الفصل الخامس والاربعون ( الجزء الأخير )

2.9K 171 24
                                    

الفصل الخامس والأربعون
(الجزء الثالث والأخير )
خلعت جيلان سترتها وأخذت تنظر اليها بتردد للحظات قبل أن تحسم أمرها وتشعل النار فيها وهي ترميها أسفل جهاز إنذار الحريق ثم تركض مسرعة حيث تركت حقيبتها الصغيرة ثم وقفت هناك في ذلك المكان المعزول تنتظر أن يصدر الجهاز صوته ..
ما هي الا ثواني وعلا صوت الجهاز كما توقعت فصاح أحد الحارسين :-
"حريق .."
ثم ركض كلاهما الى داخل المنزل لتقفز هي بسرعة من مكانها راكضة خارج القصر بأكمله وقد نجحت خطتها بالهرب ...
اما في الداخل فإستيقظ جميع من في المنزل فمنهم من أيقظه صوت الجهاز وآخرون إستيقظوا بفعل صياح الموجودين ..
كانت زهرة تجلس بجانب ابنتها بفزع وهمسة تحتضن ولديها بينما خرج كلا من راغب ووالده ومعهما فيصل لفهم ما يحدث حيث وجدوا الحارس يحمل السترة بعدما نجح في اطفائها وهو يخبرهم :-
"هناك من تعمد وضع هذه السترة بعدما أشعلها بالنيران أسفل جهاز الإنذار ..."
سأله راغب بنبرة حادة :-
"ما معنى هذا الكلام ..؟! من سيفعل هذا ..؟! ولم سيفعل ذلك .؟!"
ثم توقف عن حديثه للحظة قبل أن يسأل بإنفعال خفي :-
"هل تركتما البوابة الخارجية مفتوحة ...؟!"
نظر الحارسان الى بعضيهما قبل أن ينطق الآخر بتردد :-
" نحن تحركنا بسرعة ما إن سمعنا صوت الجهاز .."
لم يسمع راغب بقية حديثهما بل سارع يركض الى الخارج بحثا عن جيلان يتبعه فيصل عندما صاح به راغب وهو يشير بكفه :-
"شغل سيارتك وابحث عنها في هذا الإتجاه وانا في الإتجاه الآخر ... إبحث عنها جيد فلا أعتقد إنها إبتعدت كثيرا .."
ثم اتجه هو مسرعا نحو سيارته وشغلها ليقودها متجها يبحث عن جيلان هو الآخر ...
بعد مرور حوالي نصف ساعة ...
دلف كلا من راغب وفيصل الى صالة الجلوس بملامح جامدة لينهض راغب مرددا بإنفعال :-
" لم تجداها ... أليس كذلك ..؟! لقد توقعت ذلك .. لقد هربت الفتاة .. "
أضاف بعصبية بينما زوجته تحاول تهدئته لكن دون فائدة :-
" الفتاة صغيرة جدا .. الله وحده يعلم أين ذهبت الآن وماذا سيحدث لها ...!"
حاول راغب تهدئته هو الآخر فقال له :-
" اهدأ من فضلك يا بابا وأنا أعدك إنني سأجدها ..."
صاح عابد بنبرة متحاملة :-
"انت بالذات لا تتحدث ... كل ما حدث كان بسببك أساسا أنت وشقيقك الأحمق ... "
أكمل يلوم نفسه :-
" وأنا أيضا أتحمل المسؤولية ... ما كان علي الإعتماد عليك .. ما كان علي سماع كلامك وموافقتك على ما قررته ..."
هتف فيصل بتردد :-
"اهدأ من فضلك يا بابا ..."
لكن عابد كان غضبه يزداد فصاح بانفعال أكبر :-
"كيف تركتموها لوحدها..؟! كان يجب أن يبقى أحدكم معها .."
نظر راغب الى همسة فنطقت بتلعثم :-
"في الحقيقة كنت معها ولكن ..."
نظر عابد نحو همسة وصاح بها :-
"ولماذا تركتها يا همسة ...؟! كيف تتركينها لوحدها ...؟ ألا تعلمي وضعها وما تمر به .."
أخفضت همسة رأسها بخجل بينما صدح صوت راغب الصلب :-
" من فضلك يا بابا .. لا تصرخ على زوجتي .."
هتفت همسة بتأنيب :-
"راغب من فضلك ..."
لكن راغب أوقفها بحزم :-
"انتظري من فضلك ..."
أكمل يخبر والده :-
" لا تنسى إن زوجتي حامل يا بابا والإنفعال ليس جيدا عليها كما إنها لا دخل لها فعليا بما حدث فإبنك المبجل هو من طلب منها مغادرة الجناح ليتحدث مع جيلان على إنفراد بموافقة جيلان نفسها ..."
أضاف وهو بالكاد يسيطر على أعصابه :-
" كما أرجو أن تتوقف عن لومي بإستمرار على ما حدث ولا تنسى إنك وافقت على هذا القرار الذي ما كنت لأنفذه دون موافقتك ولا تنسى أيضا إن فكرة الزواج كانت من أخيها فلا تلمني لوحدي لإنك وافقت وإرتضيت بينما كنت تستطيع أن تنهي الفكرة في مكانها برفض قاطع منك وما كان أحد يستطيع مجادلتك حينها ..."
أنهى كلماته الجادة ثم غادر تاركا والده يتابعه بملامح متجهمة بينما وقفت همسة مكانها للحظات قبل أن  تندفع خلفه ..
.....................................................................
دلفت خلفه الى الجناح لتتوقف مكانها وهي تجده يحاول الإتصال بشخص ما قبل أن يخبره بحزم أن يبحث عن إبنة عمه بعدما أعطاه المعلومات التي يحتاجها ليغلق الهاتف وهو يسألها بسرعة :-
" هل لديك صورة لها في هاتفك ..؟!"
هزت رأسها وقالت بتردد :-
"نعم ولكن أنا معها في الصورة .."
قال بسرعة :-
" أرسليها لي فورا ..."
سارعت تحمل هاتفها وترسل الصورة له ليفتحها ويتأمل إبتسامة جيلان الصادقة بجانب زوجته التي تبتسم هي الأخرى فيتنهد وهو يسارع في قص الصورة حيث حذف النصف الذي يحوي زوجته ثم أرسل صورة جيلان وحدها الى الشخص الذي كلفه بالبحث عنها ..
رمى بعدها هاتفه فوق السرير ثم اتجه نحو الكنبة وجلس عليها واضعا رأسه بين كفيه بتعب ...
سمع صوتها تسأله بقلق :-
" هل أنت بخير ..؟!"
رفع عينيه نحوها يتأمل ملامحها الجادة فهز رأسه بنفي لتهتف برقة :-
" ستجدها ان شاءالله ..."
نطق ببطأ :-
" كلانا يعرف إن الأمر ليس سهلا ..."
هزت رأسها ثم قالت بجدية :-
" ربما تعود بنفسها فهي لا تعرف أحدا غيرنا ..."
قال بقلق :-
" اتمنى أن تعود ..."
