الفصل الأول

11.8K 179 14
                                    

-1-
أشرقت الشمس و أسدلت خيوطها بأنسجام على أراض البلاد, كان جودها صريح ذلك النهار, فكانت الحرارة مرتفعة على غير العادة, و لكن هذا ليس بغريب على شهر نيسان "أبريل", الذي يستمر يوما بعد يوم بزيادة درجة الحرارة حتى الحرق.
وضع ساق فوق ساق, و هو يمدد جزعه على مسند الكرسي , حاملا الصحيفة بشدة انجذاب لؤلؤتي عينيه, و هو يقرأ سطور الجريدة في لهفة و إفتخار, رفع أحدى حاجبيه الكثيفين في إعتزاز, و ظل يتابع قراءة حتى أحس بزوجته -رشا عبد الحميد-  تقترب منه و هي تحمل على يديها العاريتين فطاره الخاص, أنزل الصحيفة, ليظهر كامل وجهه الباسم, نعم أنه هو, "عامر عمرآن", بذقنه الكثيفة و شاربه البني المحيط بشفتاه الوردية, و الشعر الطويل الذي وصل إلى حد المنكبين, فأصبح مضطرًا –في بعض الأيام- بجمع شعره في "أستك" صغير, حتى يحافظ على رونق مظهره المرموق.
أمسك بيد رشا و ترك فوقها قبلة ناعمة و قال في لطف :
-تسلم ايدك يا حبيبتي
-بالهنا
قالتها بابتسامة واسعة, و جلست في الكرسي المجاور له, لتناوله فنجال القهوة و هي تتساءل :
-بس اية سر الفرحة دية, في اخبار حلوة في الجرايد و لا اية!
تنهد عامر في أريحيه, و أرتشف من فنجاله, و هو مازال لا يرفع نظره عن الجريدة, أزداد شوقها, و رفعت أحدى حاجبيها البندقيين العريضين, ليروي شوقها بالقول :
-بسمة عمرآن, أختي ! انهاردة حفلة التكريم الخاص بيها من الولايات المتحددة...بعد ما بعتت ليهم أخر ابحاثها
لتتسع إبتسامة رشا و يظهر صف أسنانها البراق, و قالت في سعادة حقيقية :
-ياة بجد! دية كانت مستنية ردهم جدا! ألف مبروك ليها
وضع عامر الجريدة أمامها, لتظهر صورة شابة في أخر العقد الثاني, تبتسم بملامح عفوية بريئة, و هي تحمل بين يديها شهادة المجاستير, كانت رأس رشا متقاربة بشدة لتدقق في النظر و قراءة المقال المكتوب عن شقيقة زوجها, أنخفضت خصلة سوداء عربية على عينيها لتعيق قرأتها, و قبل أن تتذمر, كان يد عامر لاحقة, لتبعدها عنها, و يظهر وجها البدر المستدير, منحها ابتسامة عاشقة و هو يعيد الخصلة خلف أذنها الصغير, ثم هم بالوقوف قائلا :
-أنا لازم أروح الدرس بدري عشان ألحق حفلة التكريم بتاعت بسمة لتقتلني لو مروحتش بدري..
ضحكت رشا, و همت بتقبيل خده, قائلة في مرح :
-تمام و متنساش تيجي البيت بدري برضه عشان معملش زي أختك..
-اتأخر ازاي بس هو انا اقدر اتأخر عليكِ..
قالها عامر في لؤم, و هو يضع يده علي خصرها و يضغط عليه, لتقول في غنج و هي تغلق زر قميصه الثالث :
-هستناك يا حبيبي..
ودعها و خرج عامر من منزله, سائرا في شموخ بمجرد أن خرج حتى فك زر قميصه, التي أغلقته رشا لتو, أستقل بسيارته البيضاء الفاخرة, الذي أشتراها بعرق جبينه, بعدما درس و دُرس, و أصبح معلمًا لصف الثالث الثانوي و في فترة قصيرة كان معروفا على كل لسان, ببراعة و إتقان شرحه, و سرعته البديهية لدخول قلوب الطلاب, كان أكثر ما يدفع شهرته لزيادة, شكله المتألق دائما, فكان قد سيطر على جميع قلوب فتايات صفه بمنظره الغير متناسق مع معلم, و طريقة كلامه المرحة و الكوميدية المفرطة التي تكون في أجواء حصته, لا يستطع أحد تخمين سن هذا الرجل, لا يتوقع أحدا أن يكون قد شارف على خط الأربعين, ضحكته المثيرة, و غمزته اللئيمة, التي يغمزها بين كل حين و أخر, لكن رغم من ذاك, فقد أشتهر أيضا بحسن خلقه, و تأدبه في التعامل مع طالباته و طلابه, فلا يرفع عينيه إليهن سوى بنظرة عفوية لا تحمل خيوط الشهوة و الإعجاب, و لم يمانع في أكثر الأحيان من التغزل العفوي بهن, ليكسب قلوبهن كصديق.
أنهي حصته و فرك يديه ليلملم أشياءه, أقتربت من مكتبه ثلاث طالبات, أثنان يعرفهما جيدا أما الثالثة, فلم تكن موجودة من قبل, تفحص ملامحها الغربية بإستعجاب, و قبل ان يقدم سؤاله, جاء الجواب الفوري بقول أحدى الفتاتين تدعى فاطمة :
-مستر عامر..نسيت أعرفك بـ مريم قريبتي..
فأبتسم لمريم و مد يده فصافحها في حزم, فيما تابعت المتحدثة بقولها :
-مريم حبيت شرح حضرتك جدا و هتبقي تيجي دايما..
فيما قالت مريم علي استحياء :
-فعلا شرح حضرتك مميز جدا..بس انا واضح اني اتأخرت..أنتم خلصتوا حبة مش قليلن !
ليسرع عامر بالقول :
-و لا اتأخرتي و لا حاجة..شوفي لو عاوزة أي حاجة انا تحت أمرك و مستعد أديلك حصة خصوصي لو تكلف الامر..
ثم نظر إلى فاطمة و قال في غمزة خبيثة :
-بس مقولتليش يا فاطمة أن  ليكِ قرايب حلوين أوي كدة..
ضحكت مريم في حياء, و أخفضت رأسها للأسفل, ليعود بالنظر إليها و يقول مرحبا :
-تنوريني في أي وقت يا..مريم..
فناظرته بعينيها الخضروتان المضيئتان بجمال ساحر مميز, و قالت :
-متشكرة لحضرتك
-العفو يا جميلة!
ذهبت مريم بخطايا واثقة, فيما قالت فاطمة في جرأة خبيثة :
-شكل المستر وقع و لا حد سمي عليه..يا لطيف يا لطيف..
فضحكت صديقاتها و شاركهما عامر بضحكات خفيفة و هو يقول في هدوء :
-عيب يا بنات..خلوا بالكم شكلها خجولة و ممكن تزعل من الكلام إللي من النوع دة..
فلم تستطع فاطمة السيطرة, إلا بأداء ضحكة صاخبة و هي تتسع حدقتي عينيها في دهشة قائلة :
-مريم!
                               ***
وصل عامر لقاعة المؤتمر الصحفي, كان متأخرا لدرجة كبيرة, عاتب نفسه كثيرًا, فهو يقدر كم ستكون بسمة متوترة بغيابه, جلس على كرسيه في الصفوف الأولى, تابع شقيقته و هي تتحدث مع المذيعة الأمريكية الشقراء, وجد الثقة لا الخوف و التوتر الذي كان يتوقعه, اطمأن قلبه و زفر في حبور, فالأن يستطع القول, بسمة أصبحت السيدة الصلبة التي لا تنحني لأي شخص كان, كانت تتحدث بأفتخار ملمس بالغرور, لكن ما تلبث حتى تمدح مساعديها و تبدأ في عرض أسمائهم و طلب إستدعائهم على خشبة المسرح لتكريمهم بالشكر و الثناء, يشعر بكونها مازالت الطفلة الصغيرة التي تجري عليه و تتعثر في ركضها و لا تفتأ حتى تهب في حضنه و تخبره برغبتها في تناول شوكولاتة, أو الصبية الناضجة العاقلة في التفكير المالكة للسان مخصب بالمرح و نشر السعادة, الآن هي سيدة تقف منتصبة علي خشبة المسرح تمسك بشهادة أخري, و جائزة, ربما الجائزة الخامسة أو السادسة التي تحصل عليها و هي لم تتم الثلاثين بعد, لا يهم العدد, المهم ما أصبحت عليه الآن,
أفترس ملامحها بعينيه الدامعتين بالفخر, عيون سوداء و حاجبين أشد سواد, شفاة مكتنزة باللون القرمزي, أنف صغير بين خدين ضخمين بلون الكراميل, نثر عليهم نسيم النمش الوردي, فأضغى على جمالها, منظر برئ لطيف, ألتقطت عينيها وجود عامر بين الجالسين, فألتهبت عيونها بحرارة الفرحة, حاولت الحفاظ على مظهرها أمام الجميع, بالتحدث دون ربكة سعادتها برؤية أخيها عامر.
