الفصل السابع والأربعون ( الجزء الثاني )

3.1K 171 23
                                    

الفصل السابع والأربعون ( الجزء الثاني )
في صباح اليوم التالي
فتحت عينيها على صوت منبه الهاتف فسحبته بسرعة تطفئ المنبه مقررة عدم الذهاب الى جامعتها اليوم فالوضع لا يتحمل أساسًا لذا ستبقى بجانب زوجها تسانده وتقدم له ما يحتاج ...
رفعت جسدها تتأمل السرير الواسع وهي تتذكر لمحات مما حدث فجر البارحة بعدما غلبها النعاس وتمكن منها فغفت جانبه لا إراديا ...
تذكرت كيف حملها فهي لم تكن غفت تماما بعد وأتى بها هنا فوق سريرهما ليضعها عليه وعندما حاولت النهوض مجددا والبقاء معه طلب منها بحزم أن تنام وترتاح مذكرا إياها بحملها وضرورة العناية بنفسها لأجل ذلك الحمل على الأقل ...
تنهدت بتعب فهي لم تنم فعليا سوى اربع ساعات أو أقل ...
لقد قضت الليلة كلها جانبه وهو الذي عزل نفسه تماما منذ مغادرتهما منزل عائلته بعدما تلقى صدمة عمره هناك ...
تذكرت حالته بعدما عرف تلك الحقيقة .:
حديثه الأخير مع والدته ثم مغادرته المنزل بتلك الطريقة ...
ومنذ تلك اللحظة وهو يلتزم الصمت وينأى بنفسه عنها هي أيضا ..
الصدمة كانت شديدة عليه ...
ما عرفه كان يفوق طاقته بمراحل ...
وهو تقبل تلك الصدمة بجمود .. صمت مخيف ...
صمت تشعر ببركان من الغضب يختبئ وراءه ...
ليته صرخ كثيرا وحطم الكثير ...
ليته منحها أي ردود فعل تحرر غضبه الكامن ..
لكنه لم يفعل ..
التزم الصمت طوال طريق العودة وهي بدورها لم تستطع إختراق هذا الصمت ...
عندما وصل الى شقتهما إكتفى بجلوسه في الشرفة وهو يدخن السجائر ..
سيجارة تلوها الأخرى وهو ملتزم الصمت وتعابير وجهه مبهمة .. جامدة ..
بقيت هي جانبه لمدة لا تعلم عدد ساعاتها بالضبط ...
وبقي هو جامدا لم يتحدث معها سوى مرة واحدة عندما طلب منها بإقتضاب أن تذهب الى الغرفة وتنام فالساعة تجاوزت الواحدة صباحا لكنها رفضت بهدوء فتجاهلها هو ولم يعقب ...
فعاد الى صمته مجددا وسجائره معه تشاركه هذا الصمت ...
وعادت هي الى صمتها بدورها لإنها لم تجد شيئا مناسبا تقوله ففضلت الصمت والإكتفاء بوجودها جانبه فقط ...
مرت الساعة وبدأ النعاس يسيطر عليها ورغم ذلك عاندت وأصرت على البقاء حتى تمكن النعاس منها لتشعر به وهوويحملها نحو الغرفة ثم يأمرها بالنوم وهي بين اليقظة والغفوة ..!!
تثائبت بنعاس قررت أن تطرده وهي تنهض من فوق سريرها مقررة التوجه نحوه ...
التحدث معه حتى لو رفض وبقي على عزلته تلك ...
هي تتفهمه ولا تلومه ..
تتفهم صمته وإنعزاله حتى عنها ...
تتفهم موقفه بعدما حدث ...
تتمنى لو تستطيع التخفيف عنه ..
دعمه ومساندته ...
تتمنى لو يفتح قلبه لها ويعبر عن وجعه ..
يفضفض لها بل ويفرغ غضبه وعصبيته فيها ..
ستتفهم وتستوعب ... فقط ليفعل أي شيء يدل على تفاعله مع محيطه بدلا من موجة الصمت والعزلة التي سحبته كليا داخلها ...!!
جذبت هاتفها تنتبه الى رسائل غالية التي تسألها فيها عن حال شقيقها.. تخبرها مدى قلقها عليه وعن ترددها في مكالمته او حتى مكالمتها ...!!
شعرت بالشفقة لأجلها هي الأخرى ...
بالتأكيد الصدمة لم تكن هينة عليها لكنها مضطرة أن تتماسك ...