زفر أنفاسه مضيفا :-
" يكفي إن الجميع يحملني ذنب ما حدث معها ..."
نطقت بتردد :-
" لا بأس يا راغب ... انت ايضا لم يكن عليك التحدث بهذه الطريقة مع عمي .."
نظر لها بحدة تجاهلتها وهي تكمل بشجاعة :-
" لا تنسى إنه والدك والأهم هو قلق كثيرا على ابنة شقيقه .."
قاطعها بحدة :-
" أنا كنت أدافع عنك يا همسة .. كنت أدافع عنك لإنني لا أقبل أن يرفع أي شخص صوته عليك حتى لو كان والدي .. "
أخفضت عينيها أرضا بخجل فأكمل ببرود :-
" إذا كان هذا يرضيكِ فأنا لا يرضيني .."
سألته بجدية وهي تعاود رفع عينيها نحوه مجددا :-
" إذا أنت تصرفت هكذا لإنه صرخ علي ، يعني لو كان صرخ عليك أنت ما كنت لتتصرف هكذا ..؟!"
أجاب راغب بجمود :-
" كنت سأضغط على نفسي كي أتجاهل الأمر لإنه والدي .."
قالت بصدق :-
"ولهذا أنا فعلت نفسي الشيء وكان عليك أنت فعل ذلك أيضا .."
نظر لها بدهشة لتقول بجدية :-
" أنت تعلم معزة عمي عابد عندي مثلما تدرك كم معزتي عنده وكم إنه يحبني ويعاملني مثلما يعامل جميع أبنائه حتى قبل أن نتزوج وأصبح كنته .. عمي عابد يتعامل معي طوال عمره كما يعاملكم جميعا .. يعاملني كإبنته تماما وعندما يغضب مني يؤنبني كنا يفعل مع تولاي .. لذا لم يكن هناك داعي لأن تتصرف هكذا فأنا طوال عمري واحدة منكم ووالدك بمثابة أب لي ..."
مسح على وجهه بتعب مرددا بتهكم :-
" كالعادة .. دائما ما أكون أنا المخطئ من وجهة نظرك ..."
قالت بجدية :-
" أنت دائما ما تعتقد ذلك .. تعتقد إنني أراك المخطئ .."
سألها بتهكم :-
" أليست هذه الحقيقة ..؟!"
ردت بثبات :-
" نعم يا راغب .. إذا كنت تتحدث عنا فأنت المخطئ .. وإذا كنت تتحدث عن جيلان فأنت أيضا مخطئ وإن لم تكن المخطئ الوحيد وهناك غيرك من يشاركونك في هذا الخطأ ..."
انتفض من مكانه يردد بقوة :-
" كلا يا همسة ... انا وانت نعرف جيدا من دفع بنا الى هنا .. لا ترمي الأخطاء كلها فوق رأسي كي تظهري بمظهر الزوجة المسكينة المضحية .. كلانا يعرف إنك لست كذلك .. مثلما كلانا يعرف إن كلينا أخطأ ولكن هناك فرق بين خطأ وآخر ..."
أنهى كلماته وهو يمنحها نظرة متسلطة لتنظر له بقسوة جديدة عليها وهي تقف أمامه عاجزة عن إيجاد الرد المناسب فيمنحها إبتسامة باردة وهو يخرج من الجناح بأكمله ..!
...................................................
في صباح اليوم التالي ..
فتحت عينيها على صوت طرقات على باب غرفتها لتعتدل في جلستها وهي تسمح للطارق بالدخول فتدخل الخادمة وهي تحمل باقة من الورود الجذابة تأملتها ليلى بحيرة لتضعها الخادمة على الطاولة أمامها وهي تخبرها :-
" لقد وصلت منذ قليل ..."
سألتها قبل أن تهم بالمغادرة :-
" هل تريدين مني شيئا آخر يا هانم ..؟! "
نطقت ليلى بخفوت :-
" كلا ، شكرا ..."
غادرت الخادمة بينما نهضت ليلى من مكانها تسير نحو باقة الورد ..
حملت الباقة التي نالت إعجابها بورودها الأنيقة لتحمل الكارت وتقرأ ما به ..
" كان من المفترض أن تسمعين مني هذا  الكلام بعد تلك السهرة في روما ولكن الظررف وقتها لم تسعفني ...
لطالما عشقت اللون الأسود دون سبب محدد ، أما اليوم فأصبح لدي سبب يكفيني لذلك .. لو تعلمين كيف تبدين وأنتِ ترتدين الأسود يا ليلى !! تبدين قمة في الرقى والأنوثة والجاذبية .. تبدين أميرة بملامحك الأرستقراطية النبيلة وأناقتك الكلاسيكية والعصرية في نفس الوقت ..
في ذلك اليوم أخبرتكِ إنك نجمة إستثنائية ، آسف لإنني أخطأت الوصف بل ظلمتك بهذا التشبيه ..
انتِ لست نجمة ، انتِ شمس مشرقة ضيائها ينير العالم بأجمعه .. شمس يسعى الجميع للإقتراب منها حتى لو كلفهم ذلك الإكتواء بنيرانها ...
إرتدي الأسود دائما فهو يليق بكِ ..!!
كنان نعمان .."
تذكرت تلك السهرة التي تلاها إنهيارها ...
الفستان الأسود الذي إرتدته وقتها وحديثهما وغزله الصريح بها وهو يخبرها إنها تبدو وسط الجميع كنجمة إستثنائية لا ينطفئ بريقها ..!
شعرت بتشتت شديد طغى عليه القلق ..
قلق بات يصاحبها منذ أن دخل حياتها هذا الرجل ...
قلق لم تعرفه سوى بوجوده ...
تمتمت بضيق :-
" ما هذه الورطة ..؟!"
نعم هي تشعر إنها تورطت .. تورطت معه ولكن ما لا تفهمه حقا هو ذلك الشعور الذي يملأها بوجوده .. مزيج من القلق والترقب والحذر .. مشاعر لا تعرف سببها ولا تفهمها ..
لم َ وجوده يبدو مقلقها لهذه الدرجة ولمَ مجرد رسالة قصيرة منه تمنح روحها كل هذا التشتت والتوجس ..؟!!!
سارعت تحمل هاتفها وتتصل به ..
غضبها يتفاقم داخلها وهي تتسائل عن كم الجرأة التي يحملها وهو يتحدث عنها ويغازلها بشكل صريح ..
جاءها صوته السلس يرحب بها ..
همت بالحديث وتأنيبه على تصرفاته لكنها فجأة وجدت نفسها عاجرة عن نطق ما أرادت قوله وكأن جميع الحديث الذي أعدته في رأسها خلال الدقيقتين الفائتتين تبخر ...
" اهلا كنان بك .."
قالتها برسمية وهي تضيف :-
" أشكرك على باقة الورد الجميلة لكن أرجو ألا يتكرر هذا الموقف مرة أخرى ..."
رد ببرود :-
" للأسف لا يمكنني أن أعدك بذلك ..."
كزت على أسنانها وهي تنطق بتحذير :-
" كنان بك ... من فضلك .."
قاطعها بهدوء :-
" ليلى هانم ..."