-إذن, و إن جاءتك دعوة لمتابعة دراستك و ابحاثك في الخارج و بالأخص في أمريكا, فهل ستلبين الدعوة؟
هذا ما قالته المذيعة الفاتنة بلهجتها الأمريكية السريعة, و قبل ان تجيبها بسمة, تابعت المذيعة بقولها :
-أظنه عرض مغري!
-بالفعل عرض مغري لكن..لكن لا أظن أن أخي سيوافق على هذا..
ثم نظرت إلى عامر, و سألته بخبث أمام عيون الجميع :
-موافق يا عامر؟
شعر بالحرج حتى أنه عجز عن الرد, فأستكفى برفع أصبعه و هزه بنفي إبداءا بالأعتراض, لتقول بسمة في حزن مصطنع :
-كما أخبرتك لن يوافق..فهو إنسان شرير
ضحك الجميع, حتى المذيعة ذات الدم المتجلد, فأستأنفت بسمة كلامها بالقول الصريح :
-في الحقيقة حتى و أن وافق أخي فانا لن أستطع التخلي عنه و تركه..او ترك موطني وحده بدوني!
و وقفت من مقعدها و نظرت إلى عامر لتقول :
-مع أحترامي لكثير من ساعدني لوصول لتلك القمة, لكن لن أنكر أبدًا من كان جواري طوال الوقت, و من شجعني بكل النوايا الحسنة لوصول إلى هنا, شقيقي عامر هو من فقط من يستحق الإهداء و الشكر, فلولا الله و هو..لن أكن لأصل لهنا بمفردي..
تقدم عامر إليها حاملًا فرحة غير مصدقة أن ذلك الكلام الرقيق موجه إليه, ما ان صعد حتى أقترب منها و زرع قبلة حانية فوق جبهتها, صفق الحضور فوقف عامر مجاورا لها, و أحاط جسدها بذراعه, لتقترب منه بشدة و تميل رأسها برقة على صدره, و إلتقط المصور تلك الصورة..
جلسا سويًا في السيارة, ما أن ركبت حتى سارعت بخلع حذاء الكعب العال, و تدليك قدميها المتورمتين, لاحظ عامر ما تفعل, فأطلق ضحكة ساخرة و هو يقول :
-إللي يشوفك بالمنظر دة ميشوفش البت إللي واقفة زي الأسد قدام الأمريكية..
و زم شافتيه متابعة سخرية :
-فعلا منظر واحدة شحاتة..
لكزته في ذراعه بضيق و هي تقول مشاكسة :
-خليك في نفسك عشان مقتلكش كل دة تأخير سايبني على أعصابي كل دة يا عامر بية!!
-بطلي تشرد! ما أكيد كان عندي شغل..و اول ما خلصت جيت عليكِ يا صغنن أنت..
قالها في لهجة مغازلة, ليبدأ قلبها باللين و الغفران, فقال متملقًا و هو يقرص خدها قائلا :
-بالتوفيق دايما في حياتك يا بسمة..
أرتمت على صدره في دلال مصطنع, و هي تقول بمزاح و ضحكات مسلية :
-ميرسي يا حبيب القلب و الروح..
ضحك, و ضمها لصدره أكثر قائلًا :
-ماشي يا شقية..كلي بعقلي حلاوة, بس مش هتعرفي تنسيني برضه المشاكل إللي انتِ كل يوم عملاها مع محمود خطيبك..
