الفصل السابع عشر

1.1K 58 4
                                    

الإيحاء السابع عشر: حب ؟*

الأغنية لـ (كاظم الساهر)

-وهل من سبيل ان يجد القلب فيكَ انتماء؟
-أمل الصالحي

وقفت أمام المرآة لا ترتدي سوى ملابسها الداخلية .. وأخذت تتأمل الجرح في خصرها والذي تسبب به علي في طفولتها....... الآن وهي تنظر الى هذا الجرح لا تبتسم ببلاهة لتلك الألاعيب الصغيرة التي كان يمارسها عليها للتسلية ..... بل تنظر بعينين دامعتين الى هذا الجرح شاعرة بجرح أكبر وأكثر عمقاً ووقعاً .... جرحٌ متعرج وعميق كما مسار نهر يحفر طريقه في قلبها...... ما كانت تعلم ان الصبي الذي تلاعب بها ببراءة في طفولتها كبر وكبرت معه ألاعيبه وفقد براءته ... وصار يخدعها هي.... هي التي ظنت انها أقرب الناس اليه.... هي التي تخيلت انه رغم كل أنانيته وحبه لذاته لن يجرحها أبداً.... لن يكذب عليها ولن يخدعها..... هي المعصومة من أخطاءه وألاعيبه ... هي التي تعرفه أكثر مما يعرفه والديه ... هي صديقته وقطعة من روحه ....... لكنه أظهر لها حماقتها..... لقد اكتشفت ان علي مستعد للتضحية بكل شيء في سبيل مصلحته .... لقد أدخلها لعبته عندما نفذت خياراته..... وفعل كما يفعل دائماً.... اختار نفسه.........
بعد صدمة ما سمعته تخفت خلف رايان طوال الحفل.... كان يقف بجانبها مثل الجدار .. كلما أوشكت على الانهيار أمسك بها معنوياً أو فعلياً...... اختارت أبعد النقاط عن عائلتها وعن عائلة ميلر..... اختبأت عن عيون علي ... جسد رايان الضخم شكل لها حاجزاً مثالياً.... ثم ما ان خرجت مايا مع زوجها حتى خرجت هي دون كلمة الى أي أحد... اكتفت بان تترك رسالة على هاتف والدها تخبره بأنها عائدة الى البيت ..... قاد رايان سيارتها بينما انفجرت باكية ولم تسكت طوال الطريق..... الان وهي تفكر في هدوء رايان وعدم حديثه معها تمتن له كثيراً اذ انها لم تكن بحاجة لسماع أي نوع من المواساة.... لقد اكتفى فقط بأن يتمسك بيدها بقبضة قوية تساندها بصمت بينما أدارت يده الأخرى عجلة القيادة بمهارة....
حين عادت الى البيت، واخذت تفكر وتفكر وتفكر.... ساورها أمل بأن علي لربما قال ما قاله لساندرا ليتخلص منها.... علي لن يفعل ذلك بها.... هو لن يستغلها... كيف صدقت بسرعة؟ بالتأكيد هذه كذبة قالها لساندرا ليتخلص من ملاحقتها..... ولتثبت لنفسها ذلك اتصلت بالخالة حوراء وفي سياق الحديث سألتها بصوت مرتجف ان كان علي قد أخبرها بحبه لها... فكانت الاجابة صادمة... أجل لقد أخبرها بأنه يحبها وانه بسبب ساندرا كادا يفترقان... ثم واصلت الخالة حوراء ضاحكة:
-لقد كنت أعلم منذ البداية بأن حباً يجمعكما.... وانا سعيدة لذلك.. ولا تقلقي لن أخبر والديكِ حتى يحين الوقت ونأخذكِ عروساً لبيت السعدون
تصدعت روحها مثل أرض بور تقاسي الجفاف... ثم شعرت بكل أزهار قلبها تذبل.... كأن مياه عشقها الداخلية قد نفذت وسطعت فوق ربيع مشاعرها شمس الحقيقة الساخنة التي احرقت كل خضار فيها.....
لا لم يكن كذباً ما سمعت... علي لم يكن يخدع ساندرا بل كان يقول الحقيقة المجردة... وظل سؤال يتأكل عقلها.... لماذا فعل علي الذي فعله؟ كان بإمكانه ان يخبرها الحقيقة... وأن يقول لها بأنه كذب على أهله وحاك قصة خيالية عن مشاعر حب تجاهها..... كانت رغم كل الوجع الذي سيسببه حديثه ... ستساعده.... وستقبل ان تدخل معه لعبته ليصل الى احلامه وطموحاته..... لربما كانت حتى تزوجته وساعدته في أخذ الجنسية......... لأنها منذ عرفته وهي مستعدة لتضحي بكل شيء من اجله.....