توقف للحظة ثم قال :-
" هل يمكنني دعوتك على العشاء الليلة ..؟!"
سألته ببرود:-
" ما المناسبة ..؟!"
رد ببرود مماثل :-
" ستعرفين سبب الدعوة عندما تأتين ..."
قالت بتحدي :-
" وإذا قلت لن آتي .."
قال بخفة :-
" رفض دعوتي تصرف لا يليق بهانم راقية مثلك يا ليلى ..."
ضغطت على فكيها بقوة ليضيف وهو يبتسم بإستمتاع :-
" إنها مجرد دعوة على العشاء وأنا أعدك إنك لن تندمين على قبولها .."
زفرت أنفاسها ثم إلتزمت الصمت للحظات قبل أن تنطق بنبرة باردة :-
" حسنا أقبل .."
ابتسم مرددا :-
" سأنتظرك مساءا في المطعم الذي سأرسل عنوانه لك بعد لحظات في رسالة ..."
أنهت المكالمة معه وهي تنظر الى نفسها في المرآة بتردد ..
هي تعلم جيدا لماذا يريد رؤيتها على العشاء ..
تدرك سبب الدعوة الذي رفضته بحدة مسبقا ...
زفرت أنفاسها بتعب وهي تجلس على سريرها لتسمع صوت طرقات على باب غرفتها مجددا فسمحت للطارق بالدخول لتجد والدتها تدلف الى الداخل وهي تردد :-
" صباح الخير حبيبتي ..."
أكملت وهي تنظر الى باقة الورد الموضوعة جانبها فوق السرير :-
" من أرسل هذه الباقة يا ليلى ..؟!"
نظرت لها ليلى بصمت للحظات قبل أن تنهض من مكانها وتتجه نحو والدتها تضمها بقوة وهي تخبرها :-
" أنا أحتاجك يا ماما ..."
ربتت فاتن فوق ظهرها وهي تقول :-
" وأنا هنا يا حبيبة ماما ..."
أكملت وهي تنظر الى وجهها بعدما إبتعدت عن أحضانها :-
" تحدثي يا ليلى .. أنا أسمعك يا إبنتي .."
تنهدت ليلى بتعب ثم جذبت والدتها من كفها وأجلستها على السرير ثم جلست جانبها ..
نطقت بتردد ظهر على ملامح وجهها :-
" كنان نعمان .."
توقفت لوهلة ثم أكملت بنفس التردد :-
" يريد الزواج مني يا ماما .."
................................................
تحدثت ليلى عما حدث معها في الفترة الأخيرة لوالدتها ..
أفضت بمكنونات قلبها لها ..
حدثتها عن لقائها بنديم وحسم كل شيء جمع بينهما يوما ..
وأخبرتها عن كنان منذ أول يوم رأته فيه وحتى هذه اللحظة ..
قالت فاتن بجدية بعدما أنهت ليلى حديثها :-
" يعني كنان يريد الزواج منك وهو جاد في عرضه .."
هزت ليلى رأسها بصمت لتضيف فاتن بتمهل :-
" وأنت رفضت عرضه في المرة الأولى ..."
هزت ليلى رأسها بنفس الصمت لتسألها والدتها بجدية :-
" ورغم إنك تعلمين إن سبب دعوة الليلة هو نفس العرض وافقتِ على دعوته ..؟! هل هذا يعني إنك تراجعت عن الرفض ..؟!"
ردت ليلى بسرعة :-
" كلا .."
سألتها والدتها بإهتمام :-
" لماذا وافقت إذا على الدعوة طالما جوابك لن يتغير ..؟!"
نهضت ليلى من مكانها وأخذت تسير بقميص نومها المحتشم وهي تخبر والدتها بتوتر خفي :-
" لإنني وجدت رفض الدعوة تصرف غير لائقا .. أليس كذلك يا ماما ..؟!"
قالت فاتن بجدية :-
" أخبريني يا ليلى ..؟! كيف ترين كنان هذا ..؟!"
توقفت ليلى عن سيرها تنظر الى والدتها بحيرة للحظات قبل أن تجيب بصدق :-
" رجل قوي .. جذاب وذو عقلية فذة .. "
توقفت للحظة ثم أكملت بتردد :-
" لكنني لا أشعر بالراحة نحوه .."
" لماذا ..؟!"
سألتها والدتها بتعجب قبل أن تضيف بتساؤل :-
" ما سبب شعورك هذا ..؟! هل الأمر يتعلق بأخلاقه ..؟! أم هناك شيء آخر ..."
قالت ليلى بخفوت :-
" ليس أخلاقه .. يعني انا لا أعرف طبيعة أخلاقه .. نائلة قالت إنه ذو علاقات نسائية ولكنه لم يفعل شيء يظهر ذلك أو بالأحرى حتى اليوم هو يتصرف بأخلاق رفيعة رغم جرئته التي تزعجني كثيرا في بعض كلامه وتصرفاته .."
حمحمت فاتن تسألها :-
" كيف يعني ..؟! ماذا قال لك أو فعل ..؟!"
أزاحت ليلى خصلة من شعرها الأشقر خلف أذنها وأجابت بوجه متورد :-
" هو يلقي كلمات الغزل على مسامعي .. لكن ليس غزلا وقحا بالطبع .. أساسا لو فعل هذا كنت سأتصرف معه بما يليق بذلك ..."
تأملت فاتن تورد وجنتي ابنتها بإهتمام بينما شردت ليلى في تلك القبلة الخفيفة التي طبعها فوق شفتيها وهي تفكر إنها بالطبع لن تخبر والدتها عنها ..
اما والدتها فكانت تلاحط شيئا ما مختلفا في إبنتها وهي تتحدث عن كنان ..
شيئا غريبا ..وكأنه رغم ضيقها منه هناك حماس يشع من عينيها وهي تتحدث عنه ...
قالت فاتن أخيرا بجدية :-
" عليك أن تتأكدي من أخلاقه أولا يا ليلى .."
" ثم ..؟!"
سألتها ليلى بجدية لترد فاتن :-
" القرار لك .. لكن عليك قبل إتخاذ قرار نهائي سؤال نفسك ، هل أنت قادرة على الدخول في علاقة جديدة الآن ..؟! هل أنت مستعدة للإرتباط مجددا ..؟!"
نظقت ليلى بحيرة :-
" لا أعلم .. لو كنت أنتِ مكاني ، ماذا كنت ستفعلين ..؟!"
صمتت والدتها لوهلة بتفكير قبل أن تقول :-
" سؤال صعب يا ليلى .. هل تعلمين شيئا ..؟! من جهة أفكر إنه من الأفضل أن تنتظري .. تنتظري حتى تتجاوزي محنتك هذه وتتخطي مشاعرك القديمة ... تنتظري حتى تكوني مستعدة كليا للدخول في علاقة جديدة ومرات أخرى أفكر إنه ربما يكون هذا ليس صحيحا .. إنه ربما من الأفضل أن يدخل أحدهم حياتك ... يحرك أحدهم مشاعرك الراكدة تلك .. ربما يساعدك في تخطي مشاعرك القديمة بدلا من بقائك لوحدك .. أخشى إن وحدتك تنعكس بشكل سلبي عليك ... انا حقا لا أعرف أين الصحيح ..."
