاها ونظرت اليها قائلة بمحبة:
-أنتِ اذن الياسمينة الشامية..
ولم تسمح لها بأن تهز رأسها ايجاباً اذ عاجلتها بأن أخذها بين ذراعيها في عناق لطيف فاجئها ولم تعرف كيف تتصرف لوهلة... لكن الدفيء المنبعث من مايا جعلها ترفع يديها وتبادلها العناق بتردد.... بينما أخذ آدم نصيبه من العناق من والديه
من خلف الجميع سمعت صوتاً يتحدث باللغة الانجليزية التي لا تتقنها كثيراً خصوصاً باللكنة الأمريكية الصعبة .. ورغم انها لم تفهم شيئاً كثيراً لكنها احتست المرح في كلمات الرجل...
ضحك الجميع بخفة، نظر اليها آدم بعينين مشعتين جعلتها تدرك كم هو سعيد للعودة الى عائلته..... وقال:
-انه عمي ماتيو وهو يقول "أنجل أخرى تدخل البيت"
ابتسمت وهي تشعر بمعظم توترها يختفي فقط لنظرة السعادة والرضا في عينيه...
تقدم منها الرجل الذي كان يضع ساقاً فوق أخرى وهو ما يزال مبتسماً بعبثية وشقاوة لا تناسب عمره وصافحها وقال:
-إنتا هيلوا
اهتز كتفاها في ضحكة مبتهجة وهي تستمع لمحاولة عمه ماتيو للتحدث بالعربية..
تقدم الرجل الثاني فقدمه آدم:
-وهذا عمي كايل..
ابتسم الرجل جدي الملامح قائلاً بالإنجليزية:
-مرحباً عزيزتي
صافحته مبتسمة...
ثم فجأة جاء صوت انثوي يهتف من خلفها بالإنجليزية.. لكنها التقطت اسمها واسم ادم.. التفتت لتجد سيدة رائعة الجمال .. شقراء كأنها الشمس
قدمها آدم:
-عمتي تينا..
تقدمت عمته واخذت تنظر بحنان لمريم ثم عانقت آدم ..
شملتهما بنظرتها وقالت بالإنجليزية:
-مبارك لكما..
ارتبك وجه مريم... فتداركت خالته نفسها وهي تتذكر ظروفها:
-أوه.. يا إلهي... انا آسفة
هزت مريم رأسها بـ "لا عليكِ" ...
شعرت بيد تنبسط على ظهرها ومن الدفيء الذي سرى في جسدها علمت انها يد آدم...
تحدث بالإنجليزية قليلاً ثم التفت اليها:
-أخبرتهم بأنكِ تحتاجين الى الراحة... هيا لأريكِ غرفتك..
اهتزت حدقتيها ارتباكاً وهي تدرك بأنه قال "غرفتكِ" وليس "غرفتنا".... لكنها مع هذا هزت رأسها وخطت معه الى خارج الغرفة بعد ان ابتسمت للجميع ابتسامة مرتبكة...
وقعت عينها على والد آدم الذي قال لها بالإنجليزية بنبرة حنون:
-أهلاً بكِ في العائلة...
لم يكن من الصعب ان تفهم كلماته... فنظرت اليه بامتنان وتبعت خطوات آدم..
.................................................. .............
-هل أنتِ بخير؟
سألها آدم ما ان دخلا الغرفة الواسعة التي تشبه الجناح....
امسكت هاتفها وأرسلت اليه:
-"نعم، لقد كان استقبال عائلتكَ لطيفاً.. كنت أعتقد ان والداك غاضبين مني"
ابتسم لها:
-بالتأكيد هما ليسا كذلك.... أنتِ الآن جزء من عائلتنا.....
اقترب منها وامسك بيدها فارتجف قلبها وخطفها سحر قربه كما في كل مرة:
-أنا أعلم أن الأمر صعب مريم... لكنني سأكون الى جانبكِ دوماً... أنا وعائلتي...
رفعت وجهها اليه.. ودموع تلوح في خضرة عينيها.... لطفه اللامتناهي معها يمس قلبها بلطف لكنه كذلك يعذبها... هي لا ترى في عينيه شغفه القديم وحبه الصريح... هي ترى فقط شهامته ونبله ... وهي ليست بموقع يسمح لها بالمطالبة بأكثر من ذلك لأنها هي من كانت السبب في قتل ذلك الحب حتى وان كان الأمر خارج سيطرتها...
