الفصل الثامن عشر

1K 61 6
                                    

الإيحاء الثامن عشر: الحب المستحيل*

*الأغنية لـ (كاظم الساهر)

-اخترتك وطناً.. وانتماء
-مريم خوري

انقلب علي على جنبه الأيسر غير قادر على النوم.... لم يعد يعرف كم يوماً مضى على قطع أوركد نفسها من جسده.. كأنها أخذت بذلك أحد أطرافه .... لو أن أحدهم قال له قبلاً أن أوركد ستسمح بأن يصيبه مكروه لكان ضحك مليء فمه كأنه يسمع نكتة... لكنه حين رآها تدير ظهرها له وتسمح لمراد بأن ينهال عليه ضرباً ويسبب له نزيفاً حاداً دخل على إثره المستشفى أدرك بأن مكانته قد نُسفت في قلبها.... هي التي كانت تخاف ان يصيبه خدش لئلا ينزف... تركته يواجه لكمات مراد الغاضب ويسبب له نزفاً داخلياً.....
اعتصر الوسادة التي كان يحتضنها بين ذراعيه..... ما الذي فعله بها؟ هي من بين كل الناس... صديقة طفولته... رفيقة صباه... شريكة جرائمه البريئة .... ثم حبيبته !....... كيف فعل بها هذا؟ وكيف كان أحمقاً الى درجة انه لم يدرك كم يحبها.......
الحب !..... انقلب على جنبه الأيمن..... وأخذت الكلمة تدور في عقله بإلحاح مؤلم..... هو لم يبحث عن الحب يوماً.... لأنه خطط منذ ان نضج ليتخلص من الحياة التي يعيشها.... أراد الحرية والانفتاح... اراد العيش وسط مجتمع لا يحكم عليه من طائفته او مهنته او انتمائه.... اراد علاقات لا يتدخل فيها القلب فتجلب الوجع.... اراد منفى يحتضنه بدل وطن يشرده ... اراد حياةً لا موت فيها......
وهو ما زال للآن يبحث عن كل هذا ..... لكنه حين يقارن كل ما طمح اليه بما اضطر ان يفعله بأوركد ليحققه ... يجد ان كل طموحاته لا تستحق نظرة خيبة واحدة من النظرات التي قتلته بها في آخر لقاء لهما......
أغمض عينيه... عصرهما بشدة... وتذكرها بثوبها الأصفر.... بأحمر شفاهها القاتل.... وبشعرها القصير الرائع..... لقد بدت له مثل وطنٍ آمن... ومثل الحياة ....... وشعر بأنه يراها للمرة الأولى .... وان قلبه يخفق بحماقة كبرى بوقع يتماشى مع وقع ضربات كعبها..... لقد كانت جميلة جداً..... ولم يدري بأن سكرات الموت قد تأتي بكل هذا الكم من الأصفر المثير ......... ثم قتلته .... ورحلت

لماذا فعل كل هذا؟..... هو نفسه لم يعد متأكداً من الجواب..... لماذا لم يخبرها بخطته؟... لماذا لم يطلب مساعدتها؟..... وكان متأكداً بأنها ستقبل... ما ان يضغط عليها قليلاً....... لماذا اختار ان يخدعها؟ .... أن يوهمها بالحب؟ ......
صفعه الجواب قادماً من أعمق نقطة داخله ...... كان قلبه طامعاً بها.... لأنه كان يحبها في لا وعيه قبل ان يعي ذلك..... لم يخبرها بالخطة لأنها لم تكن خطة .... لقد كانت حقيقة !..... حقيقة لربما كان يرفض ان يعترف بها لأن هذا يعني بأنه قد انهزم أمام الحب الذي لم يخطط يوماً ليكون جزءاً من حياته ...... ولهذا وجد في موضوع معرفة والديه حجة جيدة ليعيش حبها ويقنع نفسه بأنه مجرد خطة......