إسترسلت بجدية :-
" واقعيا .. كنان نعمان رجل بمواصفات أكثر من رائعة .. رجل تتمناه أي أم زوجا لإبنتها خاصة إذا تأكدنا من حسن أخلاقه وصدق نواياه وهذا ستكتشفينه أثناء فترة إرتباطكما .. منطقيا يجب أن تسمحي له بدخول حياتك ... أن تجربي من جديد ولكنني في نفس الوقت أخشى أن يكون هذا القرار سريعا للغاية فيأتي بنتائج سلبية عليك ..."
تأملت ليلى والدتها بنفس الحيرة وعقلها يراجع جميع ما قالته فتتسائل مجددا ..
هل تقبل عرضه أم ترفضه للمرة الثانية دون رجعة ..؟!
........................................................
كانت تتأمل شقيقتها والدموع تملأ عينيها ...
تتأمل ملامحها الهادئة وهي تنام بسلام في سرير المشفى غير واعية لأي شيء مما يدور حولها ...
هي على هذه الحال منذ مدة طويلة ..
منذ أيام توقفت عن عدها ...
لا تعلم متى سوف تستيقظ ورغم إن شريف يطمأنها يوميا على وضعها المستقر لكنها لن ترتاح حتى تستيقظ ..
حتى تفتح عينيها وتتحدث معها ...
" نانسي ..."
همست بها بصوت مبحوح وهي تمد كفها تمسك بها يدها الباردة قليلا تضيف بترجي :-
" متى سوف تستيقظين من غيبوبتك يا نانسي ..؟! لقد تأخرتِ كثيرا يا حبيبتي ..."
تساقطت دموعها فوق وجنتيها بحرارة بعد أن فشلت في السيطرة عليها فأكملت تتوسلها وكأنها تسمعها:-
" انا خائفة كثيرا يا نانسي .. خوفي عليك يزداد كلما تأخرتِ في الإستيقاظ .. إستيقظي لأجلي ..."
إنحدرت بنظراتها نحو بطنها المنتفخ لتسترسل بوجع :-
" الطفلان ما زالا متمسكين بالحياة ... وضعهما يستقر تدريجيا .. أشعر إنهما سيولدان على خير ..."
سيطرت على بكائها وهي تهمس لها :-
" يجب أن تستيقظي يا نانسي قبل موعد ولادتك ... صغارك يحتاجون أن يجدوا والدتهم عندما يولدوا .. يحتاجونك قوية ..."
عادت الدموع تشق طريقها فوق وجنتيها وهي تكمل بنبرة معذبة :-
" وأنا أحتاجك أيضا .. أحتاجك كثيرا ..."
إنتبهت الى أشارة الممرضة التي تطلب منها المغادرة فقد إنتهى الوقت المحدد للزيارة لتهز رأسها بصمت وهي تعاود النظر نحو شقيقتها فتطبع قبلة خفيفة فوق وجنتها وتتحرك خارج المكان لتخلع تلك الملابس التي كانت ترتديها وتمنحها للممرضة قبل أن تجلس على احد الكراسي الموضوعة خارج الغرفة التي تمكث بها شقيقتها تمسح دموعها بأناملها عندما رن هاتفها فوجدت والدتها تتصل بها لتزفر أنفاسها بضيق فهي لم تعد تطيق حتى التحدث معها وهي ترى تجاهلها الواضح لنانسي وعدم الإهتمام بالسؤال عنها حتى بينما تقف هي عاجزة عن إخبارها عما يحدث تلتزم الصمت فقط وتتحجج بعمل كاذب كي تقضي معظم وقتها مع شقيقتها خارج المنزل ...!
تجاهلت إتصال والدتها وهي تخفض صوت نغمة الهاتف عندما وجدت شريف يتقدم نحوها بنفس تلك الإبتسامة الهادئة فقال وهو يقف أمامها :-
" كيف حالك يا هايدي ..؟!"
وكأنه فجر جميع غضبها الكامن داخلها عندما إنتفضت من مكانها تصيح بصوت منفعل :-
" كيف سأكون مثلا ..؟! لست بخير .. شقيقتي لم تستيقظ حتى الآن وشقيقك المبجل لا أثر له ... لقد تركها هنا وإختفى دون أن يكلف نفسه بالبقاء جانبها والإطمئنان عليها وكأنها ليست زوجته بل وتحمل طفليه .."
أكملت بنفس الإندفاع ودموعهاعادت تملأ مقلتيها :-
" ألا يكفي إنه سبب ما حدث ..؟! أنا لم أر شخص مثله في حياتي ..! حقير وعديم المسؤولية ..كيف أمكنه أن يفعل هذا .. ؟! كيف تركها هنا دون مبالاة .. ؟! انا متأكدة إنه سيكون أكثر من سعيد لو ماتت وتخلص منها هي والطفلين .."
توقفت عن حديثها وهي بالكاد تلتقط أنفاسها ليهتف شريف بتروي متفهما حالتها :-
" اهدئي من فضلك يا هايدي ... من الواضح كم إنك متعبة جسديا ونفسيا ..."
صاحت ودموعها عادت تتساقط فوق وجنتيها :-
" نعم أنا متعبة وكثيرا أيضا وهذا بسبب شقيقك .. كل ما أصاب شقيقتي بسببه .. ذلك اللعين .. عديم المروءة والإحساس ..."
تنهد شريف مرددا بصدق :-
" أنا آسف حقا يا هايدي .. أعتذر لك عن جميهع تصرفات شقيقي ..."
رأت الصدق والأسف في عينيه لتسمعه يضيف :-
" صدقيني لو كان بيدي لغيرت كل هذا .. ومع هذا أنا أعدك إنه سيدفع ثمن جميع أفعاله ..."
توقف يأخذ نفسه ثم يضيف :-
" انا فقط أنتظر إستيقاظ نانسي والإطمئنان عليها ثم سأتصرف معه بالطريقة التي تليق به وبتصرفاته .."
سألته بنبرة باكية والذعر إحتل عينيها :-
" وماذا لو لم تستيقظ ..؟! ماذا لو ..."
ثم توقفت ولم تستطع نطقها ليقول بسرعة متأملا وجهها الذي إنخفض أرضا مستمعا لصوت نحيبها الخافت :-
" سوف تستيقظ .. صدقيني سوف تستيقظ بإذن الله .. وضعها مستقر عموما ..."
تقدم نحوها يضع كفيه فوق كتفيها بدعم قائلا :-
" أنت فقط اهدئي لأجلها فهي تحتاجك وسوف تحتاجك أكثر عندما تستيقظ .."
رفعت نظراتها نحوه تردد بأمل :-
" لتستيقظ فقط وسأكون بجانبها وأفعل لها ما تريد .."
ابتسم قائلا :-
" سيحدث قريبا بإذن الله ..."
