الفصل السادس والعشرون

1K 57 1
                                    

الفصل السادس والعشرون: يمكن أحبك*

الأغنية لـ (ماجد المهندس)

-وما انتميت الا لكذبة
-مايا ميلر

تأمل مكسم وجه مايا الغافي فوق الوسادة بقلبٍ متوجع... هو يدرك تماماً ما تعانيه هذه المرأة الملاك في سبيل مساعدته.... ومهما عاش لن ينسى ملامح وجهها وهي تتلقى خبر موت الرجل الذي تسبب في افلاسه.... كان وجهها يقطر ألماً خاماً.... نظرت اليه بعين تلتمع الدموع فيها لكن وجهها تحجر في لحظة مما ذكره كثيراً بالتغيير الكبير الذي يحصل في وجه والدها حين يرتدي قناع البرود المعتاد... استدارت نحو ناتاشا وابتسمت ابتسامة انتصار:
-هل تحملين الآن زوجي مسؤولية القدر؟ .. لقد كُتبَ له أن يموت ... وأعتقد أنه توفي بعد زيارة ابنه المعروف بكثرة مشاكله معه وليس بعد زيارة مكسم.....هل تعتقدين بأنني لا أعرف هذه التفاصيل وان مكسم لم يشاركني كل شيء؟؟... لقد ذاكرت درسي جيداً قبل أن آتي اليكِ!..... ألم تفهمي بعد؟... اننا لا نموت بسبب أذى يلحقه بنا الغرباء... اننا نموت بسبب الأذى الذي يأتينا ممن هم قلبنا !
الشطر الأخير من جملتها الطويلة ذبحه !.... لقد كانت تتحدث عنهما... عن الأذى الذي ألحقه بها وهو قلبها!... أخافه أن يعرف بأن مايا "ماتت" بشكل ما بسببه....
مد يده يلامس بشرة خدها بحنان... انها تقاتل في سبيله ... وتهزم وحوش ماضيه..... في الفترة السابقة عاشا معاً تجربة مريرة... لقد اضطر ان يفتح للطبيب النفسي جروح روحه بينما تجلس هي بجانبه.. في أول الأمر استصعب ان يكسر صورة الحبيب داخلها ويعرّي مشاعره المظلمة أمام قلبها الضوئي... لكنه أصر أن يفعل لأنه يريدها ان تعرفه دون رتوش... يريدها ان تشاركه كل جوانب حياته... يريدها ان تكون جزءاً من علاجه....... وهي كانت شجاعة بما يكفي لتقف الى جانبه.... تمسك بيده حين ترتعش اصابعه غضباً وقهراً لذكرى بعيدة عن والدته.... تحتضنه كلما خرجا من العيادة وجلسا في السيارة.... تبقيه بين ذراعيها لدقائق طويلة دون كلام كأنها تبلسم جراح المعركة التي خاضها في الداخل مع نفسه.... وعدا ذلك بقيت تعامله بذات الحب الذي عرفه فيها منذ اول لحظة وبذات الحنان الذي تملّكت به قلبه............
لم يخطئ حين قال بها بأنها بطلته.... هي بطلته فعلاً... وهو الرجل الضعيف المتوجع الذي انقذته بحنانها ...ان بعض المعارك تحصد انتصاراتها بالحب لا بالسيف كما حصدت مايا بحبها انتصاراً ساحقاً في معركة ماضيه!
رفرفت اجفانها وتململت قليلاً .. ثم فتحت عينيها لتجده ينحني فوقها يتأملها وملامح هي خليط من الحب والوجع ترتسم على وجهه الأشقر... ابتسمت له لا ارادياً... ورفعت يدها المتكاسلة بفعل النوم لتلامس خصلة من شعره....
همست له:
-ما زلت اذكر اول مرة سلطت بها عينيك ذات اللمعة الحادة علي...
انهت جملتها وهي ترسم باصبعها خطاً على طول عينه التي اغمضها مستسلماً لحركتها
ابتسم لتلك الذكرى:
-لقد كان قلبي يدق بسرعة حتى ظننت بأنه سيخرج من صدري
تنهدت وهي تغمض عينيها وتهمس:
-أتذكر كيف كنت تتحدث بتهذيب كأنك قادم من العصور الوسطى
ضحكت ضحكة سريعة وهي تعيد في عقلها طريقة حديثه تلك
ضحك هو الآخر:
-لقد كنت احاول ان اثير اعجابكِ وأن ابدو كرجل محترم
فتحت عينيها في ذات اللحظة التي فتح هو فيها عينيه... التقت نظراتهما...
-أنت رجل محترم ورائع مكسم... عليك ان تعرف هذا دائماً
