الفصل الثاني

1.5K 66 6
                                    

-قبل أن نبدأ، تذكروا دائماً... أن الحب هو الوحي الوحيد الذي يمكنكم تصديقه، لأن كل إيحاء سواه هو محض كذبة..... غير أن عليكم أن تعرفوا... أن الكذبات تكسرنا، لكنها لا تقتلنا..... وحده الصدق يقتلنا !
....
....
....

الإيحاء الثاني : (هذي دمشق)*

* الأغنية لـ أصالة نصري

-أنا الذي لا ينتمي الى وطنٍ أو منفى... أنا العالق بينهما *
*آدم ميلر

كان يشعر بالإنهاك الشديد.. ليس جسدياً بقدر ما كان نفسياً لأنه يعيش يومياً كل هذا التشرد.......لقد تعب من رؤية كل هؤلاء الناس الذين تركوا ديارهم وكل ما أحبوه قسراً... وأُنتُزِعوا من أرضهم كشجرةٍ تضرب جذورها الأرض عميقاً ثم يقرر المزارع فجأة قلعها ليزرعها في تربة أخرى ولا يسيقها الحب بل المرارة ....... أخذ نفساً عميقاً من سيجارته ونفثه في الهواء......... فكر بأن والدته كانت على حق... لقد أخبرته ان الشرق الأوسط يشبه حمى الموت.... إن ذهبت لتعالجها أصابتك عدواها..... ورغم أنها لم تقف في طريقه وهو يختار أن يكون مصور حرب ... لكنها حذرته كثيراً...... وقتها تفّهم أن الحرب التي عاشتها والدته زرعت فيها خوف الخسارة ... لكنه لم يستطع ان يتقبل محاولتها لثنيه عن الدفاع عن قضية انسانية وهي التي منذ وعى تزرع فيه قيم الانسانية....... اما الآن فهو يفهم ..... لقد كانت تعرف ما سيشعر به .... تعرف ان كل صورة لضحايا الحروب بأشكالها ستكلفه قتل جزء جميل من روحه .... وكل صورة للاجئ بلا وطن ستكلفه تشريد جزء آمن من سلامه الداخلي..... حتى ينتهي به الأمر مشوهاً ومشرداً من الداخل....... وها قد وصل لتلك المرحلة....... لم يعد ينام جيداً.... وصور الموت تلاحق أحلامه ....... لم يعد يأكل جيداً لأنه يفكر بكل الجائعين من المهجرين ... لم يعد يتقبل ان يعيش في شقة فاخرة لأنه يفكر باللاجئين الذين بلا مأوى..... بات يشعر بالذنب لكل ما يملكه وكأنه لا يستحقه..... لقد ولد غنياً في بلد لا حرب فيها... عاش وكبر وسط عائلة محبة زرعت فيه الخير .... اتيحت له الفرصة ليتعلم بأفضل المدارس ويمارس كل هواياته ويسافر في اجازات ترفيهية ........ بينما على الطرف الآخر من العالم يعيش من فقدوا عوائلهم اثر قصف او تفجير.... وحرموا حق التعليم اثناء تشردهم من مكان الى آخر... ولم يجدوا حتى ورقة نظيفة ليرسموا عليها أحلامهم ... ولا فرصة صغيرة يمارسوا فيها هوايتهم.......... لقد كبروا في الحرمان ... وتشربوه .... حتى صاروا تجسيداً له ....... وهو حين يراهم يختجل كثيراً من غناه ورفاهيته وحياته الجميلة ...... حتى صار حبيساً لعقدة الذنب....... فما عاد يشعر بالإنتماء لعائلته وبلده وحياته المترفة .. ولا يستطيع ان ينتمي لهذا المنفى وهذا الضياع ....... انه عالق في المنطقة بين الحياة والموت.... بين الوطن والمنفى.....
اخذته قدماه الى بازار "كيميرالتي"، أحد أماكنه المفضلة في "إزمير" .... والذي يعتبر جنة التسوق بالنسبة لأهل المدينة والسياح القادمين اليها لوجود تلك المحال المتراصة التي تبيع كل شيء إبتداءاً من الملابس انتهاءاً بالمصنوعات اليدوية والسيراميك ........... رؤيته للمارة تجعله يشعر بتحسن.... وبأن الحياة رغم كل شيء مستمرة .... وهذا السوق بالذات يذكره نوعاً ما بسوق "الحميدية" في دمشق حين زارها وهو صبي مع عمه وليد وخالته تينا.......
سحب نفساً آخر من سيجارته وهو يفكر في سبب قدومه الى "إزمير" .... لقد جائها لأنها أحد أشهر المنافذ التي يتخذها اللاجئون للهرب نحو أوربا..... ومهمته ان يصور فلماً وثائقياً قصيراً عن هؤلاء اللاجئين...... لطالما تساءل... أي يأس قاتل ذاك الذي يدفع المرء ان يخوض البحر بقارب مطاطي للهرب؟ أي خوف ذاك الذي يسكنه ليجعله يخاطر بحياته وحياة عائلته ليذهب بهم الى الأمان بعد ان يدفع ضربية المخاطرة في الموت غرقاً؟