تأملت إبتسامة الهادئة الرزينة وكفيه الموضوعتين فوق كتفيها تدعمانها فتنحنحت قائلة بخجل وهي تتذكر إنفعالها الشديد في وجهه قبل لحظات :-
" أنا آسفة حقا دكتور .. لقد صرخت بوجهك وكنت منفعلة بشدة وأنا أتحدث معك ..."
قاطعها وهو يبعد كفيه عن كتفيها :-
" لا تعتذري يا هايدي .. أنا أتفهم حجم الضغوطات التي تمرين بها ..."
نطقت بإستيحاء :-
" ولكن أنت لا دخل لك كي أتحدث معك بهذه الطريقة ويرتفع صوتي عليك ..."
ابتسم قائلا بنبرة ودودة :-
" صدقيني هذا طبيعي جدا .. من الطبيعي أن تفقدي سيطرتك على أعصابك بين الحين والآخر خاصة في وضع كالذي تمرين به .."
تنحنحت تهز رأسها بتفهم وحرج ليكمل بنفس الإبتسامة :-
" لا داعي للإعتذار ولا تنسي يا هايدي إننا أصبحنا أقرباء ... "
ابتسمت وهي تشكره بصدق :-
" شكرا يا دكتور .. قرابتك تسعدني حقا .."
قال بصدق :-
" وأنا أيضا يا هايدي .."
أكمل بنفس اللطف :-
" وتوقفي من فضلك عن كلمة دكتور .. كما قلت قبل لحظات .. نحن أصبحنا قريبين فلا داعي للرسميات .. يمكنك أن تناديني شريف فقط دون ألقاب ..."
تنحنت تردد بحرج خفي :-
" حسنا يا شريف .. شكرا لك ..."
اتسعت ابتسامته مرددا :-
" عفوا يا هايدي ..."
أنهى حديثه وهو يربت فوق كتفها قائلا :-
" سأذهب لأتفقد بعض مرضاي .. تعالي إلي عندما تحتاجين أي شيء وأنا سأعود مساءا للإطمئنان على نانسي .."
هزت رأسها بتفهم وهي تبتسم له مجددا بنفس الإمتنان ليتحرك هو بعدها متجها لعمله مجددا تاركا إياها تعود وتجلس فوق كرسيها وهي تدعو الله أن تستيقظ شقيقتها بأسرع وقت وتطمئن عليها ...
..................................................
كانت تتأمل هاتفها بشرود...
تريد الإتصال به والسؤال عنه ولديها الحجة لذلك لكنها ما زالت مترددة ..
لا تعرف لماذا تشعر بالتردد ..
هل تخشى أن يكشفها ...؟!
أن يعرف حقيقة مشاعرها ..؟!
وما المشكلة في هذا ..؟!
هو أيضا يحمل مشاعرا نحوها ...
يحبها مهما حاول إخفاء هذا ...
أحيانا تتفهمه .. فالأمر ليس سهلا .. لكن مشاعرها تستحق المحاولة والنجاح ...
هي لطالما كانت فتاة محاربة ... لا تعترف بالهروب كوسيلة نجاة ...
إذا ما أرادت شيء تحارب كي تناله طالما هي لا تتجاوز على حقوق غيرها ..
طالما ما تريده حق مشروع لها ...
هذه طبيعتها ... هكذا إعتادت أن تكون في جميع مراحل حياتها فلن تأتي الآن وتجبن أمام موقف كهذا .. موقف يتعلق بمشاعرها ... مشاعرها التي تحركت لأول مرة اتجاه شخص ما ...
حسمت أمرها وإتصلت به وقلبها أخذ يقرع كالطبول شوقا وليس قلقا او توترا ...
هذه المشاعر برمتها جديدة عليها ..
من المفترض أن تخشى مشاعرها الوليدة لكنها لا تفعل ..
منذ متى وهي تخشى شيئا ما ..؟!
منذ متى وهي تسمح للخوف أن يتكمن منها ..؟!
جاءها صوته الرجولي المحبب لها يرحب بها بنبرته الرخيمة فردت تحيته وهي تسأله عن أحواله بنبرة إعتيادية لا تعكس مشاعرها على الإطلاق ..
سمعت رده المطمئن على صحته وسعدت عندما علمت بخروجه من المشفى وإستقراره في المنزل لعدة أيام ...
قالت أخيرا تذكر السبب الدي جعلها تتصل به والذي لم يكن سوى حجة للتواصل معه :-
" في الحقيقة أنا إتصلت بك بسبب عمار ... أخي عمار بعدما علم بما فعله فراس بات يريد أن يعاقبه .."
أكملت تستمر في كذبها وإن كان ما تقوله عن نوايا عمار حقيقة :-
" أردت إخبارك بذلك كي تتصرف ... يعني انا حاولت إقناعه أن يتراجع عما يفكر به لكنه على ما يبدو مصر على النيل منه .. انت لا تعرف عمار جيدا ولكنه صعب للغاية و ..."
قاطعها بجدية :-
" واقعيا لا يمكننا لومه .. اي شخص مكانه سيتصرف هكذا .. "
هتفت بتردد :-
" نعم أعلم ولكنك أخذت حقي وإنتهى الأمر .. انا بالطبع لا يمكنني إخباره بهذا ... يعني لو أخبرته بما فعلته أنت سأفتح أبوابا لا نهاية لها .. أساسا هو يؤنبني على خطبتي منه ..."
توقفت عن حديثها لوهلة ثم قالت بصدق هذه المرة :-
" ونديم لا يعرف شيئا وأنا بالطبع لا يمكنني إخباره بعد مرور هذه المدة عن ذلك الحادث .. حتى ماما وافقتني على عدم إخباره بعدما أكدت لها إن فراس لن يتعرض لي مجددا .."
قال فادي بجدية :-
" في الواقع لا أعرف ماذا أقول حقا يا غالية .. يعني فراس تسبب بالكثير من المشاكل لك و .."
قاطعته هي هذه المرة :-
" لا أنكر إنني من ساهمت بذلك يا فادي بعدما فعلته .."
سألها بإهتمام :-
" هل أنت نادمة إذا ..؟؟"
ردت بسرعة :-
" أبدا .."
أكملت بخفوت :-
" إعذرني على صراحتي ولكن شقيقك يستحق أكثر من هذا ..."
تنهد مرددا بصدق :-
" لا تعتذري يا غالية .. انت محقة .."
أضاف بجدية :-
" على العموم اطمئني .... انا سأتصرف في هذا الأمر .. لا داعي للقلق ..."
هتفت بجدية :-
" حسنا .. مع السلامة اذا ..."
شعر بنفسه إنه لا يريد إنهاء المكالمة الآن فهو لم يكتفِ من سماع حديثها ونبرة صوتها لكنه إضطر الى قول :-
" مع السلامة يا غالية .."
ثم أغلق الهاتف ليتأمل صديقه الذي يبتسم بتهكم له ليرفع حاجبه مرددا بغلظة :-
" نعم يا سيف .."
تقدم سيف نحوه مرددا بسخرية :-
" على أساس إنه لا يوجد شيء بينك وبينها يا فادي ... على أساس إنك لا تحمل أي شيء داخلك نحوها ..."