فلماذا اذن كذب عليها؟ لقد شاركته حتى اليوم كل جرائمه الصغيرة والكبيرة.... كانت طرفاً في كل كذباته .... لأنها أرادت من كل قلبها ان يبني مستقبله بعيداً عن مكان لا يرتاح فيه ولا يجد فيه نفسه..... لقد أرادته سعيداً..... فلماذا حمّلها التعاسة الخالصة دون ان يرف له جفن....... هل هي رخيصة لديه الى هذا الحد؟ هل هو أناني الى هذا الحد؟ وكانت الاجابة على كلا السؤالين "نعم" ...!
اخذت نفساً عميقاً....
ثم آخر..
ثم آخر..
رفعت رأسها تحدق في عينيها عبر المرآة..... عليها ان تتقبل حقيقتين مهمتين ....
الأولى: "علي خدعها حقاً"
والثانية: "علي يجب ان يدفع الثمن"
لن يكون الأمر سهلاً... نعم .. هذا صحيح...... والدتها دائماً تقول إن أقوى نقطة وأضعف نقطة في الكائن البشري هي قلبه... وعلى الانسان ان يقرر ماذا يجعل من قلبه ....
لسنوات كان قلبها نقطة ضعفها أمام علي.... لأنها تحبه... صديقاً قبل حتى ان يتحول الى حبيب.... اذ لطالما ارتبط بالعراق.. وعطلاتها الجميلة هناك... لطالما ارتبط بالسكاكر الملونة والضحكات المرحة .... لطالما ارتبط بالأعياد والفرح ..... ثم حين كبرت وبدأت تقرأ قصص الحب... وأرادت ان تضع شكلاً لفارس احلامها... لم تجد أقرب وأحب الى قلبها منه ..... فخلقت منه رجلها.... حبيبها.... ولقد حاولت ان تكون أجمل لأجله ..... لقد صبرت على الجوع والتمارين القاسية واخذت تدرس كل ما له علاقة بالجمال والموضة لتظهر أجمل من كل صديقاته .... ورغم كل هذا ..... لم يحبها علي..... بل استغل قلبها ليحقق غاياته .... ولا تستطيع الا ان تشعر بالمهانة والاذلال الى جانب الجرح وكسرة القلب لأنها أظهرت له كم تحبه معتقدة بأنه يحبها......
أما الان... فقد حان الوقت لتغيير مسار قلبها..... ولتجعل منه النقطة الأقوى داخلها.... ان كسرة القلب تعلمنا ان لا نخاف....
اننا نعيش دائما هاجس خوفنا على الاشياء الثمينة والأكثر أهمية داخلنا.... وقد كان قلبها أثمن وأهم ما لديها.... وحين انكسر... انكسر معه هاجس خوفها..... الان ما عادت تخاف شيئاً...... لقد تحول أضعف ما فيها... الى أقوى ما فيها.......
حان الوقت لتمزق غشاوة الحب عن عينيها.... وتنظر الى علي كما يراه الجميع... أنانياً، متلاعباً، وصولياً.... ومخادعاً...!
استدارت عن المرآة .... وتناولت ثوبها وهي تفكر...
"ها قد بدأت الحرب"
حين خرجت من الغرفة الى عمها مراد كانت ترتدي ثوباً بلون أصفر خردلي بلا أكمام يصل الى ركبتها وفتحة أمامية تشق الفستان من المنتصف تظهر ركبتيها عندما تمشي... انتعلت حذاءاً احمراً عالي الكعب بحزام رفيق حول الكاحل ينتهي بربطة على شكل فيونكة صغيرة ... بينما تزين وجهها بأناقة والأحمر الفاقع يلون شفتيها... شعرها القصير تركته حراً ...
هكذا وقفت شامخة أمام عمها رغم كل كسور روحها.....
ابتسم عمها بفخر:
-هكذا تذهب النساء الى الحرب اذن؟
بادلته الابتسامة:
-هكذا...
.................................................. ..............
كان مراد يقود السيارة وقلبه يغلي... لو كان الأمر بيده لكان أمسك بعلي السعدون ومسح به شوارع نيويورك شارعاً شارعاً.....