انقبض قلبه.. لا يعرف لماذا خامره احساس بأن شيئاً سيئاً سيحصل.... أخمد وساوس عقله المريض بهاجس فقدها بقبلة قوية على شفتيها
استقبلتها بأن لفت ذراعيها حوله تجذبه اليها بينما بادلته القبلة بأقوى ...
همست له:
-أنا أحبك... دائماً
رفع شفتيه عن شفتيها قليلاً ليهمس:
-تنفسي مايا
انفاسها الحارة خرجت متسارعة ... بينما أغمض هو عينيه واخذ يستنشق انفاسها بعمق وكأنه يحاول ان يمزجها بدمه ....
ارتجفت تحت جسده.. فعاد يقبلها هامساً:
-أنا أتنفسكِ مايا... انا أعيش بكِ
كانت كلماته اشبه بتوسلات طفل صغير أذاب قلبها حناناً.... فما كان منها الا ان ضمته أكثر لقلبها كأنها تحاول حمايته!
.................................................. .......................
كانت مايا تقف أمام محل للعب الأطفال حين لمحت جاك زميلها السابق في الفرقة يحاول عبور الشارع وفي يده اكياس كثيرة... دون ان تستطيع منع قدميها وجدت نفسها تسرع نحوه وتنادي:
-جاك
التفت مستغرباً وحين رآها ابتسم:
-مايا.. كيف حالكِ؟
استغربت من ترحابه بها خصوصاً بعد التصريح الذي القاه عليها عندما التقت به اخر مرة في المطعم
رغم هذا ردت مبتسمة:
-انا بخير... هل كل شيء بخير معك؟ ... اعني بعد .. بعد...
عليها ان تعترف بأنها ما اقتربت منه الا لأنها ما زالت داخلها تشعر بالذنب لكونها سبباً غير مباشر في طرده من عمله ومصدر رزقه
لكنه فاجأها بأن قال بمرح:
-اوه بالتأكيد انا بخير.. علي ان اشكر زوجكِ لطرده إياي من العمل... لقد حصلت على دور مهم في فرقة اخرى وسأسافر قريباً في رحلة حول العالم مع الفرقة
شعرت مايا بالسعادة لأجله فقالت بابتسامة:
-أنا سعيدة لأجلك جاك.. وآسفة جداً لما فعله مكسم
لوح بيده الحرة وقال:
-لا عليكِ
ثم ابتسم ابتسامة اوسع وحرك حاجبيه الى الأعلى والأسفل وقال:
-لكن علي أن أقول لكِ بأن زوجكِ غيور جداً.. لقد امسك بتلابيب ياقتي واخبرني بأنه سيدق عنقي ان اقتربت منكِ
شعرت مايا بانسحاب الدم من وجهها وسألته:
-ألم تتقابلا قبل تلك المرة في مركز الشرطة؟
نفى جاك:
-بالطبع لا... لقد رأيته اول مرة عندما جاء ليطلب من رئيس الفرقة طردي
ارتجفت مايا لكن جاك لم ينتبه اذ قال:
-سوف أذهب الآن مايا.. امي بانتظار علاجها..... كوني بخير
لوح لها وعبر الشارع... بينما بقيت واقفة في مكانها تستوعب ان مكسم قد ألف قصة خيالية عن جاك ليبرر طرده له...
كيف يمكن ان يكون بهذه المخيلة ليخترع قصة رؤيته له في غرفة صديقه الضابط !.... كيف يمكن ان يكون بهذه القسوة ليكذب عليها وهو ينظر في عينيها... أما يكفيها اكتشافها لما فعله ليفشل عرضها.....
وضعت يدها على بطنها وانسابت الدموع من عينيها واخذت تبكي بحرقة... بينما كان المارة ينظرون بشفقة الى تلك المرأة الصغيرة الحجم التي تبسط اصابعها على بطنها المسطح ويعتصر الألم ملامح وجهها الباكي وكأنها فقدت لتوها عزيزاً....
.................................................. .........
حين عادت الى البيت كان العالم بالنسبة اليها منهاراً... خلعت حذائها على عتبة الباب ورمته بإهمال وصعدت بخطوات بطيئة صامتة الى غرفة النوم... لكنها تفاجأت بوجود مكسم الذي من المفترض ان يكون في العمل.... كان يقف قرب المنضدة وهو يمسك بشريطين من ادوية منع الحمل....
قطبت بحيرة وسألته من مكانها:
-ماذا تفعل مكسم؟
التفت مكسم وقد شحبت ملامحه
قال بصوت مرتبك:
-حبيبتي.. لقد عدتِ مبكرة
خطت الى داخل الغرفة:
-لم أجد ما يعجبني