زفر فادي أنفاسه مرددا بتأفف :-
" توقف يا سيف .. لا مزاج لدي لسماع حديثك هذا ..."
قال سيف ببرود :-
" إعترف إنك وقعت يا سيادة المقدم .. وقعت في حب تلك الفتاة .. "
إسترسل عن قصد :-
" لقد غلبك الحب يا فادي ..."
عانده فادي :-
" أنت مصر إذا ... ليكن بعلمك أنت تتوهم فقط .."
ردد سيف ببرود :-
" لو ترى نفسك وأنت تتحدث معها ستدرك ما أعنيه ..."
أكمل وهو يتنهد بصمت :-
" توقف عن تصرفاتك هذه يا فادي ... الإنكار لا فائدة منه كما يبدو إنها تبادلك نفس المشاعر .."
أضاف وهو يتأمل تجهم ملامح صديقه :-
" لا أنكر إنه معك الحق في إنكارك ... فعلاقتكما لن تكون سهلة خاصة وهي كانت خطيبة شقيقك ..."
توقف يلاحظ تشنج ملامح فادي فيضيف بتمهل :-
" انا نفسي حذرتك من هذا الأمر ولكن طالما مشاعرك تحركت نحوها فإنكار تلك المشاعر ليس حلا .."
نطق فادي أخيرا بجدية :-
" أنت من تقول هذا يا سيف ..؟! هل نسيت حديثك قبل مدة قصيرة ..؟! أنت اول من قلت إن هذه العلاقة لا يجب أن تتم وحذرتني من التمادي في علاقتي معها ..."
قال سيف بجدية :-
" كنت أعتقد إن مشاعرك لم تتورط بعد معها .. لكن تبين لي العكس ... "
صمت قليلا ثم أكمل :-
" صحيح أنا لا أفهم في لغة المشاعر عموما ولم أجرب الحب مسبقا لكن هذا لا يلغي حقيقة ما تشعره .. هروبك من مشاعرك ليس هو الحل الصحيح .."
نظر فادي له بصمت للحظات قبل أن يهتف أخيرا بجدية وثبات :-
" أنا أحبها يا سيف .. أحبها كثيرا .."
أكمل وهو يقر بما يشعره نحوها :-
" لا أعرف كيف ومتى حدث هذا ... كل ما أعرفه إنني أحببتها ... أحببتها دون أن أعي ذلك ... غالية تسللت لقلبي دون وعي منك .. فجأة إكتشفت إنني مغرم بها .. فجأة وجدت نفسها هائما بتفاصيلها .. "
عاد يتنهد مجددا وهو يشعر بالراحة بعدما أفضى مكنونات قلبه ليكمل بجدية :-
"لو كان بيدي لما أحببتها .. لما سمحت لمشاعري بالتحرك نحوها لكن صدقني كل شيء حدث دون إدراك مني .. وقعت في غرامها فجأة .. فجأة وجدت نفسي أحبها ..."
ابتسم سيف مرددا بصدق :-
" أعلم إن الأمر ليس سهلا لكنك قلتها يا فادي .. ما حدث كان دون إرادة منك .."
قال فادي بإختناق :-
" لكن الأمر صعب ... صعب جدا ..انت تعرف فراس جيدا .... "
قال سيف بجدية :-
" دعك الآن من فراس ... ما يهم حاليا هو أنت .. إذا وجدت نفسك قادرا على تجاهل حقيقة علاقتها السابقة بفراس وما جمعها به ... إذا إستطعت تجاوز هذا فما يليه سيكون أسهل .. في النهاية أنت تستطيع الوقوف في وجه شقيقك لكن ليس قبل أن تتأكد من قدرتك على تجاوز علاقتهما السابقة بحيث لا يستطيع أي أحد أن يؤثر عليك من خلال هذه النقطة .."
أنهى سيف حديثه ليشرد فادي في كلماته وهو يسأل نفسه مجددا ..
هل هو قادر على تجاوز حقيقة علاقة غالية السابقة بفراس ..؟!
هل سوف يستطيع نسيان إنها كانت خطيبة شقيقه ..؟!
ومجددا لم يجد جوابا واضحا فتمكنت منه الحيرة أكثر ..
.............................................................
غادر المشفى وهو يحاول الإتصال بشقيقه ليجد هاتفه مغلقا كالعادة ...
سيطر الغضب الشديد عليه وهو يلعنه داخله ...
لم يتوقع يوما أن يصل شقيقه الى هذه الدرجة من الإستهتار واللا مبالاة ..
لا يفهم متى كان صلاح على هذا النحو ...
شقيقه الذي يصغره بأعوام كثيرة نشأ في بيئة حازمة عموما فوالدته لطالما تميزت بشخصيتها الصارمة رغم حنانها المفرط وقت الحاجة لكنها سعت بكل قوتها أن تنشأ رجالا بحق خاصة بعدما فقدت زوجها في سن مبكرة وهي ما زالت شابة صغيرة لم تتجاوز عامها الأربعين بعدما أنجبت صلاح بأقل من عام ..
نعم لقد توفي والده قبل مرور عام على ولادة صلاح حينها كان يبلغ هو عامه الحادي عشر وقد تحمل المسؤولية كاملة بصلابة غرستها والدته فيه وهي تخبره إنه رجل البيت بعد والده وتوصيه برعاية شقيقه الصغير كأب له ..
ورغم إن صلاح نشأ يتيم الأب لكن لم يبالغ أحدهم في دلاله بل حرصوا على تنشئته بشكل صحيح وربته والدته بنفس الطريقة التي تربى هو عليها وهذا ما يجعله يستغرب كيف أصبح هكذا ولماذا ..؟!
لا يوجد مبرر واحد لتصرفاته فهو يعرف شقيقه جيدا ويتواصل معه دائما حتى في فترة دراسته خارج البلاد ..
لم يكن هناك سببا ليصبح هكذا فهو لم يمر بتجربة معينة حولته الى هذا الشاب المستهتر عديم المسؤولية ...
من الواضح إنه طبع فيه وهذا بحد ذاته يجعله قلقا جدا عليه ...
زفر أنفاسه بتعب مفكرا في وضع نانسي والطفلين القادمين في ظروف كهذه ..
كل شيء يبدو سيئا للغاية ...
يشعر بالشفقة اتجاه الطفلين اللذين لا ذنب لهما في كل هذا ...
يرى مستقبلا ليس جيدا لكليهما إذا بقي شقيقه على وضعه هذه إضافة الى خوفه على حياة نانسي التي لم تستيقظ بعد رغم إستقرار وظائف جسدها الحيوية مما يجعله يرجح إن سبب غيبوبتها بات نفسيا أكثر مما هو عضويا ..
ربما هي ترفض الإستيقاظ مجددا والعودة الى الحياة بعدما تعرضت له ..
اتجه نحو سيارته في كراج المشفى وهو يفكر في المكان الذي سيكون فيه شقيقه الآن ..
شقيقه الغائب منذ أيام ...
