الفصل الثاني والعشرون

1.1K 59 2
                                    

الإيحاء الثاني والعشرون: كتاب الحب *

*الأغنية لـ (كاظم الساهر)

-وآه لو تعلمين .. بأنكِ الى هذا القلب تنتمين
-رايان الترك

راقب مراد بوجه مبتسم ذاهل يداه ترتجفان مجارية خفقات قلبه السريعة دون ان يستطيع السيطرة عليهما.... كانت الفرحة تمر في جسده عبر رعشات خفيفة تهز منابت أعصابه... وهو يستوعب حقيقة ان أمل خرجت من العملية سليمة وان عينة من الورم الذي أصابها قد ذهبت الى المختبر ليتم تحليلها والتي على اساس نتائجها سوف يتم اتخاذ القرار بشأن ما بعد العملية..... لكن كل هذا لم يكن مهماً... ها هو يجلس الى جانبها وقد عادت تغفو بعد ان افاقت لبعض الوقت بما يكفي ليطمئن عليها...
همس وعيناه مسلطتان على اصابعه المرتجفة:
-شكراً لك يا رب
رفع وجهه ليطالع وجه أمل ورأسها الملتف بضماد العملية، ثم رفعه الى الأعلى نحو السماء واتسعت ابتسامته بينما بللت دموع الامتنان اجفانه دون ان تتجاوزها...
ثم كرر هامساً:
-شكراً لك يا رب...
عناها من كل قلبه المتيم بحب هذه المقاتلة الصغيرة ... ومن كل خلية ضجت خوفاً ثم راحة ... ومن كل عصب توتر ثم ارتجف بسعادة.. ومن كل نبضة توقفت ثم ضربت بعنف داخل صدره حين قال وليد الجملة التي انقذت حياته "لقد عادت الينا أمل"...
تغير تنفسها المنتظم.. فأسرع يخفض رأسها مطالعاً اياها بلهفة وهي ترمش بعينيها مستعيدة وعيها مرة أخرى... لكن هذه المرة حين فتحتهما... وظهرت زرقتهما الجميلة ... لم يدم تشوشهما الا لثواني بعدها اخذ الادراك مكان التشوش... وطالعته وقد تعرفت على ملامحه التي يبدو انها اخذت تراها بوضوح..... عندها فقط شقت ابتسامة ضعيفة شفتيها...
همست بخفوت:
-مرحباً
جرع نسبة كبيرة من الهواء اذ ان مشاعره كادت تخنقه وحاول بقدر الامكان ان يكون هادئاً وهو يطل عليها مبتسماً:
-مرحباً حبيبتي
اتسعت ابتسامتها وتأوهت برضا وكأنها احبت وقع الكلمة...
فأقترب من اذنها مراعياً ان لا يمس الضماد وهمس بحروف متقطعة:
-ح ب ي ب ت ي.... أنتِ حبيبتي
صوتها الضعيف الخافت قال بسخرية محببة:
-لم أمت بسبب ورم في الدماغ... سأموت بسكتة قلبية
رفع رأسه ونظر اليها مقطب الحاجبين:
-هل هذا اقصى ما لديكِ من رومانسية؟
ضحكت.. وتحولت ضحكتها الى تأوه حين تحركت..
فاقترب منها ممسكاً بذراعها برقة:
-هل انتِ بخير؟ هل أستدعي الطبيب؟
-انا بخير تماماً.... ما دمت هنا
.................................................. ..........
بعد ساعة كانت غرفة امل تمتلئ بزوارها.. ورغم انها لم تكن بكامل وعيها المعتاد لكنها كانت سعيدة جداً لتجدهم حولها.... وما عدا روابط الصداقة القديمة بين عائلتها وعائلة الخالة سارة فكل الباقين لم يكونوا سوى أشخاص عرفتهم حديثاً ولبضع الوقت... ومع هذا فها هم يقفون الى جانبها... يحيطون بها برعاية وحب.. بينما عبقت زوايا غرفتها بباقات الورود ... اما مراد فقد كان ممسكاً بيدها طوال الوقت وكأنه يرفض ان يتركها للحظة.....
تعلم تماماً انه مثلها مرَّ بأقسى اختبار له في الحياة... هو الرجل المدلل العاشق للحياة صافح الموت مرتين بسببها... المرة الأولى حين هرّبها وضحى بنفسه لأجلها.. والثانية حين أرسلها الى غرفة العمليات مع مصير مجهول.....
اشتدت اصابعها حول كفه فقطع حديثه مع اخيه ونظر اليها ثم فاض وجهه الجذاب بابتسامة حلوة وضغط بلطف على يدها ...
كان صخر في تلك الأثناء يراقبهما بقلب مبتهج وقد اطمأن اخيراً الى ان اخاه قد وجد المعجزة التي تكسر قناعاته السابقة وتصنع منه انساناً جديداً....
التفت نحو زنبق التي كانت تراقب الوضع هي الأخرى وتبادل معها نظرات سعيدة... ها قد انتهى عهد القلق حول مراد وقلبه..... لقد وجد مراد اخيراً انتمائه ...
**********************************
جرّت أوركد حقيبتها خلفها بنزق تاركة رايان خلفها يهتف:
-توقفي قليلاً أور
لكنها لم تستمع اليه اذ اجابته دون ان تتوقف:
-علي ان اكون بجانب عمي مراد.. لا أصدق أن أحداً لم يخبرني
