لن تعاد

25 7 7
                                    

في السابعة إلا عشر دقائق صباح أحد الأيام الخريفية التي لا نعلم هل هي باردة أم حارة أدركت أني أريد كتابة هذا المقال في الحال تاركًا خلفي كل المقالات التي حضرتها منذ مدة طالت.

عزيزي القارئ طبت وطاب صباحك وطابت كل أيامك.

منذ سبع سنوات وعلى نفس الوضع الذي أنا عليه الأن، كنت طفلًا يعبث أمام جهاز الحاسوب المحمول وقت العصر منبهرًا بمواقع التواصل الإجتماعي وما فيها، ما برأيك أسوأ شيء سيحدث؟

دون أن أطيل عليك ما حدث يا عزيزي هو أني بعد دقائق وجدت أمي تحمل أختي الصغيرة التي كانت تحتضر، وبعد عدة ساعات توفت أختي قبل إتمامها سنتها الثانية.

رغم طوني طفلًا وقتها إلا أن ما شعرت به بعدما عدنا للمنزل دون شقيقتي هو الندم، الندم على تضييع الوقت دون أن أكون معها، الندم على تذمري من طلب أمي أن أراقبها بينما أمي منشغلة.

إن إعتبرنا أنني كنت طفلًا حينها ولم يكن تصرفي واعيًا، وهذا افتراض مريح وحقيقي، فالزمن قرر إعطائي درسًا هذه المرة جعلني أدور حول نفسي.

دائمًا ما تأتي في بالي ذكريات في بيت جدي وجدتي، حينما كانت جدتي تحضر لي الغداء وأنا أمكث لديها وقتما كانت أمي منشغلة، أو وهي ترتب لي ثيابي، أو وهي ترتب المنزل، ينتقل ذهني سريعًا بعدها إلى بيت المنصورة الذي انتقل إليه جدي وجدتي ليعيشا هناك في سلام، بالفعل توفي جدي بعدها بفترة، أما عن جدتي التي كانت وقتها قعيدة فرفضت أن تترك المنزل وتسكن معنا أو مع أحد أعمامي.

الزيارات هناك كانت مختلفة، فكنت الوحيد تقريبًا من أبناء سني في العائلة الذي يحب السفر إلى هناك، بل ويتمنى أن يقضي أطول وقتٍ ممكن، كنت أنتهز الأجازات الصيفية لقضائها هناك مع جدتي، وكانت فترة مليئة بالحب والسلام النفسي.

مرت الأيام وزادت المشاغل مع تقدم العمر، فأصبحت لا أذهب كل صيف عند جدتي، وبدأت أكبر وأستثقل مجلس العائلة لذا كنت لا أجلس إلا قليلًا، سواء أنا أو أولاد عمي وأخي.

أيضًا كنت أستثقل الإتصال بها، وهذا أكثر ما طلبته هي، بسبب المشاغل أو الكسل أو النسيان، كل الأسباب بالنسبة لي سواء.

مطلع هذا العام مرضت جدتي وأصابها فيروس كورونا وبحكم السن كانت فترة صعبة، حتى أن والدي ترك مشاغله ومكث لديها فترة مرضها، كما فعل أعمامي بالتناوب، شُفيت جدتي من هذا المرض لكنه تبعه أمراض عدة لم نفهمها وكلها تحت عنوان توابع المرض وحكم السن، جائت جدتي لتحضر رمضان معنا، وكان رمضان هذا من أصعب الأشهر، لأنها تقريبًا قضته في المستشفى أو متألمة في سريرها.

يوم ما ذهبت لأزورها في المستشفى مع العائلة، صدمت مما رأيت حتى أنني لم أستطع حتى السلام عليها، وظنت هي أني لم آتي.

نحن نصدم عندما نرى من نحب مرضى، أو بهم مكروه، لكننا نغفل أن هذا المكروه أصابهم ونحن لا نشعر.

استمرت الأيام بلا جديد، أمراض كثيرة لا سبب لها أكثر من حكم السن، حتى توقفت جدتي عن الأكل تمامًا، وأصبحت طريحة الفراش، وأصبح بيت المنصورة الهادئ والمسالم هو غرفة عناية مركزة.

الأشياء الفاصلة بالنسبة لي اثنان -إن تذكرت شيئًا آخرًا سأكتبه لذا لا تراجع ما أقول من أرقام- الأول هو عندما رأيت حالها على الفراش، وعندما كنا نريد تعديل شيء، فاضطررنا إلى حملها، وأنا أحملها كان ذهني يستحضرها وهي تحملني وأنا صغير ولم أكن أتصور أن يأتي هذا اليوم وتنقلب الاية.

بعدما عدنا من زيارة العيد الماضي وأنا أسلم عليها السلام الأخير بكل حب وعفوية قالت لي جملة مازلت أسمعها حتى الأن : "أهلًا بالذي لم يعد يمكث معي"

لم أستطع التفوه بشيء ورحلت بعد السلام.

لا داعي للإطالة، فقدت جدتي بعدها النطق وعندما اتصلت بها كانت لا ترد علي إلا بالهمهمة، ثم اشتد مرضها وتوفيت منذ أسبوعين تقريبًا.

ومازالت جملتها ترن في أذني حتى الأن.

الموقف الثاني هو عندما كنت أحمل النعش على كتفي، هنا كنت في عالم آخر أحاول معرفة أين أنا وما الذي يحدث، لكنه أمر الله.

دُفنت جدتي مع أختي، ولن أنسى جملة أبي وهم يجهزون القبر، أن أختي أصبحت قماشة بها القليل من العظم، أزاحها أبي قليلًا ليضع جدتي.

كان هذا أقسى درس أعطته لي الحياة، فهذا القبر جمع أكثر من أحببت، وأجمل من رأيت من النساء، لكنهن لا يعلمون أني فعلت، لم أخبرهن بحبي هذا، حتى أنني أستطيع أن أتوقع أن جدتي اندهشت وهي تسمع دعائي الحار لها بالرحمة.

جدتي وهي أحن من عرفت، والتي لم تشغل بالها بشيء في مرضها إلا بإرسال لي الحلوى التي تعلم أني أحبها، حتى أنها لم توصي بأي شيء سوى أن يشتروا لي هذا النوع من الحلوى كل عيد كما كانت تفعل.

الشاهد يا عزيزي هو أن إظهار الحب أهم من الحب، الأحياء يحتاجون إلى أن يشعروا بمن يقدرهم ويحبهم، الحياة قصيرة  وكلنا راحلون، فلا تنتظر أن يرحل أحد كي تثبت أنك تحبه.

تلك الحياة بلا قيمة، صدقني كلها بلا قيمة، لذا إن كنت تنوي أن تستمر فيها فاترك أثرك الجميل في القلوب، أو قل سلامًا، واحذر من شعور الندم فإنه جرح لا يلتئم.

رحمة الله على موتانا وموتى المسلمين جميعًا.

خواطر اكثر سطحية و سخافةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن