الفصل الرابع

1.1K 62 3
                                    


-قبل ان نبدأ تذكروا.... الحب هو ضوء الصدق الوحيد في عتمة أكاذيب الإيحاءات .... اننا دائما سائرون في العتمة تابعون للضوء .. !

..

الإيحاء الرابع: من أنت؟*

*الأغنية لـ (ففث هارموني)

"أنا المنتمية الى قلبك اللامنتمي..."
-أوركد السالم

كانت تتمشى في شوارع تل أبيب مساءاً وهي تفكر بأن اجتماعها كان مثمراً... منذ قليل خرجت من المقهى الذي اجتمع فيه عدد من شباب المدينة العرب المشتركين في جمعية "تغيير" التي تسعى لإحداث تغييرات في واقع الشباب العربي في فلسطين عموماً وفي الأراضي المحتلة خصوصاً..... ابعدت خصلة شعر عن وجهها ونفخت الهواء من فمها بحركة تأفف وهي ترى بضع شباب يحملون علب كحول معدنية ويتضاحكون.. لم يلتفت احدهم اليها ذلك ان شكلها الغير عربي لا يلفت احداً في هذه المدينة كما انها لم تكن ترتدي زيها الفلسطيني بل جينز عادي وبلوزة خفيفة يعلوها سترة قطنية ... فكرت ان عليها ان تستقل سيارة اجرة لتعود الى البيت .. لكنها لم تنفذ فكرتها.. اذ واصلت قدماها التحرك الى الأمام.... لم تكن في مزاج للعودة الى البيت لأنها لا تريد ان تبقى وحيدة.... كم تمنت لو انها قبلت دعوة صديقتها في الجمعية، سهى لإستضافتها في بيتها.... لكنها عادت وفكرت بأنها فعلت خيراً حين رفضت الدعوة لأنها تعلم أن سهى لم تدعها الا إكراماً لعيني اخيها المعجب بشكل واضح بها.... وهي لا تريد ان تغذي اعجاب "رائد" رغم كونه رجلاً لطيفاً ويحمل حساً وطنياً عالياً...... مع هذا لم تكن تشعر بشيء تجاهه..... فرغم كل ما يعانيه والدها بسبب الحب...لم تكن لتطمح برجل يحبها أقل مما يحب والدها والدتها رحمها الله.......
لم تعي في غمرة أفكارها انها وصلت الى شارع رئيسي يقع فيه الملهى الليلي المشهور "ذا بلوك".... حين انتبهت اخيراً الى اين قادتها قدماها... رفعت عيناها الى السماء بإنزعاج.. وكادت ان تستدير عائدة لولا ان لفت انظارها رجل ضخم يعتدي على فتاة بالضرب.... كلاهما لم يبدوا عرباً.... وقفت للحظة حائرة فيما عليها ان تفعل... هل تعود ادراجها؟ هل تتدخل؟ .... نظرت حولها .. لم تتوقف سيارة واحدة للمساعدة ولم يمد عابر واحد يد المساعدة لتلك الفتاة التي كانت تضرب بشراسة من قبل هذا الضخم المتوحش..... وتساءلت في نفسها أي قباحة تلك التي يحملها البشر التي تسمح لهم بأن يمروا مرور الكرام على مشهد متوحش كهذا دون ان يتدخلوا لإيقافه..... وقبل ان تفكر كانت قد حزمت امرها واخذت تتقدم نحوهم بسرعة.... كان الدم يغلي في شرايينها... تصاعد غضبها... وشعرت بأنها على وشك ان ترتكب جرماً في حق هذا الرجل الشرس العديم الانسانية..... انحنت تلتقط حجراً من على الأرض وحالما وصلت على بعد بضعة امتار صاحت بأعلى صوتها بالعبرية:
-هاي أنت....
التفت كلا الشخصين نحوها... وقد أرعبها منظر الدماء التي تجري من وجه الفتاة المسكينة الذي تشوه تماماً.... لم تفكر عندها للحظة وهي تصوب الحجر على رأس الرجل هاتفة بأقصى ما لديها من غضب