يا الهي ...! .... هل وصل به الخداع ليكذب حتى على نفسه؟ ..... ليحتال على مشاعره ويمارس مكره على قلبه؟....... وها هي النتيجة..... لقد خسر المرأة التي يحبها.... لم يخسر قلبها فقط.... لقد خسر احترامها.. وثقتها... وطفوليتها...... لقد خسر المرأة الوحيدة التي كان بطلها..... والتي قبلته كما هو رغم كل عيوبه.....
لقد خسر أوركد...
رمش.... وهو يستوعب الفكرة من جديد
لقد خسر أوركد....!
انتفض من مكانه يصيح:
-لا.....
مجرد كلمة واحدة... اخترقت ظلمة الغرفة الهادئة ... كانت بمثابة وعد بأن حكايتهما لن تنتهي عند هذه النقطة .... وأن علي السعدون.... لن يسمح بأن تنسلخ عنه أوركد بهذه الطريقة ... حتى لو كلفه ذلك كل طموحاته !.......
هو الرجل الذي لطالما أراد الوصول للقمة وحيداً.... لم يعد يمانع بعد تلك اللحظة بأن يهبط الى عمق الهاوية مع أوركد !
********************************************
كان آدم يلهث وقد نفذ الهواء من رئتيه بينما يركض بجنون نحو المعبر التركي ......
صاح بأعلى صوته:
-مريم....
كان يعرف بأن ما يفعله دون جدوى .... لأنها ان رحلت في الليل فهو لن يلحق.... لا بد انها وصلت منذ ساعات وعبرت الى سوريا...... وهذه الفكرة جلبت شعوراً يشبه طعنة خنجر الى قلبه ....
كيف استطاعت ان تتركه وتذهب؟ أما فكرت فيه؟.... هل هذه هي القتلة الثالثة التي تهديها له ؟....... ألم تكتفي بالمرتين السابقتين؟.....
وقف بعد انهكه الركض يتصبب عرقاً .. ورئتاه تكاد تتمزقان طلباً للهواء...... لكنه استجمع اخر ما فيهما من انفاس وصاح ثانية بيأس أكبر:
-مريم .....
هوى على الأرض حينما أدرك أخيراً أن أكبر هواجسه قد تحققت..... لقد ذهبت مريم.... فهل يتركها؟
قطب حاجبيه..... لا لن يفعل .. حتى وان كان يعلم بأنه ما ان يتخطى حدود سوريا حتى يصير في عداد الموتى.......
نهض من مكانه واستل جواز سفره واخذ يمشي نحو شرطة المعبر التركي.... سيدخل الى سوريا ... سيلحق بمريم..... قرر بحزم وقد نفذت منه كل خياراته .....
لكنه ما ان خطى للأمام... حتى لمحها تتقدم نحوه ماشية ببطيء كأنها تترنح..... نفض رأسه وقد ظن بأنه يتخيل..... لكن مريم لم تختفي من أمامه ....
ركض نحوها هاتفاً بلهفة مريضٍ وجد ترياق الحياة:
-مريم... مريم
كانت تنظر اليه بعيون مليئة بالدموع ... وما ان اقترب منها حتى ارتمت على صدره تبكي معانقة اياه باكية......
كانت تتمزق..... روحها الميتة انتفضت داخل جسدها.... لقد بقيت جالسة لساعات تنظر مخرج المعبر.... وكلما خطت الى الأمام لتسلم هويتها التركية...... قفز أمامها وجه آدم ..... كانت تعلم بأنها ان دخلت سوريا لن تراه من جديد... لا هي ستخرج منها ولا هو سيدخل اليها.......... ورغم الألم الذي ينهش كل شيء داخلها.... لم تستطع ان تتحمل ألم التفكير في عدم رؤيته جديد.......
من خلف ضباب حزنها ولوعتها كانت تشعر به حولها .... وفكرة ان تخسر ذراعيه المساندتين... ان تخسر صوته ودفئه ... ان تخسر حمايته وحبه ...... كانت تبدو مشابهة لوجع فقد اهلها..... لذلك بقيت هنا واقفة في منطقة الأعراف... لا تدري هل تعود اليه وتصير دون وطن ودون أهل.... أم تعود الى الوطن وتصير دونه ودون أهل ...!
