الفصل التاسع عشر

1.2K 63 4
                                    

الإيحاء التاسع عشر: أحبكِ يا صغيرتي*

*الأغنية لـ "فرانك سيناترا"

-وها أنتِ ذا ... كل الانتماء !
-مراد السالم

ورم في الدماغ !.... هل يعيد التاريخ نفسه؟... لطالما قال لها والدها بأنها تشبه والدتها كأنها نسخة منها.... هل يصير الشبه قوياً الى هذه الدرجة بينهما فينتقل اليها مرضها؟ ..... هل هي نسخة مكررة عن يافا؟ ولكن أين آدم عنها؟ ...
تطلعت حولها في الشقة التي لم تتغير منذ ان وعت عليها... شعرت بالوحدة العميقة... كأن كل العالم حولها لا يعنيه وجودها.... هذه هي الحقيقة.... انها يتيمة .... لا أب ولا أم... لا أقارب... لا حب... لا شيء على الاطلاق......
رفعت ساقيها وطوتها لتستند بذقنها الى ركبتيها محيطة ساقيها بذراعيها... كأنها تتكور على نفسها وتلملمها ... لأنها تدرك بأن لا أحد سيلملمها ان هي لم تفعل............ هل تبكي؟.... لا تعرف... هي لم تبكي منذ أخبرها الطبيب بمرضها حتى الآن... كل ما فعلت انها استمعت اليه بهدوء وهو يقول بأن مكان الورم غير خطير ويمكنها ان تزيله بعملية جراحية وبعدها يتم فحص الورم لمعرفة ان كان حميداً أو خبيثاً وعلى اساسه تتحدد المرحلة ما بعد العملية....... كل تلك المعلومات كانت تصلها وكأنها لا تعنيها..... ذهنها كان غائباً في فكرة الشبه بينها وبين والدتها.... في فكرة ان البنات لا يرثن من امهاتهن الملامح فقط... بل الأوجاع كذلك......
حين غادرت المستشفى.. عادت الى البيت... وها هي الشمس تكاد تغيب وهي ما زالت على حالها تجلس على هذه الأريكة تتأمل في اللاشيء وفي كل شيء..... في لحظة ما فكرت بأن تتصل من بين كل من تعرفهم بمراد..... لكنها تراجعت عن هذه الفكرة.... لقد تخلى عنها مراد وعاد الى حياته .... حتى عندما طلب منها ان لا تذهب كانت طلبه متردداً.... كان ما يزال في حرب مع نفسه ... وهي ليست بقادرة الآن على خوض حروبه ... هي تحتاج من يخوض معها حروبها..... كما ان كرامتها لا تسمح لها ان يراها بهذا الضعف الذي ستغدو عليه حين تخرج من العملية.... عاجزة وبحاجة الى رعاية تامة..... مراد الذي هرب حالما عاد اليها جزء من تعقلها بعد رحيل والدها... ليس الشخص الذي تدخل معه تجربة مؤلمة ومذلة كالمرض !....
نهضت من مكانها فاقدة لحواسها... كانت كتلة مشاعر موجوعة لكنها بليدة في ذات الوقت.... اذ انها تحس بالألم داخلياً لكن حواسها وجسدها يرفضان التعبير عنه .................. وقفت أمام الحائط الذي عُلقت عليه صور والديها.. وبعض من صورها.... واستقرت عينها على صورتها المفضلة لوالديها... كانت والدتها تقف بجانب والدها محيطة خصره بذراعها بينما التفت ذراعه حول كتفها.... لم يكونا ينظران الى الكاميرا بل كانا ينظران لبعضهما ضاحكين ... طاقة الحب التي تشع من الصورة لم تنطفئ رغم كل تلك السنوات التي راقبت فيها الصورة بينما تكبر يوماً بعد يوم.......
ابتسمت بمرارة وهي تمرر اصابعها على الصورة وهمست:
-لو كان أحدكما هنا.... لما كنتُ سأذهب الى الموت وحيدة...... أنتما لم تذهبا وحيدين الى الموت... لكنكما تركتماني وحيدة في مواجهته......