-اتركها ايها الحقير...
ضرب الحجر رأس الرجل بقوة مما جعله يتراجع قليلاً وكان هذا كل ما احتاجته الفتاة لتهرب من بين ذراعيه وتركض بأقصى ما استطاعت من سرعة بعد ان القت عليها كلمة "شكراً" ضعيفة لكنها مليئة بالإمتنان...
شعرت أمل لحظتها بانها قد فعلت عين الصواب حين ساعدت الفتاة .... لكن فخرها بنفسها لم يستمر الا لثواني معدودة حيث راقبت الرجل الضخم يعود فيستقيم ممسكاً برأسه النازف ويثبت نظراته الشيطانية الغاضبة عليها هاتفاً:
-ايتها الساقطة
حالما رأته يقترب منها .. أطلقت ساقيها للريح ... لم تدري بأي اتجاه تركض ولم يكن يهمها... المهم ان تهرب من هذا الوحش البشري....... لم تكد تصل الى زاوية الشارع وقرب أضواء ملهى "ذا بلوك" المبهرجة واصوات موسيقاه الصاخبة حتى شعرت بيد كالكماشة تمسك بها..... شهقت بخوف وسرت في جسدها موجة رعب لا مثيل لها.. استدارت لتجد الرجل الضخم يشرف عليها وعينيه تنفثان شرراً .....
صاحت به:
-أتركني
لكنه بدل ان يفعل انهال عليها بصفعة جعلت رأسها يدور ... وسمعت صوته يرعد
-سأجعلك تدفعين الثمن أيتها الساقطة
شمت رائحة الكحول تخرج من بين كلماته التي يلقيها بغضب .. بينما شعرت فجأة بألم مخيف في بطنها .... ولم تدرك حتى تراجعت الى الخلف بأنه قد لكمها دون ان يفلت ذراعها...
كادت ان تسقط لولا انه جرها اليه مرة اخرى ليمسك برقبتها خانقاً اياها... فجأة بدأ العالم يسود أمام عينيها... ودون أدنى تردد امتدت يدها بحركة لا ارادية نحو حقيبتها تبحث عن سكين المطبخ الصغيرة التي حملتها في حقيبتها لتقطيع التفاحة التي اخذتها معها حين ذهبت الى المنتزه ..... حمدت الله داخلياً أنها نسيتها في الحقيبة..... عبثت اصابعها بيأس بين اغراض حقيبتها التي بدت وكأنها بئر لا قرار له بينما كانت تصيح بأعلى ما استطاعت وتركل بقدمها الرجل السكير الذي يحاول سحب الحياة من جسدها..... اخيراً وجدت السكين... امسكت بها بقوة واخرجتها من حقيبتها الصغيرة ... نظرت في عيني الرجل الشرير... وتهيأ لها بأنها ترى الشيطان... ودون تردد طعنته في بطنه..... وفي خلال ثواني.. ارتخت يداه عن رقبتها وترك ذراعها ليسقط جسده المخيف على الأرض والدماء تسيل من نقطة ما في بطنه.........
ارتجفت وهي تنقل نظرها بينه وبين السكين في يدها غير قادرة على استيعاب ما يحصل.... همست بهلع:
-يا الهي
جاءها في تلك اللحظة صوت مألوف قليلاً... شقَ غمامات دهشتها صائحاً.....
-ماذا فعلتِ يا مجنونة؟
التفتت اليه... وما بين وعيها ولا وعيها.... لمحت خصلة فضية.... انزلقت عينها الى وجهه ... ونظرت اليه بتشوش.. انها تعرف هذا الرجل لكنها الان لا تستطيع ان تتذكره... هي لا تستطيع ان تتذكر أي شيء في هذه اللحظة حتى وجه والدها.....
وجدت نفسها تهمس:
-لقد قتلته