مضطرة أن تتماسك عكس شقيقها ...
ولكنها واثقة من كونها تحمل خلف تلك القوة والصلابة آلما غائرا تخفيه بمهارة وإعتداد يليق بها ...
شردت حياة لا إراديا بحياتها التي عاشتها ووالدتها وما فعلته ...
رغم كل شيء هي ممتنة لحياتها ...
على الأقل هي لم تعش في خدعة ...
حياتها كانت واضحة لا أسرار فيها ...
أب يحبها كثيرا ويرعاها ويعتني بها لإنها تمثل دنياه كلها وأم تخلت عنها بتصرف أهوج فعاشت لسنوات دونها ترفض قربها رغم محاولاتها المستميتة لذلك القرب لكنها عجزت عن تقبل قربها ولولا مرضها ما كانت لتتقبلها من جديد لكن ما حدث جعلها تستوعب إنها أخطأت وإنه رغم كل شيء تبقى هي أمها ولها حق عليها ...
ورغما عنها قارنت حياتها بحياة نديم وغالية فوجدت إنها محظوظة أكثر منهما ...
على الأقل كل شيء كان واضحا أمامها ومعروفا ...
بل والأسوء إنها شعرت بالضيق من نفسها ...
شعرت إنها تحاملت على والدتها بشكل مبالغ فيه ..
عاقبتها لسنوات طويلة ..
نعم والدتها اخطأت خطئا جسيما وهي بدورها تمادت في عقابها ...
شعرت بالشفقة من جديد ناحية نديم وغالية ...
كيف إنقلبت حياتهما رأسا على عقبا فجأة دون سابق إنذار ...؟؟
كيف تحولت والدتهما الى جاني ..؟!
ووالدهما وعشقه السرمدي لزوجته الأولى ...؟!
كل شيء كان معاكس للحقيقة ..
كل شيء كان كذبة وما أصعب من ذلك فالحقيقة مهما بلغت قسوتها تبقى أفضل من حياة كاذبة مصطنعة كل شيء فيها يناقض واقعها ...
تنهدت مجددا بألم وهي تخرج من غرفتها ومعها هاتفها ...
تتجه نحو زوجها للإطمئنان عليه ...
وجدته ممددا فوق الكنبة يغط في نوم عميق فتأملته بحزن وهي تتقدم نحوه بحذر ...
تأملت ملامحه الساكنة رغم الارهاق المرتسم عليها فتنهدت بصمت وهي تتجه نحو الغرفة مجددا تسحب غطاءا وتتجه به من جديد نحوه ...
وضعت الغطاء فوقه بحذر فشعرت به يتململ قليلا في نومته لتتحرك الى الخلف بصمت وهي تبتعد عنه مقررة أن تتركه عله ينم لبضعة ساعات ...
عادت الى غرفتها وحملت هاتفها وراسلت غالية تخبرها إنه نائم حاليا بعدما بقي الليل بطوله ساهرا يرفض النوم ..
أتاها جواب غالية بسرعة وكأنها كانت تنتظر جوابها تخبرها أن تعتني به ثم تتبعها برسالة أخرى مضمونة :-
" نديم يعيش أسوء أيامه حاليا ... كوني معه ... تحمليه مهما كانت ردود أفعاله .. أثق بك كثيرا يا حياة وبقدرتك على التخفيف عنه .."
ارتجفت ملامحها وهي تتسائل رغما عنها إذا ما كانت تستطيع التخفيف عنها ومؤازرته بالشكل الذي يحتاجه فتمكن الخوف والتردد منها لكنها عادت ونهرت نفسها وهي تخبرها إنها تستطيع ...
تستطيع فعل ذلك وأكثر فالحب الذي تحمله داخلها نحوه يكفي لإنتشاله من بقعة أحزانه وصدماته ...
نعم الحب يكفي ...
وهي بحق حبها له ستكون معه وجانبه الى الابد ...!!
مسحت وجهها بتعب ثم نهضت من مكانها مقررة أن تأخذ حماما سريعا ثم تتجه لإعداد الطعام كي يجد الطعام جاهزا حالما يستيقظ ...
................................................
دلفت منى الى غرفة شيرين بعدما طرقت الباب عليها بخفة لتجد شيرين جالسة فوق سريرها بملامح باكية وعلى ما يبدو إنها لم تنم طوال ليلة البارحة ...