ثم جاءها صوته يصيح باسمها ..... عندها أدركت بأنه لن تستطيع رغم كل شيء أن ترحل عنه .... لذلك ألقت نظرة اخيرة على المخرج ومن خلفه سوريا التي تقف شامخة وعابقة بالحنين...... وشعرت بأنها ستشم هوائها البعيد للمرة الأخيرة...... ثم استدارت تبحث عن آدم .... وما ان رأته أمامها حتى اعترتها راحة غريبة .... وكأنها وجدت بيتها أمامها.... فألقت نفسها بين ذراعيه باكية ....
آدم هو الشريان الوحيد الذي يربطها بقلب الحياة ..... وأحست حين ارتمت على صدره ... بأنها وصلت الى البيت أخيراً.... حتى ان كان بيتاً دون عائلة !
اعتصرها آدم بين ذراعيه غير مصدق بأنه قد وجدها وبأنها لم تتركه وترحل.....
اخذ يقبل شعرها وهو يهمس بصوت اجش:
-يا الهي .. شكراً... شكراً....
ثم امسك بوجهها بين يديه وابعده قليلاً ليسألها:
-هل أنتِ بخير؟
هزت رأسها بـ "نعم" .... فأبعد الغرة عن جبينها بكف يده وطبع قبلة على جبينها....
حين ابتعد كانت تحرك شفتيها قائلة شيئاً ما دون صوت ..
-أنا لا افهم مريم...
فنظرت اليه بعجز بعيون دامعة اخترقت قلبه وأدمته... ثم وجدها تقترب من خده وتطبع شفتيها عليها وتحركهما..... أدرك بأنها تحاول ان تقول له شيئاً.... فركز كامل اهتمامه على محاولة فهم حركة شفتيها على خديه متجنباً قدر المستطاع العاطفة المتدفقة التي سرت في جسده من حركتها تلك....
كانت شفتيها تتحركان مكونة الجملة التالية:
"لم أستطع تركك"
كانت العبارة أكبر من صبره.... فما كان منه الا ان عاد يأخذ وجهها بين يديه ويثبته دون ان يبعده عن وجهه الذي حركه ليأخذ شفتيها بين شفتيه في قبلة عنيفة.....
رمى على شفتيها حبه المكسور ... يأسه ... حزنه عليها.... وهلعه من فكرة رحيلها.....
بينما استقبلت هي شفتيه باكية ... تحاول مجاراته كأنها تشكو اليه بقبلتها ما لم تستطع ان تفعله بكلماتها التي لا صوت لها....
وقفا طويلاً هكذا.... قريبين جداً من الوطن الذي ودعته للمرة الأخيرة قبل لحظات... بعيدين جداً عن الراحة .... روحان معذبتان في جسدين عابقين بالموتى ....... يتبادلان قبلة حب تشبه كثيراً زهرة بيضاء نمت خطئاً، في صحراء مقفرة !
......................................................................................
.................................................. .........................
عندما أطمئن آدم بان مريم قد غفت في سريرها في بيت العم اسماعيل.... خرج من غرفتها مغلقاً الباب خلفه بهدوء...... كان قد اتخذ قراره وهو يأخذها بين ذراعيه على المعبر...... لن يسمح لها بأن تبتعد عنه ..... هي تحتاجه وليس لها أحد غيره .... كما انها لم تستطع تركه ... وهو ليس مستعداً لتركها أبداً.....
يمكنه أن يكذب على نفسه وان يقول بأن انسانيته هي السبب في قراره بعدم تركها... وان مبادئه تحتم عليه مساعدتها.... لكنه لن يفعل....... هو لن يتخلى عنها لأنه يحبها..... حتى وان تخلت هي عنه في السابق... حتى وان كان خاتم رجل آخر كان يستقر في اصبعها الى ما قبل ساعتين .....