كانت قد قررت ان تتحدث اليه بشأن كذبته لكن منظره المرتبك اثار ريبتها.. نظرت الى شريطي منع الحمل وقطبت..... هي تذكر ان الجرار المفتوح لم يكن يحتوي الا على شريط واحد
سألته:
-ما الذي تفعله بشريط منع الحمل؟
طفح الذنب من عينيه.. فسدد الخوف ضربةً الى قلبها.... وعلمت قبل ان يتفوه بكلمة ان القادم سيء جداً
أجلى حنجرته وقال بصوت مليء بالاعتذار:
-لقد فعلت شيئاً سيئاً مايا
رمشت ولم تستطع حتى ان تسأل ما هو لأنها لم تكن متأكدة بأنها تريد ان تعرف... هي لن تستطيع تحمل صدمة أخرى
لكنها مع هذا بقيت واقفة تنتظر فاجعتها الجديدة لتخرج من بين شفتيه....
اخيراً قال:
-لقد كنت اخاف ان تشاركي في تلك المسابقة وتفوزي وتجولي العالم وتتركينني هنا مثلما كانت تفعل ناتاشا.... لقد كنت اخاف من خسارتكِ كثيراً .... لذلك
صمت للحظة ثم قال بصوت مذنب:
-فكرت بأنكِ لو صرتِ حامل لن تذهبي.. فقمت بتبديل شرائط منع الحمل بأخرى مشابهة لكنها مجرد فيتامينات..... والان بعد ان تحررت من تلك الاشباح والمخاوف لم أعد اريد ان احبسك.. لقد جئت اعيد شريط منع الحمل الحقيقي... لأنني أريدكِ أن تذهبي الى تلك المسابقة وان تشاركي وان تجولي العالم وسأكون فخوراً بكِ.... علي ان أتعلم الثقة بحبنا ...
لم تتكلم.... فواصل:
-أنا آسف مايا.. آسف جداً لكل ما فعلته
الآن فقط يريد ان يتعلم الثقة بحبهما !....... الآن فقط تحرر من خوف مهنتها !.... يا لسخرية القدر...
لقد تحرر هو... لكنه سجنها هي...
لقد تعالج هو.. لكنها أمرضها هي...
لقد شفي هو .. لكنه جرحها هي ..
همست بصوت مبحوح:
-لقد قابلت جاك اليوم...
سقط الشريطين من يديه.. ونظر اليها وقد اختفى اللون تماماً من وجهه...
واصلت بنفس النبرة:
-لقد اخبرني النسخة الحقيقية لحكاية طرده
اقترب خطوة لكنها ابتعدت خطوتين..
رفعت عيناها تنظر اليه بذبول كأن ما اكتشفته سحب منها روحها الملونة
-كم من الأكاذيب قلتها وفعلتها وانت تنظر في عيني.... تماماً كما انظر في عينيك الآن
حاول الدفاع عن نفسه:
-مايا .. أنت تعرفين بأنني فعلتها لأنني أحبكِ... لأنني كنت اخاف خسارتكِ ..
ابتلعت ريقها وقالت بصوت باهت:
-لقد تعبت مكسم... كل هذه الأكاذيب.. كل هذه الأسرار... أنا لم أعتد على هذه الحياة
ابتسمت بمرارة:
-لم أكن أعرف ان الحب يحمل كل هذا الغموض معه.... لقد عشت طوال حياتي وانا اشهد الحب في عائلتي واضحاً وصادقاً ويدفع الشخص ليكون أفضل....
شهقت كأنها تستجدي الهواء:
-لكن حبي جعلك أسوأ.... لقد كذبت علي منذ اول لحظة... وأنا .. حاولت ان أستوعب...
هزت رأسها نفياً:
-لكنني لا أستطيع... هذا القدر من الأكاذيب فوق طاقتي.... لا يمكن لرجل ان يسجنه ماضيه الى هذه الدرجة......
قطرت لهجتها وجعاً:
-ان الحب أمان يا مكسم... وأنا ما عدت أشعر بالأمان معك... ليس بعد كل تلك الأكاذيب التي اكتشفتها وليس بعد الأكاذيب التي ربما سأكتشفها لاحقاً
حالما انهت جملتها ألغى المسافة بينهما وهو يكبل بأصابعه ذراعها ويقول بتوسل:
-اقسم ليس هناك من شيء آخر... لقد فعلت كل شيء لأجل ان لا تتركيني.. انا لم أكن سعيداً بكذباتي.. لقد كنت اتعذب.. لكن أي عذاب بدا لي هيناً أمام فكرة فقدك
سالت دموعها وقالت بعجز وقلبها يتكسر وجعاً:
-أعتقد انك فقدتني مكسم !
**************************************************

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWhere stories live. Discover now