تقدمت منى نحوها بملامح حزينة وهي تتمتم :-
" صباح الخير حبيبتي ... "
أضافت وهي تقف جانبها :-
" ما رأيك أن تتناولي الطعام ...؟!"
نظرت لها شيرين بعينيها الخضراوين الدامعتين وقالت :-
" لا أريد الآن .. شكرا يا منى .."
جلست منى جانبها تخبرها بصدق :-
" علامَ تشكرينني يا شيرين ..؟! انت بمثابة شقيقتي والله وحده يعلم مدى غلاوتك عندي ..."
ابتسمت شيرين بصمت حزين لتربت منى على ذراعها تخبرها مؤازرة إياها :-
" نحن جميعنا معك ... لا تنسي هذا ..."
همست شيرين بخفوت :-
" أنا آسفة ..."
قالت منى بسرعة :-
" لا تعتذري يا شيرين ... "
قالت شيرين بجدية :-
" يجب أن أعتذر يا منى ... خاصة من ماما ووليد ... لقد تحديت كليهما بل وقفت ضدهما وفضلته عليهما .."
هتفت منى بتروي :-
" لا وليد ولا والدتك يفكران بهذا الآن .. كل ما يفكران به ويريدانه هو مساعدتك والتخفيف عنك ..."
غمغمت شيرين بهدوء :-
" وهذا ما أحتاجه أنا حاليا ..."
توقفت عن حديثها وهي تشاهد شقيقها يدلف الى الداخل مرددا بهدوء :-
" يمكنني الدخول ، أليس كذلك ..؟!"
هزت شيرين رأسها بصمت وعادت الدموع تملأ عينيها لتنهض منى من مكانها قائلة :-
" سأجلب الفطور لك حبيبتي ... "
أضافت بجدية :-
" يجب أن تتغذي جيدا يا شيرين ولا تهملي طعامك ...لأجل طفلك على الأقل .."
أومأت شيرين برأسها دون رد عندما منحت منى نظرة ذات مغزى لزوجها وغادرت بعدما هز وليد رأسه بتفهم ..
تقدم وليد نحو شقيقته التي كانت جالسة مكانها مخفضة رأسها قليل فجلس جانبها متسائلا بإهتمام :-
" كيف حالك يا شيرين ..؟! هل أصبحت أفضل اليوم ..؟!"
رفعت عينيها الدامعتين نحوه وهزت رأسها بنفي ليتنهد بصمت ثم يقول :-
" لقد حدث ما حدث يا شيرين ... "
أكمل وليد بحذر :-
" البارحة لم أسألك عما حدث وجعلك تتركينه وتعودين الى هنا .. لكن يمكنني التخمين إنك وصلت لنهاية الطريق معه فلولا ذلك ما كنت لتأتين عندنا ..!"
هتفت شيرين بهدوء :-
" صحيح ، هذا ما حدث .. لقد وصلنا الى نهاية الطريق بالفعل ..."
قال وليد :-
" توقعت حدوث هذا بل كنت أنتظر حدوثه ولكنني لم أتوقع أن يحدث بهذه السرعة ... "
غمغمت بحسرة :-
" ولا أنا .. بل على العكس تماما ... توقعت إن العكس سيحدث وإنني سأغيره بدخولي حياته ... "
كتمت دموع القهر داخل عينيها وهي تضيف بحشرجة :-
" حتى تبين لي العكس .. فهمت إنه لن يتغير مهما حدث ... حتى أبوته القادمة لم تغيره أو تخفف من حقده وسوداويته ...!"
زفر وليد أنفاسه مرددا :-
" كان عليك أن تفهمي ذلك منذ البداية يا شيرين .. من يفعل بأخيه إبن أبيه ما فعله ، لن يقف في عينيه أي أحد .. أيا كان يا شيرين ..."
همست تدافع عن نفسها :-
" كنت أحبه .. أحبه وكثيرا وهو كان يبدو عليه نفس الشيء ...فكرت إن الحب الذي بيننا سيكون علاجه .. وجودي جانبه سوف يساعده ... "
سأل وليد بتردد :-
" ألا تشعرين إنك تعجلت في قرارك ..؟! يعني لم يمر على زواجكما سوى أشهر قليلة جدا.. ألا تعتقدين إنه كان يمكنك الإنتظار بعد ربما تنجحين فيما تريدنه أو ربما ميلاد طفله يساعدك في ذلك ..؟!"
أجابت بنفس التردد :-
" خفت .. خفت يا وليد .."
نظر لها بدهشة لتضيف بدموع لاذعة :-
" خفت على طفلي منه وأنا أراه يدمر جميع من حوله ... خفت على طفلي عندما رأيته تسبب بكل هذا الأذى لأخته رغم حبه الشديد لها  والأسوء إنه يرفض الإعتراف بذنوبه حتى بعدما أصاب أخته .. "
أكملت وهي تمسح دموعها :-
" فكرت في طفلي وما سيصيبه على يد أب ظالم مثله .. فكرت في مصيره وكم سينال من أفعال والده التي لا ذنب له بها .. قررت الهرب به بعيدا عن محيط والده الأسود ..."
قال وليد بثبات :-
" لكنه سيبقى والده يا شيرين ... مهما حاولت الهرب من هذه الحقيقة .. عمار الخولي هو طفل ولدك القادم ... "
أضاف يسألها بجدية :-
" هل تعتقدين إنك سوف تستطيعين حرمان الطفل من والده ..؟! هل تعتقدين إن عمار سيسمح لك بهذا ..؟!"
إسترسل بعدها :-
" ألم تفكري في وضع الطفل بعد ولادته وما سيفعله عمار حينها ..؟!"
سألته بوجه شاحب :-
" ماذا تقصد ..؟!"
رد بجدية :-
" يعني عمار لن يصمت يا شيرين و لن يترك طفله لك بسهولة بل لن يتركه اساسا .."
هتفت بسرعة :-
" لكنه طفلي أنا أيضا ..."
قال وليد بتعقل :-
" وطفله هو كذلك يا شيرين .. وعمار بشخصيته التي نعرفها لن يترك الطفل لك بسهولة ..."
سألته بقلق :-
" هل تعتقد إنه سيأخذ حضانة الطفل مني ..؟!"
رد وليد بجهل :-
" لا يمكنني الجزم بشيء.. لا أحد يعرف ما يدور في ذهنه ولكن كل شيء متوقع منه .. كل شيء يا شيرين ...."
هزت رأسها بصمت توافقه في حديثه مرغمة وقد أدركت بالفعل إن الكثير ما زال ينتظرها معه ..!
أفاقت على صوت شقيقها يسألها :-
" ما يهم الآن ، هل أنت جادة في قرار الإنفصال ..؟!"
صمتت لوهلة تفكر في حديثه عندما نطقت بتردد :-
" أريد الإنفصال وحضانة طفلي أيضا ..."
نهض وليد من مكانه قائلا :-
" سأتصل به ليحضر هنا وأتفاهم معه ... لنرى ما يفكر به الباشا وما ينويه .."
هزت رأسها دون رد لينحني نحوها يربت على كتفها مرددا :-
" انا معك بكل الأحوال .. اطمئني ..."
منحته إبتسامة خافتة قبل أن تردد بأسى :-
" آسفة يا وليد .. آسفة حقا .."
قال بجدية :-
" دعك من هذا الآن .. دعينا نفكر فيما سنفعله مع عمار وكيف سنأخذ حضانة الطفل منه .. سأحاول إقناعه بذلك مبدئيا فشخص مثله يحتاج الى حذر في التعامل لإنه مجنون وقد يصدر منه الكثير مما لا نتوقعه ./."
ابتلعت شيرين غصتها داخلها وهي تهز رأسها بصمت ليربت وليد فوق شعرها بخفة قبل أن يغادر المكان تاركا إياها لوحدها فعادت الدموع تتساقط على وجهها من جديد وخوفها من القادم يزداد ..!
..................................................
في قصر آل الهاشمي ...
تجهمت ملامح راغب وهو يستمع الى صياح والده في هذا الوقت المبكر من الصباح ..
غضب والده الذي بدا لا نهاية لها خاصة بعدما أخبره عن فشل رجاله في إيجاد جيلان كما حدث في الأيام السابقة ..
رجاله الذين لم يتوقفوا لحظة واحدة عن البحث عنها في كل مكان .. لم يتركوا أي مكان محتمل حتى أخيها تمت مراقبته فربما يكون وراء اختفائها عن قصد او لديه علم عن مكانها لكن ما تبين له إن عمار لا يعرف عنها شيئا والأسوء إنه لم يعلم بعد عن هروبها ...
لا يعلم أين ذهبت جيلان وكيف إختفت بهذه السرعة ..