حين جلست في سريرها وجدته يحدق في يدها باستمرار.... عندما نظرت الي يدها شاهد كيف اتسعت عيناها وكأنها قد نسيت تماماً أمر الخاتم... فما كان منها الا ان خلعته من اصبعها ورمته على المنضدة قرب السرير فلم يستطع ان يقاوم نفسه في سؤالها:
-أين هو؟
فأشارت بيدها بما يعني بأنه غير موجود..... كرامته كرجل لم تسمح له بان يسأل أكثر.... كان قلبه يتوجع... وودّ لو يصهر معدن ذلك الخاتم ويحوله الى سائل دون معالم ويسقيه للرجل الذي البسها اياه.....
كان ألف سؤال يدور في باله ... لكنه اختار اهم سؤال لينهي به الموضوع واشار الى الخاتم المرمي على المنضدة متسائلاً:
-هذا يعني بأنكِ لم تعودي مخطوبة؟
هزت رأسها نافية فشعر براحة عميقة ... ترك بعدها الموضوع وركز على جعلها تنام قليلاً.... وحالما غفت خرج وقد قرر ان يتخذ خطوة مهمة لكنه يحتاج الى رأي والده........
اتجه نحو الحديقة بعد ان طمأن العم اسماعيل وعائلته على حالة مريم...... نظر الى ساعته ليحسب الوقت في أمريكا..... فوجده مناسباً....
اتصل بوالده وبعد بضع رنات اجاب والده قائلاً:
-مرحباً بني
ابتسم لا ارادياً لصوت والده:
-أهلا أبي.... أريد ان اسألك شيئاً مهماً
استشعر والده جدية الموضوع:
-قل آدم.. انا استمع اليك
ابتلع ريقه وسأله:
-لماذا تزوجت أمي؟
صمت والده لثواني ثم أجاب بصدق:
-لأنني لم أملك خياراً آخر لإنقاذها في تلك اللحظة
عاد يسأل:
-وماذا ان ملكت خياراً آخر؟
اجاب والده دون تردد:
-كنت سأتجاهله وأختار ان اتزوجها
-لماذا؟
قال والده ببساطة:
-لأنني أحببتها ....
سأله:
-حتى مع رفضها لجنسيتك... لقد كانت تراك عدوها
ظهر خيط ابتسامة خفيف في نبرة والده:
-وكان عليّ أن أثبت العكس لها.... من قال ان الحب سهل؟
هنا حانت اللحظة التي كان عليه ان يقول فيها ما بجعبته:
-أبي.... أريد أن أتزوج مريم
ضحك والده:
-التاريخ يعيد نفسه..
لكنه استطرد سائلاً:
-لماذا تريد ان تتزوجها؟
تنهد:
-لأنها أصبحت وحيدة.. وجنسيتها السورية لن تسمح لي بمساعدتها الا بزواجي منها... لن يقبلها أي بلد الا كلاجئة غير شرعية وانا لن اسمح لها بالمخاطرة في البحر ثانية.... ولن أستطيع ان اخذها معي الى امريكا الا إذا كانت زوجتي....... أنا أريد حمايتها
عندها سأله والده:
-وماذا لو كان لديك خيار آخر؟
قطب مفكراً لثواني:
-سأتجاهله وأتزوجها
جاءه صوت والده مليئاً بالمحبة:
-أنت حقاً أبن أبيك .....
ثم قبل ان يجيبه قال والده:
-والدتك تريد ان تحدثك
جاءه صوت والدته قائلاً:
-حبيبي... هل أنت بخير؟
-أجل مام.. انا بخير..... لكنني أريد ان أخبركِ شيئاً ما
قاطعته:
-قبل ان تقوله... هل مريم بخير؟
ابتسم لقلب والدته الطيب... وقد نسيت غضبها على مريم لما فعلته به ... وما عادت تتذكر الا مأساتها
اجابها:
-لا أعتقد انها بخير مام... ولهذا انا أريد أستشيرك في شيء ما
ظهر القلق في صوت امه:
-ما الامر آدم؟ هل حدث شيء؟
اخذ نفساً عميقاً:
-أريد أن أتزوج مريم...