صعد سيارته ورغما عنه تذكر ذلك النادي الليلي لكنه كذب أفكاره مؤكدا إنه من المستحيل أن يصل شقيقه الى هذه الدرجة من اللا مبالاة ...
تطلع أمامه بتردد قبل أن يحسم أمره ويتجه الى نادي شقيقه المفضل والذي أخذه صلاح إليه ما إن عاد من السفر كي يحتفل وقد أغضبه ذلك بشدة فالمكان لم يعجبه إطلاقا ...
بعد حوالي ثلث ساعة وقف شريف بسيارته أمام النادي ليهبط منها وهو يتجه الى داخل المكان ..
سار في المكان وهو يلعن شقيقه للمرة التي لا يعرف عددها فهو لم يكن ليدخل يوما الى مكان كهذا لولاه ...
تأمل المناظر التي بدت مثيرة للإشمئزاز وهو يبحث بعينيه عن شقيقه متمنيا داخله ألا يجده هنا كما يتوقع ...
لكن سرعان ما إنتبه إليه وهو يتوسط ساحة الرقص يراقص إحدى الفتيات التي ترتدي ملابس تظهر أكثر مما تخفي ..
إشتلعت عينيه بغضب حارق متأملا إياه وهو مندمجا في الرقص مع تلك الفتاة التي لا يناسبها سوى وصف عاهرة ..
إتجه بلا وعي نحو ساحة الرقص وجذبه من قميصه لينصدم صلاح من وجود شقيقه أمامه فيهمس متسائلا بعدم إستيعاب :-
" ماذا تفعل هنا شريف ..؟!"
وجد شريف الفتاة تمسك بصلاح من ذراعه تسأله بضجر :-
" من هذا ولماذا يمسك بك بهذا الشكل ..؟!"
دفعها شريف بكفه بقوة بعيدا عن شقيقه مرددا بنفور :-
" إبتعدي أنت الآن .."
ثم أمر شقيقه بنظرات حازمة :-
" وأنت تعال معي ..."
ثم دفعه أمامه ليسير صلاح على مضض خارج المكان يتبعه شريف بملامح متحفزة ...
ما إن أصبحا خارج المكان حتى صاح شريف به :-
" هل جننت يا هذا ..؟! ماذا تفعل هنا ...؟! "
أكمل وهو يندفع نحوه قابضا على ياقة قميصه :-
" هل تعلم كم مرة إتصلت بك ولم أجد إجابة ..؟! هل تعلم كيف كنت أبحث عنك وأنت تعيش حياتك بالطول والعرض وكأنه ليس هناك فتاة راقدة في المشفى من المفترض إنها زوجتك وتحمل طفليك ..."
صرخ صلاح وقد مل من هذا الحديث المكرر :-
" وما شأني أنا ... ؟! هي من تسببت بكل هذا لنفسها .. لا علاقة لي بكل ما حدث ..."
أكمل بعنجهية :-
" ألا يكفي إنني تنازلت وتزوجتها .. ؟! شخص آخر غيري ما كان لينظر في وجهها ... كان سيتركها تتحمل نتيجة خطئها .."
صحح شريف وهو بالكاد يسيطر على أعصابه :-
" تقصد خطئكما فالخطأ كان مشتركا بينكما يا بك .."
قال صلاح بتجهم :-
" بل خطئها وحدها ... هي من رمت بنفسها علي وانا رجل ... فقدت سيطرتي على نفسي وهي كالبلهاء لم تكن تعي ما يحدث .."
هز شريف رأسه مرددا بعدم تصديق :-
" هل جننت أنت ..؟! إلى أي درجة وصلك بك الحقارة والدناءة ..؟! تلك التي تتحدث عنها بهذا الشكل هي زوجتك يا حقير .. زوجتك يا أحمق وأم طفليك القادمين .."
قاطعه صلاح بعصبية :-
" لن يحدث ذلك .. هذان الطفلان ليسا مسؤوليتي .. انا لا أريدهما وهي تعلم هذا جيدا ..."
عاد شريف يقبض على ياقة قميصه يهدر به :-
" أقسم بربي إنني سأفقد آخر ما تبقى من تعقلي وأضربك ..."
أكمل وهو يهز جسده بعنف :
" كن رجلا لمرة واحدة في حياتك .. مرة واحدة فقط تصرف كالرجال يا صلاح ..."
أكمل وهو يدفعه بعيدا عنه بإشمئزاز :-
" الفتاة ما زالت في غيبوبتها وأنت هنا ترقص وتمرح دون أدنى إحترام لوضعها الحالي ودون مراعاة لكلام الناس عندما يرونك هنا لوحدك .. هل تريد فضحها أمام الجميع .. ؟! لكن عليك أن تعلم إن هذه الفضيحة لن تشملها وحدها بل ستشمل الطفلين أيضا .. طفليك .. طفلينا جميعا .."
أكمل وهو يشير نحوه بحزم متجاهلا ملامحه الغير راضية :-
" إسمعني يا هذا .. لن أسمح لك بتدمير سمعة العائلة بعد كل هذه السنوات .. أنا أسعى بكل مقدرتي لمعالجة هذه المشكلة دون التسبب بأي فضيحة لأيا منا وأنت تعيش حياتك بلا مبالاة ..."
نطق صلاح من بين أسنانه :-
" أنا حر ..."
صاح شريف به :-
" كلا لست حرا ..."
ثم توقف عن حديثه وهو يستمع الى رنين هاتفه ليسحب الهاتف من جيب سترته فيجد اسم هايدي يضيء الشاشة ..
شعر بالقلق وهو يجيب على هايدي فيأتيه صوتها على الفور فيردد بجبين متغضن :-
" نعم يا هايدي ... هل نانسي بخير ..؟!"
تأمله صلاح بتجهم وهو يرى ملامح شقيقه التي لم يظهر عليها شيء سوى القليل من الدهشة ليسألته بتردد :-
" ماذا حديث يا شريف ..؟!"
نظر له شريف بطرف عينيه قبل أن يتنهد وهو يجيب بإقتضاب :-
" يجب أن نذهب الى المشفى حالا .. نانسي إستيقظت من غيبوبتها قبل قليل ..
..............................................
وأخيرا دلف الى منزله بعد يوم كامل قضاه خارج المنزل ..
يوم كامل أخذ يسير بسيارته في مناطق البلاد دون وجهة محددة ..
ليوم كامل وكلماتها تلاحقه وتقتله دون رحمة...
" انت السبب .."
" أنا أكرهك .. أنت دمرتني ... أنت السبب .. لا أريدك في حياتي ..."
يتذكر إنهيارها ... دموعها وضياعها والأهم ثرثرتها بحديث واقعي يدرك صدقه جيدا ..
" انت سبب كل شيء ... لولاك ما كان ليحدث معي كل هذا .. انا تحطمت بسببك ... تعرضت للاغتصاب بسببك ... تزوجت مجبرة بسببك .. زوجي نالني رغما عنك بسببك والآن أنا أحمل طفلا داخلي بسببك ..."
كلماتها التي ذكرته بوعده لوالدته .. حبيبته الأولى ..