كان يشعر بالقلق الشديد عليها فإختفاؤها هذا يبدو مريبا جدا ..
ربما حدث معها شيءٍ سيء ...
حاول نفض أفكاره عنه وهو يتذكر شقيقه المختفي بدوره ..
منذ تلك الليلة لم يعد الى المنزل وهو بدوره لم يفكر في البحث عنه ..
سمع راغب والده يأمره :-
" إتصل بأخيها وأخبره بما حدث ... ربما يستطيع أن يعرف مكانها ... ربما يعرف شيئا لا نعرفه ..."
قال راغب بجدية :-
" هذا ما كنت سأفعله أساسا ... من الخطأ أساسا أن نخفي عنه الأمر ..."
أكمل بثبات :-
" سأخبره بكل شيء وسأتحمل أي كلام يصدر منه ... "
تسائل عابد بقلق أخفاه من خلال عصبيته :-
" لنرى ماذا سيفعل هو الآخر ..؟! "
أضاف وهو يجلس على الكنبة خلفه بوهن :-
" الفتاة مختفية منذ عدة ايام ولا آثر لها ... ماذا لو أصابها مكروه ..؟! ماذا لو حدث لها شيء ..؟!"
حاول راغب التخفيف عنه عندما صاح عابد مجددا :-
" وذلك المتخلف ... شقيقك الأحمق ... أين هو ..؟! إختفى تماما كعادته تاركا نتاج مصائبه خلفه ..."
هز راغب رأسه بتعب وملل من هذه المشكلة التي لن تنتهي على ما يبدو ...
خرج من غرفة المكتب تاركا والده مستمر في تفريغ موجة غضبه اليومية وهو لا يلومه فالأمر صعب للغاية ... صعب جدا ..
قابل والدته في طريقه والتي سألته عن والده بملامح واجمة ليخبرها إنه في الداخل وهو يشير الى المكتب خلفه عندما فوجأ الإثنان بدخول مهند الى القصر ..
اتسعت عينا زهرة لا إراديا وهي تتأمل هيئته الجديدة بعدما حلق شعره شبه كاملا وهذب لحيته التي طالت في الفترة الأخيرة اضافة الى ملابسه المنمقة تماما فبدا بهيئة جديدة مختلفة عن العادة ...
رمقه راغب بنظرات هازئة مرددا بسخرية :-
" أهلا ،، أهلا بالباشا الذي قرر أخيرا العودة من رحلته الإستجمامية ... "
أضاف يسأله بنفس السخرية :-
" أين كنت يا باشا ...؟! أين قضيت رحلتك هذه المرة ..؟!"
رد مهند ببرود وهو يهم بتخطيه :-
" ليس من شأنك .."
لكن راغب أوقفه قابضا على ذراعه مرددا من بين أسنانه :-
" قف مكانك فأنا لم أنهِ حديثي بعد .."
سأله مهند بحدة :-
" ماذا تريد مني ..؟! دعني وشأني ..."
حينما هتفت زهرة بعدم تصديق :-
" ما هذه اللا مبالاة يا ولد ..؟! أنت لا تعرف ما حدث في غيابك ..."
تجهمت ملامح مهند وهو يسأل :-
" ماذا حدث مثلا ..؟!"
أكمل ببرود :-
" ثانيا لماذا تتحدثون وإنني غبت لشهرين او عامين .. ؟! كلها يومين او ثلاثة .."
قاطعه راغب وهو بالكاد يسيطر على عصبيته :-
" جيلان هربت ..."
اتسعت عينا مهند الزرقاوان بعدم تصديق عندما خرج عابد من مكانه يردد بتحفز :-
" وأخيرا عاد مهند بك .. وأخيرا قرر أن ينير قصرنا المتواضع بطلته البهية ..!!"
أضاف بحدة :-
" أين كنت يا بك ..؟!"
لكن مهند تجاهله وهو يسأل بعدم إستيعاب :-
" ماذا يعني هربت ...؟! ما هذا الهراء ..؟!"
هتف راغب بجمود :-
" يعني هربت يا مهند .. هربت يا بك ..."
صاح مهند :-
" كيف هربت ..؟! ماذا يفعل الحرس في الخارج ..؟! "
منحه راغب نظرة حازمة وهو يخبره :-
" قبل أن أجيب تساؤلاتك .. أريد أن تخبرني ماذا فعلت بها قبل مغادرتك القصر ودفعها للهرب ..."