دون تردد وجد والدته تقول:
-مبارك حبيبي..... نحن ندعمك
تضخم قلبه بإحساس الحب تجاه والدته الرائعة ... توقع ان تسأل.. ان تعترض ربما للموقف السابق مع مريم..... لكن انسانية والدته كانت بالتأكيد أكبر من كل شيء... خصوصاً وهي تعلم بأنه واقع في غرام مريم
قال بحب شديد:
-شكراً مام
.................................................. ....................................
حين أنهت أنجل الاتصال بآدم كانت يدها ترتعش بقوة .... وتهاوت جالسة على المقعد ...
ظهر القلق على وجه جوزيف:
-أنجل هل أنتِ بخير؟
نظرت اليه بملامح خائفة:
-آدم يريد ان يتزوج مريم
هز رأسه قائلاً:
-ولقد باركتِ له قبل قليل.. فما الأمر؟
اغرورقت عيناها بالدموع:
-سيعيش آدم ما جعلتك تعيشه..... سيضطر ليتعامل مع اشباح مريم... ستوجعه كما اوجعتك....
ركع جوزيف على ركبتيه أمامها وامسك بيدها وقال مبتسماً:
-لا تستبقي الأحداث... ان وضعهما أسهل... هو ليس جندياً في جيش احتل بلدها.....
هزت أنجل رأسها غير موافقة:
-انها تتعذب بخساراتها... وستعذبه معها
ضغط جوزيف يد زوجته بيده وقال مطمئناً:
-آدم سيعرف كيف يمنحها انتصارات جديدة..... سيمنحها كل ما فقدته
نظرت اليه بحزن وتذكرت كل ما جعلته يمر به..... بيدها الثانية تحسست خطوط الزمن التي ترتسم على وجهه الحبيب:
-أنا آسفة لكل ما جعلتك تعيشه
اخذ يدها التي تسير فوق صفحة وجهه وقبل باطنها:
-لكنني غير آسف.... لقد كنتِ تستحقين ان أعيش من أجلك أكثر من ذلك بكثير....
قبل كفها مرة أخرى:
-دعي آدم يخوض تجربته ويدافع عن حبه كما فعلت انا......
ابتسمت دون تختفي معالم القلق على وجهها:
-كل ما أستطيع فعله هو أن أصلي لأجله وأدعمه في كل ما يقرره
اتسعت ابتسامة جوزيف:
-هذه هي زوجتي الرائعة
************************************************** ***
صعدت مايا الدرج ببطيء وبين اصابعها تعلقت الورقة الصفراء..... وعلى باب غرفة نومها وقفت تراقب للحظات مكسم وقد نزع عنه قميصه واخذ يتحرك في الغرفة عاري الصدر... وقد فتح حقيبتها واخذ ينقل أثوابها الى الخزانة .......
ذاب قلبها لمنظره دون ان تستطيع ان تتحكم بالحب الغامر الذي يعتريها نحوه..... اهتمامه بأن لا يرهقها لدرجة ان يرتب اغراضها بدلاً عنها وقبل ان يرتب اغراضه حتى .. مسّ عاطفتها بشدة...... لكن الورقة التي تمسك بها تحرقها كأنها تمسك جمرة مشتعلة .....
استجمعت نفسها ونادته:
-مكسم
التفت اليها مبتسماً وهو يحمل ثوبها بيد وعلاقة الملابس بيد اخرى....
لكن ابتسامته اختفت حين لاحظ ملامحها المتوترة ..... ثم لمح الورقة التي تحملها وما هي الا ثواني حتى ارتبكت ملامح وجهه بشدة وسقط الثوب والعلاقة من كلتا يديه .... ونظر اليها بقلق وكأنه أدرك أنها عرفت بسره....