لن ينسى ابداً حين عاد من حفل الاستقبال مستهلك العواطف بسبب صدمته لرؤية أمل وخاتم الخطبة... ليسمع طرقاً على باب الشقة مما اثار استغرابه فلا أحد يعلم بمكوثه في شقة زنبق القديمة حتى توني مدير اعماله... اذن لا بد انه أحد من العائلة... لكن زنبق وصخر لن يزوراه الان بالتأكيد... لقد عادا لتوهما متعبين من حفل الاستقبال ..
حين فتح الباب سقط قلبه بين قدميه وهو يطالع أوركد وقد شوه الكحل السائل عن عينها ملامح وجهها الجميلة... كانت ما تزال في ملابس الحفلة رغم ان صخر ذكر بأنها غادرت مبكراً بعد ذهاب مايا....
صاح بقلق:
-أوركد... ما الأمر؟
شهقت باكية وهي ترتمي في حضنه ... فأخذها بين ذراعيه وهو يشعر بأن نصف عمره قد هُدر مع دموعها التي تذرفها بسخاء
أدخلها الى الشقة واجلسها على الأريكة دون ان يخرجها من دائرة ذراعيه... ورغم كل الخوف الذي كان يعتريه لكنه لم يكرر السؤال عليها.... تركها لتهدأ أولاً
بعد وقت بدا وكأنه الأبد... استجمعت أوركد نفسها... فتركها للحظات ليعود بكأس ماء.... شربته على مهل من بين شهقاتها
سألها بقلق وهو يمسح دموعها ويتناول منها الكأس واضعا اياه على الطاولة القريبة:
-حبيبتي .. ما الذي حدث؟
اخذت تسرد له كل شيء من بين دموعها.. ومع كل كلمة تقولها كان الغضب يتصاعد في نفسه.... هذا الوغد السافل استغل حب أوركد له..... كيف لم يشعر هو بكل هذا؟ اين كان؟ ..... تباً لقد كان غارقاً في عالمه ومشاكله ومشاعره متناسياً احتياج أوركد له كصديق... لقد سمح لعلي ان يحتل هذه المكانة الكبيرة التي استغلها بوضاعة ليحقق ما يريد......
ما ان انتهت أوركد من قصّ الحكاية حتى نهض صارخاً:
-لن اترك في جسد ذلك الوغد عظمة غير مكسورة....
واندفع نحو الباب لكن أوركد اوقفته... توسلته ان لا يذهب... وأن عليها ان تحل الموضوع بطريقتها... هي فقط تحتاج دعمه... تحتاج ان يبقى معها.....
ورغم دمائه التي كانت تفور بحقد وغضب... لكن منظرها المتوسل غلب شياطينه... عاد اليها يحتضنها:
-أنا معكِ حبيبتي.. لن أترككِ.... سنفعل كل ما تريدين.... لكنني أبداً لن اتنازل عن ضرب ذلك الوغد
هزت رأسها موافقة وقد عادت لبكائها بين يديه........
بعد ذلك اتصل بصخر يبلغه بأنه طلب من أوركد ان تبقى لديه لأنه يشعر بالضيق.. وطبعاً صخر أرجع ذلك لمقابلته مع امل.. ولأول مرة لم يكن منزعجاً من تلميحات اخيه حول أمل لأنها ستبعد الشكوك عن أوركد.... تركه يعتقد ما يعتقده مقابل ان تبقى أوركد معه .......
في اليوم التالي... اتصلت أوركد بعلي.. وحددت معه موعداً لتقابله ....
وها هما متجهان الى اليه ... هي تنوي ان تكشف حقيقته وهو ينوي ان يضربه حتى يعرف بأن الله حق ..!
.................................................. ...........
قاطع الصمت السائد في السيارة صوت هاتفها يرن... نظرت الى الهاتف وترددت للحظة قبل ان تجيب:
-رايان
جاءها صوت رايان قلقاً:
-هل أنتِ بخير
اجابته بهدوء:
-أنا بخير لا تقلق
هتف:
-بالطبع قلقت... لقد تركتِ منهارة في البكاء ثم حين اتصلت كان هاتفكِ مغلقاً.... لقد اعتقدت بأنكِ انتحرتِ أو شيئاً من هذا القبيل
ورغم كل حزنها، ضحكت ضحكة قصيرة:
-لديك مخيلة واسعة
قال بتذمر:
-الفضل يعود لكِ...
همست له:
-أنا بخير.. سأكون أفضل عندما أصفى حسابي معه
صمت للحظة ثم قال بصوت جامد:
-هل تريدين مني ان اتدخل؟ أنا أملك قبضة جيدة
وللمرة الثانية تضحك ضحكة قصيرة:
-لقد وعدت عمي بأن يضربه
فاوضها:
-الا يمكن ان نفعلها مرتين؟
-لا.... لن اتحمل رؤية ذلك أكثر من مرة
حل صمت عميق... لم يقطعه سوى عويل قلبها...