هتف مهند بذهول :-
" لم أفعل شيئا .. هي قالت إنها لا تريد الطفل وأنا بدوري أخبرتها أن تطمئن وإن الطفل سيكون مسؤوليتي .. ترجتني أن أتخلص منه فأخبرتها إن هذا مستحيل لإنه يؤثر على حياتها ..."
سأله راغب بنفس الجمود :-
" هذا ما حدث فقط ...؟!"
هز مهند رأسه بقلق شديد وهو يتذكر عصبيته وغضبه وقتها فتجاهل ذكر ما حدث مكتفيا بما قاله مفكرا في مكان جيلان وأين هربت ...
" ماذا سنفعل الآن ..؟!"
سألتهم زهرة بخوف ليجيب عابد بيأس تمكن منه :-
" ماذا سنفعل ..؟! لا يوجد شيء سنفعله سوى الإنتظار .. لقد بحثنا في كل مكان ولم نجدها ..."
أضاف وهو يشير الى راغب :-
" إتصل بأخيها وأخبره بما حدث .. لا يجب أن نخفي الأمر عنه أكثر ..."
ثم توقف عن حديثه وهو يرى الخادمة تتقدم نحوه تخبره :-
" عابد بك .. هناك شخص يريد رؤيتك ..."
سألها عابد بحيرة :-
" من هذا الشخص وماذا يريد في هذا الوقت من الصباح ..؟!"
أجابت الخادمة بجدية :-
" سيف نعمان يا بك .. هذا هو إسمه .."
تبادل عابد النظرات مع راغب بحيرة قبل أن يتجهان لرؤية الشاب بينما بقي مهند جامدا مكانه وعقله يحاول إيجاد أي حل لهذه المصيبة الجديدة التي وقعت فوق رؤوسهم ..
.....................................................
خرجت من غرفتها وهي بكامل أناقتها لتجد مريم في وجهها فسألتها بدهشة :-
" صباح الخير .. ماذا تفعلين هنا ..؟! لماذا لم تذهبي الى جامعتك ..؟!"
ردت مريم بهدوء :-
" لا يوجد لدي محاضرات مهمة اليوم .."
نظرت لها ليلى بشك والتساؤلات ظهرت في عينيها ..
تساؤلات تجاهلتها مريم وهي تقول :-
" أين ستذهبين ..؟! الى الشركة مجددا ..؟!"
أجابت ليلى نفيا :-
" كنان سيصل بعد قليل .. سنذهب لننتقي خاتم الخطبة .."
هزت مريم رأسها بتفهم قبل أن تهمس بتردد خفي :-
" أتمنى لك السعادة حقا يا ليلى ..."
ابتسمت ليلى بخفوت وعادت الأفكار تسيطر عليها ...
لم تنس تلك الصور التي رأتها وما جمع شقيقتها بعمار الخولي لكنها تعمدت التجاهل مؤقتا خاصة وهي وجدت نفسها عاجزة عن مواجهة شقيقتها وفي نفس الوقت لا تستطيع مواجهة عمار وهو يملك تلك الشيكات التي قد تتسبب في سجن والدها فقررت إلتزام الصمت والحفاظ على الإتفاق الذي أبرمته مع عمار فهو وعدها إنه سينتظر تسديدها للشيكات تدريجيا فلا حل آخر أمامها سوى الإنتظار ..
لكنها رغم هذا همست لشقيقها بجدية :-
" تذكري إنني دائما بجانبك يا مريم متى ما إحتجتني ...!!"
ابتسمت مريم بتردد لاح في عينيها فسألتها ليلى بترقب :-
" هل تريدين قول شيء ما ..؟! أنا أسمعك ..."
هزت مريم رأسها نفيا وهي تجيب :-
" أبدا .."
ثم توقفت عن الحديث وهي تسمع صوت رنين جرس الباب فقالت معقبة :-
" لقد أتى خطيبك .. هيا إستقبليه ..."
هزت ليلى رأسها بصمت وهي تتحرك نحو السلم لتهبط الى الطابق السفلي بينما تحركت مريم نحو غرفتها عندما وجدت عبد الرحمن يخرج من غرفته بملامح مترددة فنظرت نحوه بجمود وهي تتحرك بعيدا لكنه أوقفها وهو ينادي عليها بصوته الطفولي مرددا :-
" إنتظري ..."
عقدت حاجبيها وهي تستدير نحوه تتسائل بنفس الجمود :-
" ماذا تريد ..؟!"