قال بحنان:
-لا تبكي يا مريم.. أرجوكِ....
حاولت قدر الامكان ان تحبس دموعها .. ثم تمكنت من رسم ابتسامة صغيرة وهي تحدق في عينيه...
رمش وترك يدها وقال:
-سأخرج وأترك لكِ بعض الخصوصية... هل أعجبتكِ الغرفة؟
هزت رأسها ايجاباً ثم أرسلت له:
-"نعم انها جميلة جداً .. شكراً..... متى ستعود؟"
أجابها بعد ان أجلى حنجرته:
-في الحقيقة أنا لا أعيش هنا.. أعيش في شقة مستقلة.. لكنني اعتقدت بأنكِ ستكونين أكثر راحة حين يكون هناك أشخاص حولكِ
صلت ان لا تكون ملامحها قد وشت بالخيبة التي اعترتها وهي تدرك بأنها ستبقى وحيدة هنا دونه .. ويبدو انه قرأ ما يدور داخلها فقال:
-لا تقلقي أنا سأتواجد دائماً هنا.. لكنني سأعود ليلاً الى شقتي
لم يستطع ان يقول لها بأنه كان بإمكانه ان يأخذ غرفة في البيت ويعيش فيها لكنه اكتفى من العذاب الذي يحدثه قربها خصوصاً حين يأتي الليل ثقيلاً ويشعر بأن الدقائق لا تمر فيه ويأخذ فكره بتعذيبه بتصويرها له نائمة على بعد أمتار منه دون ان يطالها...
اكتفت بهزة خفيفة من رأسها وابتسامة باهتة .. استدارت بعدها عنه وتظاهرت بأنها تتأمل الغرفة ..
تردد لثواني قبل ان ينسحب خارجاً...... اغلق الباب خلفه واستند عليه مغمضاً عينيه بإنهاك.....
تساءل كم من الصبر وضبط النفس سيحتاج بعد ليتمكن من سلخ نفسه عنها في كل مرة متجاهلاً حقيقة انها زوجته.... وحبيبته !
.................................................. ...........
في المساء، طرق جوزيف باب غرفة ابنه التي صارت غرفة مريم..
طوال النهار راقب ابنه يجلس متململاً في مكانه مثل قط يجلس على صفيح ساخن بينما كان نصف ذهنه شارداً حتى وهو يخوض حوارات طويلة مع أعمامه ووليد ومكسم...... وكم شعر بالأسف على ابنه الذي يعيش ما عاشه هو بطريقة مختلفة لكن نتيجتها واحدة وهي ان حبيبة القلب أبعد ما يكون عن القلب !
فتحت مريم الباب وقد غيرت ملابسها وبدت محمرة الوجنتين كأنها كانت غافية
تأسف لها بعربية متكسرة:
-آسف.. ساهيتك من نوم؟
جاء من خلفه صوت زوجته تقول:
-اه عزيزتي انها لغته المعوجة... انه يقصد "صحيتك"
ابتسمت مريم بينما قطب هو قائلا لزوجته بالإنجليزية:
-هل كان لا بد ان تتدخلي
رفعت حاجبها:
-لربما عليك ان تشكرني لأنني سوف أؤدي دور المترجم بدل ان تعاني البنت مع عربيتك المكسرة... وبهذه المناسبة علينا ان نجد استاذ انجليزي جيد يستطع ان يعلم مريم اللغة رغم وضعها
تأفف:
-حسناً حسناً... ترجمي بالحرف
أكدت له:
-وبكل مصداقية
ثم سألت مريم بالعربية:
-هل يمكننا ان ندخل صغيرتي، عمكِ يوسف يريد ان يحدثكِ في شيء ما وسأقوم بالترجمة
هزت مريم رأسها موافقة مفسحة الطريق لهما ليدخلا مستوعبة الاسم المعرّب الذي نادت به السيدة أنجل زوجها..... وابتسمت.. لقد أخبرها ادم ان والدته اسمها ملاك ولكن والده يناديها انجل وهو المعنى الانجليزي لاسمها مما جعل الجميع يناديها به.... ولكنه لم يقل لها بأنها هي الأخرى قد تلاعبت باسم والده وعرّبته فحولت جوزيف الى المعنى العربي "يوسف".......... داهمها شعور لطيف لمحاولة الاثنين ان يتداخلا في بعضهما ويضيفا نكهتهما على الآخر....