قالت الشطر الأخير من جملتها بحنق وهي لا تصدق بأن عمها لم يخبرها بأنه اعترف لأمل بحبه ولا بعملتيها... كان من المفترض ان تكون الى جانبه وتسنده في هذا الوقت العصيب الذي لا بد انه مرَّ كما الجحيم بالنسبة له.....
تأففت وهي تعدل حزام حقيبتها على كتفها وتسرع أكثر في مشيها...
اتسعت خطوات رايان لتجاريها .. وحين وصل اليها قال:
-من أين أتيتِ بهذه السرعة.. هل تركبين محرك سيارة سباق في قدميكِ؟
رغماً عنها ضحكت لدعابته:
-هذا ليس وقتك
-توقفي عن التصرف وكأنكِ ستلحقين بالعملية... لقد انتهت العملية منذ يومين للعلم فقط.. وحبيبة عمكِ بخير الآن... لقد فوّت فعلياً كل الأكشن
ضربت أوركد قدمها بالأرض وهي تمشي:
-أرأيت؟ لقد أقصاني عمي عن حياته...
قطّبت:
-بالطبع صار لديه الآن حبيبة ولن يهتم بإخباري بالتفاصيل
ضحك رايان:
-لقد بدأ فصل الغيرة من الآن ... هل لديكِ ميول شريرة لتطفيش الحبيبة؟
رمقته بنظرة جانبية:
-بالطبع لا... عمي مراد يحبها وهذا بحد ذاته انجاز...
حالما خرجا من المطار توقفا عن الثرثرة .... تسمّرت أوركد أمام عيني رايان وهي تجد نفسها مقابلة لعلي.....
خفق قلبها... لكن تلك النبضات المتسارعة لم تكن مرافقة لسعادة مدوية تنتابها كلما كانت تقابله...... تدفق احساسها بالخيبة والجرح كسيل لا يوقفه شيء.....
ها هو علي يقف أمامها معافى بشكل كامل.. جذاب رغم كل انانيته... يحدق فيها كما لو انها المرأة الوحيدة على هذا الكوكب... وتخيلت كيف كانت ستذوب حباً إذا ما شاهدت هذه النظرة من قبل تعتلي ملامحه..... لكنها اليوم ليست روري العاشقة الصغيرة للرجل الذي تغفر له كل شيء بتسامح الحب وسماحته.... انها أوركد السالم، الفتاة التي أدركت انها ليست سوى بيدق يمكن التضحية به لحماية الملك عندما يحتدم الصراع على رقعة الشطرنج... وهذا غلف مشاعرها بالمرارة... فصارت تشبه طعم المربى الفاسد... الذي تختلط حلاوة طبيعته بمرارة انتهاء صلاحيته .......
شعرت برايان يتنحى خطوة الى الوراء... لا تجعله قريباً جداً فيصير كالدخيل ولا تقصيه بعيداً فلا يستطيع التدخل ان تطلب الأمر......تبسمت داخلياً وهي تقرأ حركته الرجولية....
رفعت وجهه الى علي .. طالعته بنظرات حاولت جعلها ثابتة قدر الإمكان.. ولم تتفوه بكلمة... ليس لأن الكلمات قد نفذت بل لأنها كانت تحاول لملمة نفسها لتضبط ايقاع أفكارها المتضاربة بين شوق لحبيب طفولتها وغضب لغدره بها
تجهم وجه علي حين رأى رايان.. فأشار اليه وقال:
-ما الذي يفعله هذا معك؟
شعرت برايان يتململ في مكانه وكاد ان يتحرك لولا انها التفتت اليه وتوسلته بنظرتها ان يترك الأمر لها... فرمق علي بغضب صامت وبقي في مكانه مكتفاً ذراعيه أمام صدره
عادت تلتفت نحو علي...
-ما الذي تفعله انت هنا؟
اجابها دون ان يختفي تجهم وجهه:
-لقد اخبرتني الخالة زنبق انكِ مسافرة واليوم ستعودين..
قطبت بغضب:
-ألم يكن عمي واضحاً في عدم تواصلك مع عائلتي؟
اختفى التجهم،، وظهر الذنب جلياً على وجهه واقترب خطوة جعلتها ترغب في التراجع لكنها لم ترد ان تبدو ضعيفة أمامه:
-أرجوكِ روري.. دعينا نتحدث...
وعندما بدا الرفض جلياً على وجهها اضاف بسرعة متوسلاً
-لأجل عشرتنا الطويلة
شعرت بسكين الغدر تتلوى داخل قلبها حين ذكر عشرتهما....
ارتسمت ابتسامة مريرة على وجهها وقالت بتهكم:
-عشرتنا التي لم تمنعكَ عن الكذب عليَّ واستغلالي لصالح منفعتك؟...... لا شكراً.. لا أريد
ثم التفتت نحو رايان وقالت:
-هيا بنا
ثم تجاوزته وفي ظرف ثواني كان رايان يمشي بجانبها وأنفاسه المتسارعة تنم عن غضب يحاول كتمه.. وكم امتنت له لأنه لم يتدخل فهي لم تكن تريد للأمر ان يكبر....
صوت علي هتف من خلفها:
-اذا لم تسمحي لي بالتحدث اليكِ .. سأعود الى العراق
توقفت فور سماعها جملته...
استدارت اليه وقالت بسخرية رافعة حاجبها:
-أتحداكَ أن تفعلها...... أنا لا أصدقك يا علي.. وانت نفسك لا تصدق نفسك... اذ أنك كنت مستعداً للتضحية بي في سبيل البقاء هنا........
ارتدت نظارته الشمسية المعتمة لتخفي الألم في عينيها وقالت:
-اذهب وابحث عن زوجة غيري... لقد انتهى زمننا!
.................................................. ............................

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now