همس:
-مايا.. انا
سألته دون مراوغة:
-لماذا كذبت عليّ يا مكسم؟
راقبت تفاحة ادم تتحرك في رقبته من الاعلى الى الأسفل.... تقدم خطوة منها لكنها لم تتحرك من مكانها
-أنا لم أكن اكذب..... هي حية على الورق فقط... أما بالنسبة لي .. فقد ماتت منذ زمن بعيد
شهقت وقد أرعبها البرود في صوته وذلك الحقد الذي يتحدث به عن امرأة من المفترض ان تكون والدته
سألته بصوت مرتجف:
-كيف تقول هذا؟ ..
اخذ نفساً عميقاً:
-لأنها الحقيقة.... ناتاشا لا تستحق ان تكون أماً.....
هزت مايا رأسها رافضة.. وقد صدمتها قسوة زوجها الطيب القلب
-ما الذي حدث لتصل الى هذه المرحلة؟
رأته يخفض رأسه لكن ليس قبل ان تلمح العذاب الصرف الذي ارتسم عليه وصفع روحها بشدة
-لا اعتقد بأنكِ تريدين ان تعرفي ما حدث
شعرت بأن الأمر أكبر مما كانت تعتقد... هذا الألم في صوته لا ينبأ الى بشيء سيء على وشك ان تعرفه......
خطت الى الداخل ووقفت أمامه مباشرة وقالت:
-بل أريد أن أعرف مكسم...
تنهد واتجه نحو السرير ليجلس على حافته.... تشابكت اصابعه وكأنه يمنع بذلك يده من الارتجاف
-لقد أحببت والدتي كثيراً....... كانت ملاكاً جميلاً..... وكنت مبهوراً بها.... كانت حنونة .. وطيبة ... وتأتي كل ليلة لتنام في سريري... تحتضنني وتداعب شعري وتسرد لي قصة بعد قصة حتى أغفو.....
ارتعش صوته:
-لقد كنت متعلقاً بها لأنني لم أملك أحداً غيرها في العالم..... و...
أجلى حنجرته عندما اختنق صوته:
-وقد أحببتها... لقد كانت اماً مثالية ....
رفع بصره نحوها وقد لاح لها لمعة دمعة خفية في عينيه مما جعل قلبها يسقط خوفاً لأنها استشعرت بأن القادم سيكون سيئاً جداً....
أكمل بصوت مرير:
-لكنها اخذت تتغير شيئاً فشيئاً.... اخذت تشرب بكثرة.... وتبدل رجلاً بآخر بسرعة تبديل أثوابها...... في البداية كنت صغيراً لأعي ما يحدث... لكنني كنت أغضب واشعر بالخيبة حين تنساني احياناً على باب المدرسة ولا تأتي لاصطحابي...... لقد اضطررت في أحد المرات ان انتظر تحت المطر لساعة كاملة حتى تذكرتني وجاءت....... اذكر انني اصبت بعدها بنزلة برد قوية... لكنها لم تكن الى جانبي... لقد تركت مهمة العناية بي للخادمة مدعية بأنها تعمل... لم أكن أعلم ان العمل يتضمن النوم في حضن رجل اخر او ربما رجال اخرين ... من يدري...
شهقت مايا وشعرت برجفة تسري في جسدها ولم تستطع ان تبقى واقفة... فجلست الى جانبه...
تأمل أصابعه المشتبكة ببعضها والتي اخذ يضغط عليها بشدة وأكمل:
-ثم كبرت وبدأت أعي ما يحصل... لم تعد ناتاشا الأم التي أعرفها... لقد غرقت في وحل العلاقات السريعة .. لم تعد تقضي الليل في البيت بل تقضيه متنقلة من ذراع عشيق الى اخر... وطبعا الصحافة كانت تنقل هذه الأخبار وصرت أنا مركز سخرية كل أولاد الحي والمدرسة ... لقد كنت ابن العاهرة... هكذا كانوا ينادونني ...
هتفت مايا بوجع وهي تضع يدها فوق يديه المتشابكتين:
-يا إلهي.. مكسم انا....