أبتعدت عن عامر بحنق, و سلكت نفسها من أسفل ذراعيه, نظرت إلى الجهة الأخري دون بث كلمة, فهي تكره التحدث عن ذلك الموضوع, وقع عينه على كفها الأيمن فلم يجد الدبلة, ليقول حازمًا :
-الدبلة بتاعتك فين!
-قلعتها لو مفيش مشكلة
لينفعل عامر بالقول و يقول :
-يا بنتي هو عمره ضايقك عشان تعامليه المعاملة دية..
لتقول بسمة منفعلة بنفس درجة إنفعال و ربما أزيد :
-متدخلش في الحوارات دية عامر خليك بعيد..مش هتبقي انت و امي عليا..
ساد الصمت للحظات, فشعرت بسمة بخطأها لصراخ في وجه أخيها بذلك الأسلوب الفظ, فقالت في لهجة أقل نعومة :
-علفكرة..رشا جت لماما من يومين بتعيط منك و قعدت تصدع ماما بحوارات و تصدعني معاها لحد ما الضغط عند ماما علي..هو انت و رشا مش مرتاحين مع بعض و لا اية ؟
ليقول عامر في إستخفاف :
-هو دة جديد يا بسمة! ما هو كل يومين لازم نعمل مشكلة مع بعض لكن مع أول ما اقولها "قومي اعمليلي شاي" و أضحكلها تضحكلي و من غير ما نعتذر أو نفتح الموضوع تاني و يبقى خلص الموضوع و كأن شيئا لم يكن, عادي يعني هي ساعات بتحب تكبر الموضوع لكن أنا بثبتها دايما اخوكي مش سهل برضه..
قال جملته الأخيرة بالغمزة الخبيثة, لتضحك و تقول :
-بتثبتها عشان هي طيبة يا مكار!
-صدقيني عمري ما حاولت استغل طيبتها في حاجة..انا و هي بنحب بعض فعشان كان بنعدي كتير..من غير ما أي حد يحس فينا بإستغلال او ضعف..
لتتساءل بسمة في حرج :
-عامر..رشا و لا سلمي مراتك الأولى..
ليتعجب و يقول مندهشا معلقا في ضيق :
-سلمى! إية إللي جاب سيرة سلمي..طبعا رشا, رشا ست عاقلة فاهمة نظامي قادرة تستحمل تصرفاتي و غلطاتي لكن سلمي, طلقتها بعد 5 شهور من فرحنا!
ثم وقف بالسيارة أمام برج طويل ذو أكثر من خمسين طابق, خرجت بسمة من السيارة, و هي تودع شقيقها في رقة, ما أن خرجت حتى عادت مسرعة نحوه, أطلت بنصف جسدها العلوي من النافذة و قالت  في توسل :
-عامر..تعالي سلم على أمي..ماما بقالها كتير مشافتكش و بقيت تعبانة أوي الأيام دية..
-أنا هاجي أزوركم قريب ان شاء الله..
هكذا أجابها مختصرًا, قبل أن تتابع كلامها و توسلها, سمعت أحدهم ينادي بأسمها من الخلف, ابتسمت إلى صديقتها و ذهبت إليها لتصافحها في حماس و تحدثها بلهفة, تعجب عامر من الفتاة الوقحة التي قطعت حديثهما, حاول إختلاس نظرة إليهما, فوجدها سيدة طويلة القامة ترتدي حجابا, و نظارة شمسية سوداء عملاقة تلتهم نصف وجهها, حاول ان يتعرف عليها لكن لم يستطع, ودعت الفتاتين بعضهما و دخلت الفتاة نفس البرج التي تسكن فيه بسمة, جاءته بسمة مرة أخري باسمة الثغر, و انحنت لنافذة, ليقول عامر متسائلا بفضول :
-هي مين إللي كانت واقفة معاكي دية؟
رفعت بسمة كلا حاجبيها في دهشة و قالت بضحكات متقطعة مليئة بالخيبة :
-و هي تخصك في حاجة! آآآه عمرك ما هتتغير يا عامر
قالتها و أنطلقت راكضة من أمامه, فهي تعرف أن وقفت أمامه لأكثر من ثوان لقيدها بسبابه المعتاد..

يتبعن

أطلال محبةOnde histórias criam vida. Descubra agora