ارخت يدها عن الصورة... واستدارت داخلة الى غرفة والديها... وتمددت على سريرهما... واغمضت عينيها.................. لكنها بعد لحظات قليلة فتحتهما..... واستقامت جالسة....
ان كان عليها ان تجري العملية.... ان كان عليها ان تواجه الموت.... فهي لا تريد ان تفعل ذلك دون وجود أشخاص تعرفهم حقاً وتهتم بهم ... أشخاص يربطونها بعائلتها... تعرف بأنهم يحبونها وتطمئن الى أنهم سيقومون بدفنها ان هي ماتت بطريقة لائقة.....
خرجت من الغرفة لتلتقط هاتفها من على المنضدة قرب الأريكة التي كانت تستقر عليها لساعات.... اتصلت بالخالة سارة وأخبرتها بأنها تنوي زيارة أمريكا... وأن هناك موضوع مهم يجب ان تناقشه معها هي والعم سامر...... شعرت بالذنب حين سمعت الفرحة الخالصة في نبرة الخالة سارة..... لم تكن الخالة تعلم بأنها ذاهبة اليها تجر خلفها أذيال الموت ...!
بعد ذلك اتصلت بمحامي شركات والدها.... وطلبت منه الحضور... في المساء كان السيد رمزي يجلس أمامها .. فقالت بعد ان قدمت له الشاي:
-سيد رمزي .. أود أن أكتب وصيتي
اهتز كوب الشاب في يد الرجل الستيني ونظر اليها متفاجئاً:
-عفواً؟
كررت بعملية:
-أريد أن أكتب وصيتي .. أريد أن أتبرع بكافة أعضائي الى المحتاجين دون مقابل في حال موتي
قطّب السيد رمزي:
-أنا تحت أمركِ بالتأكيد.. لكن لماذا تكتبين وصيتكِ في هذا السن المبكر آنستي
ابتلعت ريقها وحاولت السيطرة على هول فكرة انها قد تموت بعد بضعة أيام:
-أنا بصدد اجراء عملية خطيرة.. لذلك أحب أن آخذ احتياطاتي
وقبل ان تسمح له بأن يعلق واصلت:
-وبالنسبة لإدارة شركات والدي، كنا قد تناقشنا عن امكانية استلامي للإدارة لكنني أرى أن تؤجل الأمر وتبقي مساعد والدي السيد رافع مديراً للشركات كما هو الحال الآن حتى اشعار آخر...
استطاعت بسهولة ان تلتقط مشاعر الشفقة والتعاطف التي طفت على ملامح السيد رمزي فضرب الألم قلبها... وثارت كرامتها... هي تكره ان يراها أحد ضعيفة ... هي لا تريد شفقة أحد .... لكن لم يكن من حقها ان تعترض... فهي كانت ستشعر بالشفقة تجاه أي شخص مريض ...!
أكد لها السيد رمزي بأنه سيتولى كافة الأمور... وسيجهز الوصية ويحضرها لها لتوقعها في الغد..... شكرته وودعته بلطف...... وما ان خرج حتى اتصلت بكافة الجمعيات الانسانية التي تعمل معها تخطرهم بتغيبها لفترة لا تعلم مدتها... لكنها ستبقى على تواصل معهم عبر الانترنيت وتبرعاتها ستبقى قائمة .... لكنها اعتذرت عن كتابة المقالات والأشعار لفترة لا تعلم مدتها لوضع طارئ رفضت ايضاحه.....
هكذا رتبت أمل كل مسؤولياتها.... وحجزت تذكرة الى نيوجيرسي... حيث تقيم الخالة سارة ......
ها هي عائدة الى أمريكا..... ودون ان تستطيع منع نفسها من التفكير... تسلل الى قلبها شوق عارم يخبرها بأنها لربما ستقابل هناك ...... صاحب الخصلة الفضية..... رجلها الأحمق!
************************************

إيحاء الفضة(الجزء الثالث من سلسلة حـــ"ر"ــــب)مكتملةWo Geschichten leben. Entdecke jetzt