وما ان خرجت الكلمة من بين شفتيها حتى وضعت يدها على فمها تكتم صيحتها المفجوعة كأنها ادركت فعلتها... وراحت تنظر اليه مرتجفة.... ثم شعرت فجأة ان قدماها لم تعودا قادرتين على حملها... فهوت الى الأرض تجلس بجانب الرجل الذي طعنته....
في تلك الاثناء انتبه احد رجال أمن الملهى لما يحصل في الزاوية البعيدة من الشارع فصاح:
-ما الذي يحصل؟
وتقدم راكضاً..... فلم تشعر الا ويدان قويتان تنهضانها من مكانها وصوت غاضب يتحدث اليها بالانجليزية:
-انهضي
لكنها لم تستطع ان تفعل...... فوجدت نفسها في لحظات محمولة بين ذراعين غريب تحاول ان تتذكره لكنها لا تستطيع..... عقلها المشوش التقط صيحة الغريب وهو يوقف سيارة اجرة ليدسها فيها وينضم اليها آمراً السائق بالانطلاق... اخر ما لمحته هيئة حارس الأمن وهو يحاول اللحاق بالسيارة قبل ان يسقط رأسها في حضن الغريب المألوف... لكن يدين لحوحتين رفعتاها وراح صوت نافذ الصبر يسألها:
-قولي للسائق اين يوصلكِ؟
وبطريقة آلية أملت للسائق العنوان بالعبرية.... ثم نظرت اليه وقالت منتحبة:
-لقد قتلته
هز رأسه نافياً:
-لا .. ما زال على قيد الحياة ... اصابتكِ لم تأتي في مكان قاتل
تمتمت بالشكر لله...عندها فقط ارتخت عنها اليدين وسمحت لها ان تسقط من جديد في حضنه ....
سمعت من بين تشوشات عقلها نصف الواعي بضع شتائم بالانجليزية وبالعربية .... لكنها لم تهتم .... كان جسدها يرتجف بشدة وعقلها لا يفكر... كل ما كانت تراه هو صورة الرجل ملقى على الأرض مضرجاً بدمائه ..... ثم فجأة ومن بين كل هذا الدم خرج وجه والدها..... يا إلهي.... والدها .... ما الذي سيحدث ان علم بالأمر...... شعرت بالدموع تغسل وجنتيها... هكذا فجأة ودون سابق انذار هطلت دموعها غزيرة واخذت تبكي بشدة.....
تأفف الغريب... وحاول ابعادها عن حضنه وهو يهتف غاضباً
-لا تشوهي ملابسي بدموعك الممزوجة بالكحل
لم تكن تريد ان تغادر هذا الحضن الذي بدا لها في تلك اللحظة ملاذها الوحيد...... همست بنصف تركيز:
-انا لا اضع كحلاً...
وواصلت البكاء دون ان تسمع كلمة اعتراض اخرى من الغريب الذي بقي يتأفف بنزق طوال الطريق......
وصلا بعد مدة الى الشارع الذي تقطن فيه ... رفعها عن حضنه وهو يقول بحنق:
-هيا لقد وصلنا ايتها المصيبة
تشبثت به وهي تنزل من سيارة الأجرة ...
حاولت ان توازن نفسها وتقف مستقيمة ... كان فكرها مشوشاً.... ووعيها غائباً تقريباً.... لكنها مع هذا حاولت ان تصمد..
همست:
-شكراً...
زفر بغضب وهو يقول:
-الحمد لله سأتخلص منكِ....
وركب سيارة الأجرة....
وما كادت تلتفت لتمشي خطوتين حتى فقدت توازنها من جديد لتسقط على ركبتيها... اختفى وجهها بين خصلات شعرها... واسندت كفيها الى الأرض وراحت تبكي.....
توقفت سيارة الأجرة التي لم تبتعد أكثر من بضعة امتار.. ونزل منها الرجل شاتماً بغضب:
-ما هذه المصيبة؟
سمعته يتقدم نحوها وينحني نحوها رفعت وجهها اليه وفي وسط الظلام وتحت ضوء الشارع الخافت كان وجهه غارقاً في السواد... عدا تلك الخصلة الفضية التي التمعت تحت خيط الضوء الرفيع .....
قالت بعدم تركيز:
-انا اسفة
رفعها عن الأرض وهو يقول بلهجة سوداء:
-وبماذا ينفعني أسفكِ ايتها المصيبة .... انهضي ولا تفضحينا في الشارع.... اين بيتكِ اللعين؟
نظرت حولها بتشوش للحظات واخيراً أشارت الى بيتِ على اليمين...
رفعها بين ذراعيه دون جهد يذكر وتقدم نحو البيت الذي اشارت اليه.....
حين وصلا الى العتبة أمرها بضيق:
-أخرجي المفتاح...
عبثت يدها في حقيبتها واخرجت المفتاح المعلق الى ميدالية على شكل خارطة فلسطين .... فتح الباب ودخل ليلقيها على أول أريكة يجدها امامه...
رفعت وجهها لتنظر اليه .... ثم فجأة دق ناقوسٌ في ذاكرتها... قطبت وهي تركز في ملامح وجهه المشرفة عليها من علو.... ثم اتسعت عيناها قليلاً.... وقالت بصوت مبعثر:
-أنت؟!
ثم اغمضت عينيها بإرهاق.......
......................................
وقف مراد يتأمل الفتاة التي هربت الى نومٍ أشبه بالغيبوبة بينما تدلت ذراعها عن الأريكة..... قطب وهو يشعر بالغضب من نفسه.... ما الذي جعله يتورط في هذا الأمر؟ ما هذه الشهامة التي انتابته؟..... ثم عنّف نفسه... بالتأكيد لم يكن سيرى امرأة تتعرض للإعتداء ويقف مكتوف اليدين حتى وان كانت هذه المرأة هي المستفزة الصغيرة التي شتمته بعبارة فظيعة.......
تساءل ترى ما الذي حدث ليصل الأمر بينها وبين ذلك الرجل الى هذا الحد؟ نظرة واحدة على جرح الرجل أدرك بأنه غير قاتل .... هذه هي فائدة ان يكون لدى العائلة طبيبين ماهرين مثل تينا ووليد اللذين يمطران الجميع بمعلومات طبية بمناسبة وبغيرها.............. عاد يتأمل الفتاة ... كانت ترتجف في نومها..... نظر حوله يبحث عن شيء ينفع ليكون غطاءاً.... فوجد سترة خفيفة كبيرة الحجم ملقاة بإهمال على المقعد... اخذها ووضعها فوق جسدها المتكور على نفسه..... لفت انتباهه مفتاح يتدلى من رقبتها معلق بسلسلة طويلة .... بدا شكله غريباً وكبير الحجم .. لا يشبه قطع المفاتيح التي تستخدم في الإكسسوار.... بدا مفتاحاً حقيقياً..... رفع حاجبه بإستغراب ولوى شفتيه .... ما هذه الفتاة الغريبة..... حسناً من الجيد انه سيتخلص منها بعد دقائق......
لكنه بدل ان يمشي خارجاً من البيت وجد نفسه يركع على الأرض أمام الأريكة ويتأملها..... في البداية لم يكن يراها جذابة... ورأيه لم يتغير الى الآن .... لكن شيئاً ما في سقوطها بين يديه ... وفي بكائها في حضنه جعله يشفق عليها قليلاً وتساءل اين هي عائلتها اذ يبدو البيت خالياً تماماً ...
نهض مؤنباً نفسه على فضوله... ماله وما لهذه المصيبة .... من الأفضل ان يغادر وان ينسى ما حدث الليلة ..... ليس لديه الوقت لمثل هذه التفاهات.... غداً لديه رحلة طويلة الى امريكا..... ولديه مواجهة كبرى مع صخر وزنبق بالتأكيد......
أخفض نظره ليتفحص قميصه الأبيض وحين وجده نظيفاً وقد جفت دموعها عنه ... تمتم:
-لا تضع كحلاً بالفعل ...
ألقى نظرة اخيرة على الفتاة ثم غادر المنزل.....
***************************


إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now