لكنه قاطعها مستطرداً وكأنه لم يسمعها من الاساس:
-في تلك الفترة لم أجد من يعتني بي... حالتي النفسية كانت سيئة.. لم أكن آكل جيداً... وكنت أمرض بسرعة .. فتحولت الى صبي هزيل ضعيف... غير ان ناتاشا لم تلاحظ... كانت غارقة في الشرب والتعاطي والرجال.... وقد اصبحت انا آخر اهتماماتها... واشك في انها كانت تنساني في كثير من الاحيان ....... كنت احياناً التقط تلك النظرة على وجهها وهي تتأملني كأنها تقول "من أنت؟" واحياناً تلك النظرة الخائبة كأنها تأسف لإنجابي
اغرورقت عينا مايا بالدموع ووجع مكسم ينطبع في روحها النقية ....
-ثم حين بلغت الخامسة عشر.. ادخلت رجلا الى البيت وكانا مخمورين .. حين اعترضت ضربني الرجل بشدة حتى ادماني وتحت انظار ناتاشا التي لم تفعل شيئاً عندها ماتت هي بنظري... وسافرت الى والدي.... وقد نسيتها حتى قبل عشر سنوات عندما تعرضت لحادث بسبب أحد عشاقها واصيبت بالشلل فلم أستطع رغم كل شيء ان اتخلى عنها... وضعتها في دار العجزة واخذت اتكفل بمصاريف اقامتها.... لكن لو سألتني الآن عن امي... لقلت لكِ بأنها قد ماتت منذ كنت في الخامسة عشر.... تلك التي في دار العجزة امرأة لا اعرفها تدعى ناتاشا ..!
حين أنهى كلامه كانت مايا تبكي بحرقة ... وهي تتخيل المعاناة التي عاشها مكسم مع والدته والظلم الذي تعرض له .... ورغم ان قلبها الرحيم لم يتقبل فكرة ان يقول عن والدته التي على قيد الحياة بانها قد ماتت لكنها تتفهم احساسه وخيبته.....
التفت اليها واخذ يمسح دموعها:
-لا تبكي حبيبتي... أنا آسف لأنني لم أخبركِ بكل هذا... لم أكن أريد أن احزنكِ
هزت رأسها غير موافقة:
-لكنني أريد أن أتشارك معك كل شيء.... حتى الحزن
عارضها بشدة وهو يمسك بكتفيها:
-لن أسمح لشيء في هذا العالم بإحزانك مايا...
مسحت وجهه بيدها ورسمت بإصبعها عينيه وحاجبه ...
وقالت بألم:
-أنا آسفة لكل ما عشته..... لكنني هنا الآن ... أنا والدتك.. انا عائلتك
رأته يغمض عينيه بتأثر وابتسم رغم الوجع الظاهر على وجهه
-أنتِ كل العالم بالنسبة لي مايا.....
اعتلت السرير واستلقت عليه ثم بسطت ذراعها ودعته لينام عليها هامسة:
-تعال...
ارتجف قلبها للارتباك الخفيف الذي عبر وجهه ... ثم فاض وجهه حباً وهو يطيعها ليلقي برأسه على ذراعها فضمته اليها محتضنة ايام بحنان... واخذت تداعب شعره مقبلة بين حين وآخر جبينه وخده ....
بعد لحظات سمع صوتها الرقيق يقول:
-كان ياما كان .. يحكى ان هناك امير عادل يحبه الشعب .........
اخذت تسرد عليها قصة قبل النوم بصوت منخفض واصابعها تمشط شعره بلطف... مما أعاده سنوات الى الوراء... حين كان طفلاً سعيداً ينام بين ذراعي امه الرائعة ..... أخذ جسده يسترخي بينما ذراعه تلتف حول خصرها بتملك وانفاسه تضرب صدرها بحرارة .....
لحظتها بدا الماضي بالنسبة اليه ... اقل وجعاً .... وبدا الحاضر.. اكثر روعة .. وبدا قلبه .. أكثر عشقاً ..

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now