" ماما كانت دائما تخبرني إنك سندي بعدها .. دائما كانت تطمئني إنك موجود ... وإنه مهما حدث ستبقى انت معي وجواري .. "
كلماتها التي ذكرته بحقيقة خذلانه لها وقبلها خذلانه لوالدته عندما أهملها وتسبب في ضياعها ..
" وأنا صدقتها .. بكل أسف صدقتها .. بنيت آمالا عليك .. ظننتك ملاذي والحضن الدافئ الذي سيحتويني لكنك كنت جلادي يا عمار ... كنت ذنبي الذي لم يغفره القدر لي ..."
نعم هو كان جلادها قبل الجميع ...
لقد دمرها ..
تسبب في ضياعها ..
هو وحده من يحمل ذنبها فوق كاهله ..
ذنبها الذي يقيده دون أدنى رحمة ..
ذنبها الدي سيظل محفورا في روحه حتى آخر أنفاسه ..
أغمض عينيها يكتم دموعا ملأتهما وهو يتذكر كلامها ...
كلامها الذي يحرق روحه ...
روحها التي بقدر ما أحبتها بقدر ما ألمتها وتسببت في أذيتها ..
" لقد ترجيتك يا عمار .. ترجيتك ألا تتركني هنا .. ألا تزوجني منه .. توسلتك ..هل تتذكر .. لكنك رفضت بكل تبجج كعادتك .. وزوجتي منه .. رميتني هنا ولم تسأل عني ..."
نعم ترجته .. ترجته لكنه لم يبال .. تصرف بعنجهية كالعادة ظنا منه إنه يفعل ما هو صحيح ..
اللعنة عليه .. سيظل يلعن نفسه دون توقف ...
ليته سمعها .. ليته لم يفعل ما فعله .. ليته قام بتلبية رجائها ...
إختنق حلقه بقوة وهو يقف منتصف صالة الجلوس يتأمل المكان حوله بوجع شديد وذكرى مواجهته الأخيرة بها تدمره كليا ..
يسمع صوتها وهي تصيح به .. ترشقه بكلمات الكره ..
جيلان تكرهه .. أخته الصغيرة تكرهه .. الذكرى الوحيدة التي بقيت له من والدته الحبيبته باتت لا تريده ...
" اخرج من هنا ... اتركني وشأني .. انا لا أريدك ولا أطيقك .. انا اكرهك .. اكرهك يا عمار .."
عاد صياحها يصدح في عقله فيعتصر قبضته وهو يتذكر كلمات الكره السامة التي أطلقتها في وجهه ..
يحاول السيطرة على دموع ستظهر ضعفا لا يرغبه ...
ومن الخلف صدح صوتها تنادي بإسمه فإلتفت نحوها بلهفة ..
لهفة رجل على وشك السقوط في حفرة مظلمة وهي وحدها من تمتلك طوق نجاته ...
" شيرين ..."
همس إسمها بنبرة ضعيفة تحمل أوجاع ملأت روحه لتتقدم نحوه تعانقه بسرعة وهي تتذكر حديث منى عما حدث مع جيلان وكيف ظلت تنتظر طول الليلة السابقة على أمل أن يعود حتى فقدت صبرها وكادت أن تبلغ الشرطة كي تبحث عنه ..
سمعته يهمس بنبرة حزينة :-
" جيلان يا شيرين .. "
ثم أضاف بنفس النبرة المعذبة :-
" جيلان تكرهني يا شيرين ... جيلان لا تريدني ..."
همست شيرين له تواسيه :-
" اهدأ حبيبي .. اهدأ ارجوك ..."
تمتم وهو يشدد من عناقها :-
" لا يمكنني يا شيرين .. "
أضاف بصوت خافت :-
" إنها جيلان يا شيرين .. جيلان يا شيرين .. لا أستطيع تحمل هذا ... لا أسطتيع تحمل ما قالته .. لا أستطيع تحمل خسارتها ..."
إبتعدت عنه قليلا تنظر لعينيه الحمراوين مرددة بتوسل :-
" اهدأ ارجوك .. انت لن تخسرها .. صدقني .."
هز رأسه نفيا يهمس بنبرة متحسرة :-
" لكنني خسرتها بالفعل .. هي لم تعد تريديني .. باتت تكرهني وتكره وجودي .."
أكمل بضعف :-
" أنت لم ترِ نظراتها إلي ولم تسمعي حديثها معي ... لقد طردتني بعدما أخبرتني إنها تكرهني ولا تريدني في حياتها ..."
شهقت شيرين عندما شاهدت دموعه تتساقط بينما يسترسل هو :-
" انا أستحق هذا .. لقد دمرتها ... دمرت حياتها ومستقبلها .. وها قد خسرتها كما خسرت والدتي ..."
ثم تغضن جبينه وكأنه تذكر لتوه والدته وهو يسترسل :-
" والدتي لن تسامحني ... لن تغفر لي .. يا إلهي ... ماذا فعلت أنا ..؟! ماذا فعلت بنفسي وبها ..؟!"
تأملت شيرين ضعفه وضياعه ..
بدا وكأنه يهلوس .. فاقد للتوازن كليا ..
لأول مرة تراه بهذا الشكل .. بلا حول ولا قوة ...
لم تتصور في أبشع أحلامها أن ترى عمار الخولي بهذا الشكل ..
زوجها وحبيبها يقف أمامه يبكي كطفل صغير ..
ينتحب أخته وخسارته لها ..
بدا ضعيفا للغاية ... منهكا كليا .. وضائعا وعاجزا أيضا ..
لم تتحمل رؤيته على هذا النحو فسارعت تقبض على رأسه بين كفيها تخبره بنبرة قوية متماسكة :-
" تماسك يا عمار .. ما تفعله ليس حلا .. أنت يجب أن تتماسك ... حتى لو أخطأت .. ستصلح جميع أخطائك .. تماسك من فضلك ... لأجل جيلان نفسها يا عمار .."
ابتسم بسخرية مريرة وهو يردد:-
" جيلان لم تعد تريدني يا شيرين .. إفهمي هذا .. لقد فقدتها يا شيرين .."
نهرته بحزم :-
" كلا لم تفقدها .. لم ولن يحدث هذا .. صدقني ..."
تأمل عينيها التي تنظران له بقوة وصلابة تخبره أن يتماسك ويشد أزره بينما تتحدث هي بنفس القوة والثبات :-
" كل شيء سيكون بخير ..فقط تماسك ولا تنهار .. "
أضافت بصوت متوسل :-
" أنت لا يجب أن تنهار مهما حدث يا عمار .. يجب أن تبقى قويا ثابتا قادرا على مواجهة هذه العاصفة وتجاوزها بسلام ... "
سألتها بعدم إقتناع :-
" هل تعتقدين إنني سأتجاوزها ..؟!"
ردت على الفور بثقة :-
" ستتجاوزها بل سنتجاورها نحن الإثنان ومعنا جيلان ..."
ثم فوجأ بها تسحب احد كفيه وتضعه فوق بطنها مرددة بعينين لامعتين :-
" ومعنا طفلنا القادم يا حبيبي .."
................................................................

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) Where stories live. Discover now