تسائل ببراءة :-
" أين لي لي ..؟!"
أجابت بإقتضاب :-
" لي لي في الخارج ..."
برم شفتيه مرددا بحزن :-
" غادرت دون أن تراني ..."
رفعت حاجبها تردد بغلظة :-
" لديها أشياء أهم من رؤية جنابك .."
لم يفهم الطفل عليها فإمتلأت عينيه بالدموع وهو يردد :-
" كنت أريد أن أخبرها بشيء ..."
زمت مريم شفتيها بعدم رضا وقالت بصرامة :-
" عد الى غرفتك هيا ..."
تبدلت نظرات عبد الرحمن من الحزن الى الضيق فتمتم بنظرات حاقدة :-
" أنت كريهة .. انا لا أحبك ... أنا أحب لي لي فقط ..."
هتفت مريم بدورها :-
" وأنا لا أحبك ... ولا حتى لي لي تحبك .... جميعنا نكرهك أنت ووالدتك .. "
كانت تتحدث بصوت عالي جعلت العبرات تتساقط من دموعه قبل أن يرتفع صوته ببكاء عالي جهوري جعلها تصيح به :-
" توقف يا هذا .. أخفض صوتك .."
لكنه تجاهلها وهو مستمر في بكاءه عندما صعدت ليلى نحوها ومن حسن حظها إنها كانت تمر نحو المطبخ لتسمع صوت بكاء أخيها فوجدت عبد الرحمن يبكي بصوت مرتفع ومريم تقف أمامه تنظر له بتحفز ...
هتفت ليلى وهي تتقدم نحوهما :-
" ماذا يحدث هنا يا مريم ..؟!"
استدارت مريم نحوها تخبرها بتجهم :-
" هذا الأحمق لا يتوقف عن البكاء .."
صاحت ليلى بها بلا وعي :-
" لا يوجد هنا أحمق غيرك .. كيف تتحدثين معه هكذا .."
ثم انحنت نحو عبد الرحمن تحتضنه وهي تسأله بحنو :-
" هل أنت بخير ..؟!"
عانقها الصغير بصمت بينما رفعت ليلى عينيها الحادتين نحو شقيقتها لتجد ملامح شقيقتها واجمة تماما وغير راضية عما يحدث ..
حاولت ليلى تهدئة الصغير وهي تسأله بينما تكفكف دموعه بأناملها :-
" ماذا يا حدث يا عبد الرحمن ..؟! لماذا تبكي يا حبيبي ..؟!"
نظر عبد الرحمن نحو مريم ورفع إصبعه نحوها مرددا :-
" هذه قالت إنك لا تحبيني وإنه لا أحد يحبني هنا ... "
إحتقنت ملامح ليلى بغضب صامت عندما حملت الصغير وهي تنظر الى شقيقتها بغضب مرددة بنبرة مؤنبة :-
" ما هذا الكلام يا مريم ...؟! كيف تتحدثين مع طفل صغير هكذا ..؟!"
هتفت مريم بلا مبالاة :-
" أنا حرة كيفما أتحدث ..."
صاحت ليلى بلا وعي :-
" هل جننت ...؟!"
إحتقنت ملامح مريم وهي تصيح بصوت عالي :-
" أنت تصرخين بي لأجله .. لأجل إبن سهام ..."
شعرت ليلى بجسد الصغير ينتفض خوفا بين ذراعيها فهمست من بين أسنانها :-
" إدخلي الى غرفتك يا مريم .. هيا ..."
كتمت مريم غضبها داخلها واندفعت بعصبية نحو غرفتها بينما همست ليلى للصغير تحاول تهدئته :-
" إهدأ يا صغيري .. انا هنا .."
أكملت بحنو :-
" مريم لا تقصد .. هي تحبك كثيرا .. لا تحزن بسببها .. حسنا .."
هز الصغير رأسه بطاعة لتسأله عن مربيته فيخبرها إنها غادرت مبكرا لقضاء شيء هام ثم ستعود بعدها عندما غمغمت بتفهم :-
" تعال معي .."
ثم هبطت الى الطابق السفلي حيث يجلس خطيبها مع والدتها بعدما إستقبلته عند مجيئه ...
دلفت الى داخل صالة الجلوس تهتف معتذرة :-
" أعتذر عن تأخري ولكن عبد الرحمن كان يحتاجني قليلا ..."