قال اخيراً بجدية:
-أنا آسف لكل الذي حصل
تنهدت:
-وأنا كذلك.....
-انتبهي لنفسك أور
لم تنتبه لمصغر اسمها الجديد الذي أطلقه عليها.. لكنها قالت:
-سأفعل.. شكراً رايان
حين انهت المكالمة سألها عمها:
-ومن هذا الـ رايان
نظرت الى الشارع عبر النافذة:
-انه شخص أعرفه... وقد ساعدني كثيراً
.................................................. .......
عندما وصلت الى المنتزه حيث ينتظرها علي... نظرت الى عمها فقال لها:
-ربع ساعة.. بعدها اهجم
ابتسمت له ابتسامة تشابه البكاء كثيراً.... أومأت ونزلت من السيارة....
اخذت نفساً عميقاً وتقدمت نحو كشك المعجنات الصغير الذي ذهبت اليه مرة مع علي...
كان يقف قرب الكشك ينتظرها وبيده مصاصة ملونة كبيرة... لم تتغير عادته... ما زال يحمل لها السكاكر...... لكنها تدرك الان ان كل حلويات هذا العالم لن تقتل المرارة التي تشعر بها.....
مسحته بنظرتها الخائبة... بقلبها المكسور... بثقتها المحطمة.... كان لا يزال رغم كل جروحها جميلاً.... طويل القامة كأنه يترفع عن هذا العالم... مرفوع الرأس كأنه يتواقح على الظروف..... في الماضي كان قلبها سيهتز حباً لهذا المنظر لكن قلبها الآن يهتز وجعاً..... كيف أمكنه ان يخدعها؟ ولماذا؟
وكأنه شعر بنظراتها نحوه فالتفت .. وما ان طالعها حتى ابتسم ولوح لها
تقدم اليها وهو يقول:
-تبدين في غاية الجمال حبيبتي
كادت ان تصفعه لكلمة "حبيبتي" لكنها تمسكت بابتسامتها المصطنعة..
لم تجبه... فواصل:
-أين كنتِ البارحة؟ لقد غادرتِ فجأة وهاتفكِ كان مغلقاً طوال الوقت
أجابته بكلمة يتيمة:
-نعم
قطب:
-ما الأمر؟
حاولت بأقصى ما تستطيع ان تتماسك.... ودعت الله ان لا تبكي.... لا يجب ان تبكي... لن تسمح له برؤيتها باكية.... انها ابنة صخر.... انها قوية .... وهو كاذب ومخادع....
عند هذه الفكرة رفعت رأسها اليه:
-أريدك أن تنظر الي كثيراً علي... كثيراً...
قال بعدم فهم:
-ماذا؟
كررت:
-قلت انظر الي كثيراً.... تأمل وجهي.. وملامحي
ورغم ان علامات الفهم لم تفارق وجهه لكنه فعل ما ارادت.. تأمل وجهها بدقة دون ان تعلم بأن قلبه كان يخفق بحب لكل الجمال الذي تحمله... جمال ينبع من مكان اعمق من ملامحها... من قلبها الجميل
بعد لحظة من تأمله قالت:
-هذا يكفي على ما أعتقد لتحفظ وجهي في ذاكرتك طيلة حياتك....
شمخت برأسها وطغت السخرية المريرة على ملامحها وأكملت:
-لأنها يا علي.. آخر مرة ترى فيها وجهي..... بعدها.. المكان الوحيد الذي سيمر فيه وجهي عليك هو مخيلتك....
استدارت عنه وهو في قمة صدمته لحديثها وهي تقول:
-لقد سمعت حوارك مع ساندرا
تقدم نحوها خطوة وحاول ان يمد يده نحوها قائلاً:
-روري
لكن صوتاً رجولياً امره:
-أبعد يدك عنها
وفجأة وجد نفسه أمام مراد السالم ... اكملت أوركد طريقها دون أن تلتفت.... بينما لم يعطي مراد له أي فرصة اذ انهال عليه بلكمات قاسية اسقطته أرضاً متبوعة بشتائم لا حصر لها....
منعت أوركد نفسها بالقوة من ان تعود وتوقف عمها.... وصلت الى السيارة بأعجوبة .. وحين استقرت داخلها.... انفجرت باكية !
************************************************** ****

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now