تأوه بصوتٍ عالي ضاع بين اصوات المارة والاغاني المنبعثة من المحال الصغيرة ...... بعد بضع خطوات التقطت أذناه صوت مغنية عربية ..... استغرب قليلاً ... ما الذي يفعله صوت عربي في سوق تركي؟...... اتجه الى المحل الذي يصدر منه الصوت الذي صار واضحاً أكثر وأكثر... وتعرف فوراً على الأغنية الشهيرة "هذي دمشق"
إبتسم لا إرادياً وخطى نحو المحل الذي يعرض انواعاً متعددة من لوحات مصنوعة بالموزاييك (الفسيفساء) ........ وبين كل تلك الألوان المبهرجة لقطع الموزاييك .... التقط هيئتها تزامناً مع صوت المغنية صادحاً "بعض الحبِ ذبّاحُ" ..........
كانت تنحني ممسكة بقطعة صغيرة من الزجاج تحاول ان تضعها في مكانها المناسب في اللوحة التي تقوم بصنعها ...... شعرها البني يرتفع على شكل ذيل حصان وغرتها تنسدل على جبهتها مثل طالبة مدرسة صغيرة ..... وشفتاها تتحركان ترددان كلمات الاغنية مع المغنية .....
رفعت عيناها اخيراً وقد انتبهت لوجود دخيل.... فاصطدم بكوكبين من الربيع .... عينان واسعتان وسط وجه ناعم ... حدقتاها خضراوان ..... ورغم اعتياده على العيون الملونة لكن رسمة عينيها جعلت لونهما مميزاً..... وضعت القطعة الملونة من يدها ونهضت وهي تقول بتركية ممزوجة بلكنة غريبة ....
-اهلاً بك سيدي...
إبتسم لها..... كانت عربية ولا شك ... لكنتها لا تدل على انها تركية والاغنية اكدت اصلها العربي.... ولا ارادياً شعر نحوها بالألفة التي يفرضها دمه العراقي...
دون تردد قال بالعراقية مشيراً الى لوحة موزاييك:
-هل هذا من صنع يدكِ؟
اتسعت عيناها بإستغراب وهي تسمع لكنته العراقية والتي لا تناسب مظهره الذي يدل على اصوله غير العربية
قالت بلهجة سورية:
-هل انت عراقي؟
هز رأسه:
-من جهة الأم فقط
خطت لتخرج من خلف الطاولة التي كانت تعمل عليها ... فظهرت قامتها الصغيرة .. اقتربت منه فلمح الصليب الصغير المعلق برقبتها بسلسلة رفيعة ....
-تشرفنا سيدي... هل تحب ان تشتري شيئاً معيناً...
قال بصدق:
-في الحقيقة كنت ماراً وسمعت صوت الأغنية العربية فأثارت فضولي
هزت رأسها بتفهم وقد بدت خائبة قليلاً مما جعله يشعر بعدم الإرتياح فأكمل قائلاً:
-لكن اللوحات جميلة جداً.. هل هي من صنعكِ؟
اومأت بالأيجاب
-نعم أنا صنعت معظمها.... (اشارت الى الشمال) ... لكن هذه المجموعة صنعها العامل الذي كان قبلي
اجابها وهو ينظر بإعجاب الى اللوحات التي صنعتها بحرفية تامة
-أرى أنك تمتهنين حرفة أبدع فيها السوريون القدامى .... أذكر أنني قرأت ان الموازييك اشتهر في سوريا في الحقبة البيزنطية فقد زينت ارضيات وجدران الكنائس بلوحات الموازييك
قرأ على ملامحها الدهشة :
-يبدو انك تعرف الكثير عن الموزاييك..
ابتسم:
-بل عن سوريا.... أحب التاريخ... طالعت الكثير من الكتب عن تاريخ الشرق الأوسط...
التمعت عيناها الجميلة بفرح:
-وأنا احب التاريخ كثيراً.... ولأزيد معلوماتك... فإن اكبر لوحة من الموزاييك موجودة في سوريا في.....
قاطعها مبتسماً:
-في متحف طيبة الامام.....
هذه المرة شهقت بمفاجأة:
-أدهشتني حقاً
هز كتفيه:
-أخبرتكِ بأنني أحب التاريخ
لفت نظره لوحة جميلة لزهر الياسمين الأبيض والذي يستقر على خلفية سوداء ومن قلب حزمة الياسمين ينبثق حرف الميم العربي ......
أشار الى اللوحة:
-لماذا حرف الـ ميم؟
-انها تقليد للوحة صنعها ابي من أجلي..... حرف "الميم" هو اول حروف اسمي
نظر اليها
-وإسمكِ؟
-مريم.....
لم يجد اسماً آخر قد يكون أكثر انسجاماً مع شكلها البرئ...