تأملها كنان وهي تحتضن أخيها الصغير بحمية واضحة فإبتسم مرددا بهدوء :-
" لا عليك..."
انحنت ليلى تضع الصغير على الارض والذي تمسك بتنورة فستانها لا إراديا ليتأمل كنان الطفل الأشقر والذي كان يشبه ليلى للغاية ..
نهض كنان من مكانه وهو يبتسم للطفل بسماحة قبل أن ينحني نحوه قليلا مرددا وهو يعرف عن نفسه :-
" مرحبا يا صغير ... انا كنان ..."
نظر له الصغير بتأهب قبل أن يمد كفه الصغيرة في كف كنان عندما سأله كنان بإهتمام :-
" ما إسمك أنت ...؟!"
أجاب عبد الرحمن بحذر :-
" عبد الرحمن .."
اتسعت ابتسامة كنان مرددا :-
" اهلا يا عبد الرحمن .. اسمك جميل مثلك ..."
أضاف وهو يعتدل في جلسته مشيرا الى ليلى التي تتابع الموقف بصمت :-
" إنه يشبهك للغاية ..."
تمتمت ليلى بخفوت :-
" نعم هو كذلك ..."
ثم قالت بجدية :-
" هل يمكننا إنتظار مربيته حتى تعود ..؟! لا يمكنني تركه لوحده .."
هتف كنان بتفهم :-
" بالطبع .."
إستقامت فاتن في جلستها تخبره بجدية :-
" يمكنك تركه معي يا ليلى ...."
تأملت ليلى والدتها للحظات قصيرة قبل أن تهتف بجدية :-
" لا داعي لذلك ... ستأتي مربيته بعد قليل ..."
قالت فاتن بإهتمام :-
" لكن كنان سينتظر طويلا و ..."
هتف كنان بصدق:-
" لا مانع لدي ... "
قالت ليلى بجدية وهي تخرج هاتفها من حقيبتها :-
" سأتصل بها وأفهم منها متى ستعود .."
ثم أشارت الى عبد الرحمن أن يجلس على الكنبة جانبه وجلست هي جانبه وهي اتصل بالمربية التي أخبرتها إنها في طريقها إليهم بالفعل ...!
نهضت فاتن بعدها تستأذنهم ليبقى كلا من كنان وليلى مع الصغير عندما قالت ليلى بجدية :-
" ستصل بعد دقائق ..."
قال كنان بصدق :-
" لا يوجد مشكلة ..."
أضاف بهدوء :-
" انا اليوم متفرغ لك تماما ..."
هزت رأسها بصمت عندما أشار لها عبد الرحمن لتخفض وجهها نحوه فهو يريد التحدث معها ..
أخفضت ليلى وجهها بالفعل ليسألها عبد الرحمن بصوت منخفض :-
" من هذا الرجل يا لي لي ..؟!"
أجابته ليلى بنفس الخفوت :-
" إنه خطيبي ... "
نظر لها عبد الرحمن بعدم فهم لتبتسم وهي تربت على وجنته وتتحدث معه بأشياء مختلفة بينما يتابعها كنان بصمت مليء بالإعجاب ..
وأخيرا أتت المربية فنهضت ليلى تستقبلها وكذلك كنان عندما أخذت الأخيرة تعتذر من ليلى على مغادرتها صباحا لأجل معاملة مستعجلة فتفهمت ليلى سبب ذهابها وأخبرتها أن تعتني بالصغير الذي تمسك بها يسألها :-
" هل ستتأخرين اليوم أيضا ...؟!"
انحنت نحوها تردد :-
" لن أتأخر كثيرا .. إذهب الآن وتناول فطورك ... حسنا ..  "
هز عبد الرحمن رأسه بطاعة لتطبع قبلة دافئة فوق وجنتيه وهي تودعه قبل أن تستدير نحو كنان الذي وجدته يتابعها بإبتسامة فسألته :-
" ماذا هناك ..؟!"
رد وهي ما زال محتفظا بإبتسامته :-
" ستكونين أم رائعة يا ليلى ..."
إحتقنت ملامحها كليا رغم إن الكلمة مست قلبها وروحها تماما ...
ابتسمت بخجل وهي تطلب منه أن يتحركان للخارج فأشار لها أن تتقدمه وسار هو خلفها وعيناه تحاوطانها كليا دون أن تدرك ..
...................................................

حبيسة قلبه المظلم ( الجزء الأول من سلسلة ضباب الروح ) Where stories live. Discover now