من مجرد النظر اليهما الان وهما يجلسان أمامها يمكنها ان ترى طاقة الحب التي تغلفهما.... كانا مناسبين تماماً لبعضهما كأنهما نصفين ينتميان الى كلٍ واحد
أخذ السيد جوزيف يتحدث ولم تستطع ان تفهم ما يقول .. لكن ملامح السيدة انجل فاضت فجأة بالحنان والمحبة .. وخيل لها بأنها ترى دموعاً تتلألأ في عينيها وهي تأخذ يد زوجها بين يديها وتشد عليها برقة...... حين انتهى.. نظر الى زوجته وتبادل معها ابتسامة مليئة بالعاطفة جعلت قلبها يرتعش جمالاً وأدركت ان ما حكاه آدم عن حب والديه الأسطوري حقيقي تماماً وإنها تشهده الآن
أخيراً كسرت السيدة انجل خيط التواصل بين نظراتها ونظرات زوجها.... والتفت اليها قائلة بصوت يشوبه الحنين والرقة:
-انه يقول لكِ "لقد جاءت انجل الى هذا البيت، تحمل نفس نظراتك المترددة... كانت مثلكِ قد فقدت كل شيء.... لم تعد تملك سواي.... وكنت أعرف بأنها تعتقد بأن العالم قد انتهى بالنسبة اليها، لكنني قاتلت لأجلها... وقاتلت هي الأخرى من أجلي... لا أقول بأنني أنسيتها ما خسرته .. لكنني منحتها أشياء أخرى منحتها القدرة لتعيش وتحب وتنتصر على الحرب..... وأنتِ ستكونين مثلها.... ونحن جميعاً هنا سنساعدكِ"
حين انهت السيدة انجل كلامها كان وجهها ووجه مريم مبللين بالدموع.....
أضافت السيدة أنجل:
-أنا أعرف بالضبط ما تشعرين به... لكنكِ ستدركين كما أدركت يوماً... أن الوطن ليس مساحة أرض فقط .. بل قد يكون شخصاً كذلك.... وان بإمكانك دوماً أن تكوني عائلتكِ الخاصة يكون أول أفرادها الحب.... !
************************************************** *********
************************************************** *********
دخلت مايا الى شقة مراد وهي تقول لأوركد:
-يا إلهي أوركد أخيراً وجدتكِ..
كشرت أوركد:
-أنا أعيش تقريباً في شقة عمي.. لقد عينني حارساً على خطيبته
سمعا من الداخل اصوات عالية فقطبت مايا متسائلة...
لوحت أوركد يدها في الهواء:
-اوه هذا لا شيء.. مجرد جدال عادي بين عمي وأمل... هو يصر انها خطيبته وهي تصر انها لم توافق
ورغم كل البؤس الذي يعتري مايا لكنها ابتسمت:
-اعتقد ان الطاووس اخيراً التقى بنده
ضحكت أوركد:
-وأي ندَ.. علي ان اقول لكِ بأنني أحب هذه الفتاة.. انها تدير عمي كما الخاتم في اصبعها رغم عدم اعترافه بالأمر
ثم سألت:
-كيف هي زوجة آدم؟
تنهدت مايا:
-تحمل عينان مذعورتان كأرنب صغير وقع في فخ... لكن أخي يبدو متعلقاً بها .. ان نظرة البلاهة تعتلي عينيه كلما حدق بها..... ستزوريننا وتعرفين قصدي
أكدت أوركد:
-في أقرب فرصة.. والآن تعالي لندخل وتحدثي بذاك الشيء الذي يجعلكِ كالأشباح
ابتسمت مايا من سرعة قراءة أوركد لملامحها رغم انها لم تظهر أي شيء مما يعتمل داخلها
تمتمت:
-حسناً
نبهتها أوركد:
-لربما يجب ان تعرفي.. أمل حليقة الشعر بسبب العملية... لا أريدكِ أن تتفاجئي بالأمر
أومأت مايا برأسها ورافقت صديقتها الى غرفة الجلوس...
هناك وجدت مراد يجلس عابس الوجه بجانب امرأة جميلة الملامح لكنها حليقة الشعر تذكرت ملامحها حين حضرت عرسها لكنها لم تركز فيها حينذاك...
حين رآها تدخل قال بتذمر:
-ها قد اكتملت العصابة..
كشرت مايا رغماً عنها:
-مرحباً أيها الطاووس
سمعت أمل تضحك وتعلق:
-لقد أحببت هذه الفتاة
التفت مايا اليها مبتسمة وتقدمت نحوها مصافحة اياها:
-مرحبا أمل .. لقد تقابلنا سابقاً لكنني كنت مشغولة قليلاً فلم نتحدث
ابتسمت أمل:
-اه اجل بالطبع .. لقد كان عرسكِ.... كيف حالكِ؟
-بخير شكراً... يسعدني أنكِ بخير.. أعتذر لم أزرك سابقاً..
اتسعت ابتسامتها:
-لا بأس... يسعدني أننا التقينا خصوصاً بعد فقرة "الطاووس"
ضحكت مايا:
-لقد سمعت بأنكِ نتفتِ ريش الطاووس
اعترض مراد متأففاً:
-لقد نتفت شعر رأسي كذلك
رمقته امل بنظرة غير راضية:
-وما ذنبي ان كنت رجل ماجن..
رفعت مايا حاجبيها باستغراب:
-ما الذي فعله لأجل ذلك؟
شرحت أمل باحتجاج:
-كل يوم يأتي ويطلب مني ان ينام في الشقة على الأريكة ليحرسني.. كأنني طفلة... لم يكفيه انه أصر ان يستضيفني في شقته
دافع مراد عن نفسه:
-هل صرتُ مذنباً لمحاولتي الاعتناء بها؟
عادت أمل ترمقه بشك:
-كم انت حسن النية
امسكت أوركد يد صديقتها:
-حسناً سيطول الأمر بينكما كما يبدو.... سآخذ مايا الى الداخل لنتحدث حول شيء ما بينما تنهيان جدالكما..
وتركتهما خلفها وهي تسحب معها صديقتها...
جلست أوركد على السرير في غرفتها في بيت عمها:
-والآن... ما الأمر.....
كانت ملامح أوركد تتحول الى الغضب الصرف مع كل كلمة تنطقها مايا.... حين انتهت من سرد حكايتها نهض أوركد هاتفة بغضب:
-سوف أذهب لأخبر أبي وأبيكِ وسأستمتع بوجه مكسم وقد شوهته قبضات رجال عائلتينا
لكن مايا امسكت بيد أوركد موقفة اياها بعيون دامعة:
-أنا أفهم اسبابه أوركد
نظرت اوركد لوجه صديقتها بعدم تصديق:
-تفهمين أسبابه؟ لقد حاول تحطيم مهنتكِ
رمشت وقالت بضعف:
-لقد كان يحاول حماية نفسه من ان يعيد التاريخ نفسه... انه مجرد رجل خائف
تهاوت أوركد على السرير غير مقتنعة بكلام صديقتها لكنها مع هذا لا تعرف ابعاد الموقف كما تعرفه مايا:
-ماذا ستفعلين؟
رفعت مايا كتفيها:
-لقد قررت أن أقف الى جانبه...
سألتها أوركد بنبرة غير راضية:
-هل أنتِ متأكدة؟
أومأت برأسها موافقة:
-مكسم مريض بالماضي.. ولأنني احبه.. علي ان اساعده ليتخطاه
تنهدت أوركد وتمنت ان تستطيع قول شيء يثني العزيمة العنيدة التي تلوح في وجه صديقتها
قالت بعجز:
-لن أستطيع تغيير رأيك أليس كذلك؟
هزت رأسها نافية ثم قالت بهدوء:
-هناك شيء آخر
خفق قلب أوركد بتوقع سيء:
-ما هو؟
قالت مايا بصوت باهت:
-أنا حامل.. ولكنني حددت موعداً لإجهاض الطفل غداً !

.
.
قراءة ممتعة..
يتبع...

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now