-يليق بكِ... أنا آدم
ثم أكمل:
-أرى أن والدكِ استخدم زهر الياسمين.... هل لأنه يرمز للشام او لكِ؟
ابتسمت:
-لكليهما
-اذا لم يكن لديكِ مانع، سأشتريها
ظهرت المفاجأة على وجهها لكنها قالت بسرعة:
-بالتأكيد...
وتقدمت نحو اللوحة لترفعها من مكانها وتذهب بها الى الطاولة لتقوم بتغليفها بورق حافظ
سألها:
-ماذا حدث للوحة الأصلية.. ؟
غام وجهها بتعبير حزين .. قطر مرارته في روحه... وفهم قبل حتى ان تقول:
-لقد كانت معلقه على جدار غرفتي في بيتنا ... وقد قُصف
أظلمت روحه بالوجع... فلم يستطع حتى ان يأخذ نفساً..... يا الهي.... كيف لم يربط هويتها بوجودها هنا..... هذه لاجئة اخرى ... فقدت كل شيء...... بينما هو ... ودون وجه حق.... ما زال يملك كل شئ
همس:
-أنا آسف
انهت تغليف اللوحة ورفعت وجهها اليه
-لا تعتذر أرجوك
قدمت له اللوحة بإبتسامة مضطربة اتبعتها بذكر سعرها.... فأخرج محفظته ونقدها السعر...
سولت له نفسه ان يمنحها اكثر من سعرها لكن خاطراً داهمه بأنها لن تقبل..... لا تبدو كإمرأة تقبل بالإحسان ... وهو لم يكن يريد ان يسيء اليها بأي شكل كان .....
اخذت المبلغ منه مبتسمة وهي تقول:
-شكراً لك... اتمنى ان تضيف اللوحة لمسة جميلة على حائط بيتك....
بادلها الابتسامة دون ان تنجلي غيوم مرارته:
-انا متأكد من ذلك....
ثم لم يجد ما يقوله ... وادرك ان وقت المغادرة قد حان.... فودعها دون ان يريد ذلك حقاً....
حين خرج... كانت مريم تراقبه حتى اختفى بين المارة .. حاملاً تحت ذراعه لوحتها المفضلة ........... كان قلبها يخفق بقوة دون سبب واضح........ لربما هي هيئته البسيطة والمرتبة.... او ربما هي ابتسامته التي ترتفع فيها احدى زاويتي شفتيه اكثر من الاخرى قليلاً لتبدو مائلة نوعاً ما... او هو اللون البني لعينيه او شعره العسلي الغامق.. او قامته... او صوته.... او لكنته العراقية الجميلة والمرتبكة قليلاً كأنه لا يمارسها كثيراً......... توقف عقلها عند هذه النقطة..... لقد قال انه عراقي الأم.... ترى ما جنسيته؟ لربما يكون تركي الأب... فشكله لا يبدو عربياً رغم ملامحه السمراء....
وضعت يدها على قلبها...... ما الذي يحصل؟ انه مجرد زبون مر ليشتري لوحة .... صححت لنفسها.. بل ليعرف مصدر الاغنية العربية .....
ابتسمت لنفسها وشكرت هذا الغريب لمروره العابر.... فقد منحها احساساً جميلاً وسط كل الألم الذي تعانيه هنا......
عادت الى طاولتها لتكمل عملها وهي تفكر ببيتها..... تنهدت بإشتياق.... لا تصدق للآن انه لم يعد موجوداً.... وانه صار مجرد حفنة تراب كأنه لم يحتوي يوماً ضحكات عائلتها، ولا ذكريات الأعياد والمناسبات... كأن جدرانه لم تمتلئ بلوحات الموزاييك التي يصنعها والدها، الحرفي الماهر الذي اورثها مهنته ...... ولم تتزين زواياه بأصُص النباتات الظلية التي تحبها والدتها.... وكأن الحديقة الصغيرة لم تحمل عبق الياسمين الذي تحبه ..... وكأن غرفتها التي احتوت كل احلامها وكتب التاريخ التي جاعت لأجلها أياما في المدرسة كي توفر مصروفها لشرائها لم تكن من الأساس................... لو ان بيتها ما زال هناك.... لو انها هي ما زالت هناك... لكانت الان قد تخرجت من قسم التاريخ لتصير استاذة تاريخ كما حلمت ... ولم تكن لتضطر لتمارس مهنة والدها التي علمها اياها لتسليتها، كعمل رئيسي تساعد به عائلتها لتجميع مبلغ الهرب الى أوربا......
دون ارادة سالت دموعها على وجهها...... لقد اشتاقت للشام... اشتاقت لأمان بيتها... ولوجوه جيرانها... وللحياة التي كانت حينذاك تضحك بوجهها ....... فمن يعيد اليها الشام والبيت والضحك؟
******************


إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن