-11-

3.8K 77 2
                                    

-11-
في الليلة الملاحقة, كان عامر ضيفًا في صالون آل أميرة, يحتسي القهوة و هو يتقدم بالطلب لزواج من الفتاة المصونة أميرة, لم تخفي فرحتها, فما أن أدركت الأمر, حتي بدأت بالتقافز كالفتيات المراهقات, هاتفة بسعادة أسمه, و إمارات البهجة لا تخلو من وجهها, و حينما جاء أمر الجلوس بأنفراد و التحادث لتعمق في شخصية بعضهما, حتي ظهر حياؤها بشكل كبير, كانت تخفض رأسها و لا تقوي علي رفعه, فيما أخذ يضحك مستمتعًا بخجلها, و راقبها في صمت, و عندما شعرت بنظرات المتفحصة لها, قررت خلع رداء الحياء قليلًا, و أخذت تستجوبه في بعض الأسئلة الفضولية, كان يجيب سريعًا, و كأنه معتاد علي تلك الأسئلة, و قد حفظ الإجابات عن ظهر قلب, سألته في حيرة :
-طلقت زوجتك السابقة لية؟
مص شفاهه السفلي, و قال مستفهمًا :
-رشا! بتسألي طلقتها لية؟ مش المفروض انا الي أسألك أطلقتي قبل كدة لية
لتقول مسرعة و قد جهزت الجواب منذ عدة دقائق :
-هقولك علي السبب بس متجبرنيش أقول دلوقتي, هقولك علي الأقل في يوم فرحنا, لكن دلوقتي أنا هخجل فبلاش ضغط عليا في النقطة
فقال مازحًا :
-بس أنتِ كدة بدبسيني فيكي؟ أفرضي أني متقبلتش عيبك الي بسببه أطلقتي
تردد وجهها, و أزداد حياؤها و حرجها, لوت فمها لتجاه المعاكس, فهدأ تربكها بقوله اللين :
-عمومًا انا متقبلك بكل عيوبك يا ميرا,
مسحت علي خديها, لعلها تقطف الوردات الحمراء التي تبرعمت فوق وجنتيها من كثرة الخجل, لتسأله مندفعة :
-طب أنت ليه تتهرب أنت  دلوقتي, لية طلقتها هي و الي قبلها!
زم شفاتيه في إستنكار ثم أعتدل في جلسته و أحتضن فنجال القهوة بين كفيه,و هو يجيبها بعدم إكتراث :
-في الحقيقة, رشا كانت بتخاف جسمها يبوظ من الحمل, فكانت بتسقط نفسها كل ما تحمل, و انا كراجل نفسه يبقي أب طلقتها فورا أول ما عرفت
فتحت ثغرها علي شكل دائرة, تعبر عن دهشتها, رفعت إحدي حاجبيها و قالت في ضيق مشمئز :
-ازاي في ناس بالشكل دة!
-و بالنسبة لسلمي مكنش في مجال لتفاهم, كانت من الناس الي عايزة تبقي حرة, تسافر و تروح و تيجي و انا أبقي بسقفلها زي الأريل..عشان كدة مكملناش برضه
قطبت حاجبيها حزينة علي حاله, ليترسم وجه برئ صافٍ, فتبسم برضا و هو يقول غامزًا بعينيه :
-بس أنا مستبشر فيكي خير يا ميرا, علاقاتي الفاشلة السابقة عمرها ما هتأثر علي  علاقتنا, صح؟
لتقول مسرعة بسعادة فائقة :
-أكيد..
                              ***
كانت تستلقي فوق الأريكة, تناظر السقف, و هي تدخن سيجارة حشيش, و هو يجلس علي الأرض, يرتدي ثيابه الداخلية, يضع بعض البودرة البيضاء لمخدرة علي ورق البفرة رقيق الملمس, و أخذ يتشممها في نشوة قوية, أعتدلت بالجلوس و هي تعبث بخصلاتها البائسة, و لمحت في ضيق :
-ايهاب؟ أنا خرجتك من السجن عشانها!
حدق بها بعينين ذابتلين و قال في لهجة ثاملة :
-أفندم عايزة اية
-بسمة, انا غبية خرجتك عشان بسمة
صرختها بأنفعال, ثم أخفضت رأسها لتحملها بين يديها, لم يبال لصوتها لعال, فمنذما تعرف عليها, و هي صاحبة الصوت المرتفع الغاضب دائمًا, رفعت رأسها بهدوء و قالت بغضب شديد :
-خرجتك من المخروبة الي كنت فيها, عشان تقتلها..تقتلها يا ايهاب, مش عشان تعجب بيها و تحبها يا غبي..
-و فيها اية لما أحبها هو حرام..عيب..غلط!
جلست جواره, و أمسكت بعنف من ثوبه العلوي الداخلي, و صاحت بوجهه في شراسة :
-أنت بتحبني انا,,انا نور..نور بس, و لو عرفت يا عليّ انك هتحاول تخليها تهرب مني, هدخلك السجن مش المستشفي المرادي, و هعرض الأوراق المخفية يا حلو و ساعتها هيبقي فيها أعدام
أصابه الخوف من داخله, ليبتلع لعابه و ينظر إليها قائلًا :
-انا كنت بعملها كدة ضمن خططتي؟
-يا سلام خططتك انك تبوسها و تقولها يلا معايا, مشكلتك انك غبي يا ايهاب و قعدتك في العباسية ضربت عقلك و نستك انا ابقي مين! هتقتلها يا إيهاب,,هتقتلها عشان مودكش في ستين داهية, بنت ال*** دية سبب في موت أخويا, و دلوقتي هتبقي خطافة الرجالة و هتخطفك مني و أنا مش هسمحلها فاهم
ليقول مرتبكًا كطفل قام بمشاكسة و يعاقب الآن :
-حاضر, هقتلها حاضر!
-لا مش حاضر..انا مش واثقة فيك, أنا هبعت حد من رجلتنا يشوف صرفة مع بنت **** و أنت هتتخبي شوية عن الأنظار, فاهم يا هوبا
قالتها و هي تنشب وجهه بأظافرها الحادة, حرك رأسه بالايجاب, لتندفع و تقبله في قوة, متملكة شفاتيه كأنها تمتلك كمز, نظرت في عينيه و رددت في شهوة أنتقام :
-انا هعرفها أنا مين, انا هقولها مين نور و يعني اية تحاول تاخد حاجة بتاعتي!
                              ***
أستغربت من الهاتف المتعجل الذي جاءها من مهاب, أتصل بها و أخبرها أن يريد أن يقابلها فورًا,و حدد المكان و أغلق الهاتف, تفاجأت بتلك المعاملة الغامضة, لم تتحدث معه منذ وفاة والدتها, حتي أنها لم تراه, فكانت في حالة مذرية, تبكي في غرفتها لكن تسمع صوته الرقيق المليء بالللدغات و هو يعزي عامر و يخبره كم هو حزين, كادت أن تنساه هي أيضًا تحتاج لتلك المقابلة, تحتاجها بشدة, لكن مهما كانت شدة أحتياجها فلن تقلل من عزمها علي رفض أي علاقة غرامية بينمها.
وصلت لمكان المحدد, وجدته يجلس كعادته شارد في هاتفه, يدخن سيجار و بين كل حين و حين, يأخذ رشفة من فنجال القهوة المُر, أقتربت باسمة منه, و حيته كصديقين حميمين, أحتضن كفها بقوة و هو يردد بحماس :
-اتأخرتي أوي..بس وحشتيني
-و أنت كمان
قالتها برقة و هي تجلس في المقعد المقابل له, أبتسمت بحرج و تساءلت :
-أقدر أفهم سبب الأصرار العظيم اننا نتقابل ؟
غمز لها و قال بغموض :
-هتعرفي دلوقتي..
-آه مهاب بطل الحركات دية قولي في اية بتوتر من غموضك دة
هب فجأة من مقعده و قال سعيدًا و هو يفتح كلا ذراعيه ناظرًا لفتاة تقف علي بعد أمتار من مجلسهما :
-أهي جت.
أستدارت لتتعرف علي القادم, زمت شفاهها السفلي مستغربة, فلم تري تلك الفتاة من قبل, جلست الفتاة جوار مهاب, الذي سارع بتعريفها علي بسمة التي تبدو كالبلهاء :
-أعرفك علي خطيبتي ان شاء الله, نوال!
صمتت, صمتت و شحب وجهها ليتحول للون الأصفر, حاولت مرارًا رسم ابتسامة صغيرة, فكان أصعب مما تخيل, مدت يديها إليها و حيتها قائلة :
-ألف مبروك...مهاب أنسان جدع و ان شاء الله هيقدر يسعدك,
ثم تلفتت لمهاب و قالت باصطناع الفرحة :
-أنبسط اوي يا مهاب, يلا متنساش تعزمنا علي فرحك
-مش هيبقي قبل فرحك ان شاء الله يا قطتي
ضحكت بدون نفس, و همت بالقيام و هي تقول :
-يلا استأذن انا لازم أمشي..
فسارع مهاب بالأعتراض :
-لا استني لسة هعرفك
-وقت تاني يا مهاب..
قالتها و سحبت حقيبتها من قعدها و خرجت, سمعتهما يتناجيان في تهامس :
-هي زعلت من حاجة؟
-هبقي أحكيلك بعدين!
خرجت بسمة من المكان مهرولة, تحبس حزنها في ملامحها القاتمة, لم تتوقع أن يذهب و يحب أخري, لا تعرف ما سبب حزنها الحقيقي, لكن أدق تعبير, تشعر أن هناك شيئًا من قلبها خطف..
قبل أن تترجل سيارتها, دق بوق سيارة أرجوانية بصوت عال, و كأنه يقصد أن يلفت أنتباهها, وقفت مستعجبة, فأطلقت السيارة رنينها في لحن ظريف, ثم خرجت منها فتاة تشع منها الشبابية و الجمال, تقدمت إليها و هي تسير كعارضات الأزياء, رسمت بسمة البسمة فوق شفاهها, و سألت الفتاة :
-انتِ عاوزاني أنا؟
-أكيد طبعا يا بسمة..أنتِ مش فكراني و لا اية!
أحست بالحرج, فقالت بأستغراب :
-للأسف مش متذكرة..مين الآنسة؟
-انا نور يا بسمة..نور أخت مصطفي فكراني
قصدت أن تذكر أسم شقيقها, لتري الفزع المتوزع في أنحاء وجهها, ودت بسمة لو تدفعها من أمامها, أو تقوم بحرقها, دققت بسمة في ملامح المتحدثة, فظهر فعلًا أنها صديقتها القديمة, و شقيقة من دمر حياتها, ظلت صامتة و هي تنظر إليها, لتتابع نور القول في رقة :
-بسمة أنتِ وحشتيني اوي, مكنتش بصدق لما بتابع اخبارك و بقول هي دية صحبتي..آه أنتِ متعرفيش مصطفي الله يرحمه كانت بيحبك قد اية
قاطعتها بسمة في لهجة عنيفة :
-نور انا مشغولة دلوقتي في حاجة أقدر أخدمك بيها و لا أتفضل أمشي
تدللت نور في حزن متصنع :
-لا بليز يا بسمة أستني..أنا عاوزة تيجي عندي البيت نشرب كوبيتين شاي, و نتكلم حبتين أنتي وحشاني اوي اوي يا حياتي..
-نور صدقيني لا مش هينفع
-دلوقتي حالا هتيجي معايا دلوقتي حالا يا بسمتي..يا ربي هو انا موحتشكيش...
و ظلت تلح و تلج, حتي أستسلمت بسمة لإلحاحها الخبيث, ترجلت لسيارتها بعدما وافقت علي الدعوة لذهاب لمنزل..
                                   ****
ذهبت بسمة لمنزل نور, كان منزل فخم مليء بالأثاث من الذوق الرفيع, يضفي لون كراميل هادئ علي المنزل, يجعله أشبه بالقصر, لم تمنع بسمة دهشتها المعجبة, فتمتمت بهمس :
-بيتك جميل اوي يا نورا
فتبسمت نور, و لم تعلق علي مجاملتها, توجهت نحو المطبخ و هي تقول بصوت عال :
-تحبي عصير برتقان و لا قهوة
تنهدت بسمة من داخلها, و حاولت إقناع نفسها أن تكون لطيفة مع صديقتها القديمة, فلا ذنب في علاقتهما بما أقترفه أخيها الميت, والذي تحلل جسده في الرمال, يا الله لو تحللت ذكراه أيضّا و دفنت في الرمال, أجابت رفيقتها في بسمة هادئة :
-برتقان...عصير برتقان
أستضيفتها نور في رقة غير معتادة, أخذتها في أحاديث كثيرة, تسألها عن أحوالها, و عما جري لها, حينما تفرقا, أخبرتها نور, أنها هجرت منزلها القديم مع عائلتها منذ سنين كثر, و بالتحديد عندما لجأ إليهم إيهاب متخفيًا, تناجيتا الفتاتان في ود, حتي فتح باب المنزل في خفة, أنتفضت نور من مقعدها, و قالت مرتبكة :
-بسمة يا خبر أبيض, جوزي جيه..معلش معلش ينفع بس تدخلي المطبخ لأنه لو شافك هيضايق..
-جوزك! و يضايق؟
-آه مش بيحب أستضيف صحابي لبيته, معلش روحي لمطبخ بسرعة بليز
شعرت بسمة بإهانة تعصف بها, فأختبأت في المطبخ علي مضض, فيما تعمدت نور أن تاتي بإيهاب أمام المطبخ,و تبدأ بالتدلل عليه, قال بلهجة باردة :
-مالك يا نور..خير كنتي فين من الصبح
لم تكن تلك اللهجة الجامدة الفاترة بغريبة علي أذنيها, لم تمنع فضولها الجرئ, بأن تطل برأسها و تري من زوج صديقتها – الذي يغضب بقدوم أصدقائها لمنزل -, أندفعت نور في ذلك الآوان, و قبلت إيهاب بقوة, و هي تعانقه بذراعيها النحيفين, و بين الناحية الأخري, شعرت بسمة بدوار و نيران الخوف تندلع في قلبها, أإيهاب الذي حاول أن يختطفها هو زوج نور, في ذلك الوقت أخذت تتمني من كل قلبها أن تهرب بسرعة قبل أن يراها, أنتظرتهما حتي دخلا للغرفة, و ركضت كأنثي الغزال في سرعة فائقة لباب المنزل, تعثرت أثناء ركضها لكن لم يعيقها من الخروج من هذا الجحيم قبل أن يراها الشيطان و أنثته ذات القرون المختبئة, و من هنا, أتخذت بسمة أجازة من عملها طويلها بحجة تجهيز لزفاف شقيقها, و لكن الحقيقة هي خائفة من مواجهة هذان الأثنان مرة اخري, فقلبها ينبأها أن طريقهما شر و لن ينجو منه أحد..
                            ***
أستلقي عامر علي الأريكة, يمسك بكتاب أنجليزي اللغة, لم يقرأه بعد, مر جواره عليّ و هو يحمل كأسين من الشاي, وضع أحدهما علي الطاولة و الثاني أحتفظ به بين كفيه, أعتدل عامر في جلسته و ألقي كتاب مجوارًا, تلفت لصديقه و هو يحمل كأس الشاي و يتساءل :
-هاه..اية الموضوع المهم الي كنت عاوزني فيه؟
رفع عليّ ذراعيه بلا إكتراث, و قال في حرج يحاول جاهدًا إخفاءه :
-و لا حاجة..كنت طالب القرب منك
صمت عامر يستوعب ما يقال, حتي كاد عليّ أن يكرر مت قال, حتي أنفجر عامر بالضحك مجلجلًا, و تصاعدت قهقهاته عاليًا, فيما زفر عليّ حانقًا من إستهزاء صديقه به, ليقول عامر بعدما تورد وجهه من قلة التنفس و كثرة الضحك, و تساءل ساخرًا :
-قرب! قرب قصدك جواز...لا يا عم يمنفعش أنا فرحي بعد أسبوع جاي تطلب تتجوزني دلوقتي..
-أنت حمار !
سأله مستنكرًا في حدة, ليتعالي ضحك عامر و يعاود السؤال بضحكات خافتة :
-طب فهمني أنت قصدك اية بطالب قرب..
-عايز أتجوز بسمة..
أرتعش كأس الشاي في أيادي عامر, و ابتسم ابتسامة صفراء, قائلًا في شك :
-قولت اية! بسمة؟؟
أحس عليّ بالجدية, فأعتدل في جلسته, و مال بظهره الي الأمام, ناظرًا في عيني عامر و هو يقول واثقًا :
-أة بسمة..عايز اتجوزها هتعيش معايا هنا في القصر, و أنت أكتر واحد عارفني فأكيد مش محتاج تسأل عليا, بس لو حابب يبقي يبس المهم جوازة تبقي في أسرع وقت حتي لو بعد جوازك بشهر
حك عامر مؤخرة رأسه, و تبسم في بسمة صغيرة متوترة, لم يتوقع طلب كهذا من عليّ خصوصًا, و كيف يطلب هذا العجوز الكبير في السن, الزواج من شقيقته في عداد العشرين, و التي لا تزال تحتفظ ببراءة أطفال, أبتلع لعابه و سأله في حدة ظاهرة :
-و أختي؟ أشمعني عايز تجوزها هي؟ و أشمعني دلوقتي؟ هو أنتم تعرفوا بعض أساسًا
فيما ضحك عليّ و قال مستغربًا :
-حيلك حيلك!! مش داخلين علي خناقة أحنا..كل الي في الموضوع أنها عجبتني و حابب أنها تشاركني بقيت حياتي
-و هو الموضوع بالنسبالك بالبساطة دية!
-و اية الي يعقد موضوع زي دة..حابب أتجوز و انا جاهز علي أتم وجه, مش ناقص غير موافقتها
ليمسك عامر في الجملة بيديه و أسنانه, و يقول مؤكدًا :
-أه أه طبعًا الجوازة مش هتمشي الا غير بموافقتها..طب سبني أقلب الموضوع في دماغي و اسألها
ليتساءل عليّ ببعض من اللهفة :
-سيبك من موافقتها هي دلوقتي..أنت موافق يا صاحبي!
لم يأبي أن يخسر صديقه القريب لأي سبب من الأسباب, لو أخبره برفضه القاطع, لسادت بعض الخشونة في تعاملهما قادمًا, هز رأسه معترضًا و تبسم علي مضض :
-هسألها و أعرفك رأيها
عاد عامر لمنزله, و هو يشعر ببعض السوء تجاه حواره مع صديقه الحميم, كانت بسمة تنظف المنزل في جد و نشاط, شعر برائحة العطر تخطف حاسة الشم خاصته, فتح التلفاز و أستراخ بجسده فوق الكرسي, و هو يتابع مباراة كرة القدم, لاحظ بسمة تسير بعند أمام شاشة التلفاز بين كل حين و حين, متصنعة أنها بدون قصد, و أنها عليها نظافة المنزل بشكل جيد, فقال عامر في ضحك سعيد :
-طب تعالي في حضني وحشتيني
جلست بجواره, فمد ذراعه لها و جذبها في رفق لصدره, أستلقت برأسها علي كتفه, و هي تعانقه في قوة و تقول بحزن :
-هتجوز و هترجع تسبني تاني
-لا يا حبيبتي مش هيحصل عشان كدة كنت عاوز أتكلم معاكي..أنتِ هتيجي تعيشي معايا في بيتي
أبتعدت عن صدره في سرعة, و قالت مسرعة في نفي :
-لا
-لا! لا لية؟
-عشان انا بحب بيتي دة, و مش حابة أنتقل و خصوصا اني مش هبقي مرتاحة في بيتكم و هبقي عالة عليك
-عالة! عالة اية ؟ دة واجبي يا حبيبتي
-عارفة أنه واجبك بس انا مش حابة أحس اني تقيلة علي حد
فقرص أنفها في ضيق, و هو يقول مازحًا بحدة :
-انا مش حد..انا أخوكي يا حولة, و هتبقي معايا غصب عنك
فزمجرت بضيق :
-عامر لا! انا هقعد في شقتي لوحدي!
-و كلام الناس يا بسمة أعقلي..يعني اية بنت تبقي لوحدها في الشقة عيب..أبعدي عن الشبهات و تعالي معايا
-مش هاجي معاك يا عامر دة أخر كلام بالنسبالي..
قالتها بأسلوب قاطع حاد, ليلوي فمه في ضيق, و يحرص علي ألا يظهر غضبه و هو يقول :
-خلاص يبقي لازم تتجوزي يا بسمة..
فقالت بحنق :
-يا سلام هو بالعافية
ليعلو صوته بعدما فك لجام العضب :
-يعني لا دة عاجب و لا دة عاجب..أومال أسيبك لوحدك هنا ازاي,, لازم يبقي حد معاكي, بصي بقي يا تتجوزي يا تيجي معايا
-و انا مش ناوية أتجوز و لا ناوية أعيش معاك انت و مراتك, ريح نفسك مني..مش لازم أسلوب الحمقنة دة
-بصي يا بسمة هو مش بمزاجك..بعد شهر العسل هاجيبك بيتي! فاهمة؟
وضعت أطراف أصابعها داخل أذنيها الأثنين و قالت معاندة :
-و لا كأني سمعت حاجة
فعزم مصرًا :
-مش بمزاجك و يلا قومي..يلا
أبتعدت عن مجلسه, و أخرجت لسانها, و هي تهز كتفيها, قاصدة أن تثير غضبه, ليمسك بالوسادة و يقذفها في وجهها, و هو يقول بمرح غاضب :
-هنيمك معيطة أبعدي من عني دلوقتي
صرخت بعصبية :
-يا غبي..أنا مروقة الصالة
و أخذت تعدل في وضع الوسائد, ليأتي علي باله حديثه مع عليّ, فصمت مفكرًا, أيخبرها, ام يقول لعليّ أنها لم توافق أصلًا قبل أن يسألها, هتف بأسمها, فنظرت إليه منتظرة أن يتكلم, ليقول بأبتسامة بعدما رجح أقتراحه الثاني :
-و لا حاجة يا حبيبتي و لا حاجة..
و نام ليلتها قرير العين, و هو مصر أن لا هناك زواج بين عليّ و بسمة, هو يقدر عليّ لكنه لن يقبل به كزوج, هو رجل يكبر باسمة بضعف سنها, و عقله الجاد لا يتوافق مع بسمة, كما أن هناك شك في عليّ من وجه نظره, فما الذي يدفع رجل أربعيني لعدم الزواج حتي هذا السن, بالتأكيد يمتلك مشكلة يستحي أن يفصح عنها, و هو لن يجازف بأخته الوحيدة, لتجرب تجربة ربما تخرج منها خاسرة حاملة لقب مطلقة, و ربما تتقيد في زواج بائس..
أنتظر يومان ليعلن عن رفض شقيقته الوهمي لعليّ, و يبرر أنه نصيب لا أكثر, و بهذا ينقذ صداقتهما, و يبعد شقيقته عن أي ضرر, و كان هذا..
و مر اليومان بأسرع ما يمكن, وسارع عامر بأخباره بالأنباء السيئة, بلا أي تفكير بما ربما يحدث, فور ما أخبره, حتي تبدل لون عليّ, و رفع أحد حاجبيه مستفسرًا :
-يعني هي رفضت؟
فأجابه عامر مسرعًا :
-اه أه رفضت..مش بتفكر في الجواز دلوقتي
فتساءل عليّ في مكر :
-هي..بسمة الي رفضت؟ طب أقدر أتكلم معاها و نتفاهم
أندفع عامر بالقول :
-لا لا مش هينفع..خلاص الموضوع مقفول بالنسبالها, متضغطش عليها و تحرجها..أكيد هتلاقي شريكة حياتك في واحدة تانية
و أكمل محادثًا نفسه في همس :
-سيبك من أختي بس و أي واحدة تحت أمرك فيها
أحس عليّ بغرابة في الموضوع, فبسمة تمسكت به يومًا أن يكون جوارها, و استأمنته أن يري دموعها بلا خجل, أحس بشرارة مشاعر يمكنها أن تنير بينهما, لكن كيف هذا الرفض الحاسم! و كان تربك عامر يؤكد له, أن الموضوع يختلف أختلافًا تامًا, عما أخبره به عامر الساذج..
أشتعلت مشاعره و ألتهبت غاضبة, فعلى أي حال, بهذا المنطق لن يتزوج بسمة, دفن رأسه بين كفيه يفكر بما يفعل, كيف سيحصل عليه و هي من أقتحمت كيانه بجمالها الفاتن, سحابة وردية تسير في رياحه العاصفة, و بهطول جمالها, تهدأ الأجواء و يعم السلام و الحب, يحتاجها و كل جسده يحتاجها, ربما تعيد ما أتلفه الأيام به, و تضمد جروحه بعينيها الجميلتان, شفاءه من ماضيه لن يتم, غير في حضنها, سواء رفض عامر أو وافق, لا سبيل لمعاندة فإعجابه بها, فاق الحدود, لكن سيظل السؤال هل الإعجاب توصل الي الحب أم خلف الطريق و تاه؟
و جاء يوم مليء بالطاقة الإيجابية و البسمات و القبلات, الكل سعيد, الكل يبتسم حتي تكاد الشفاتين تختلع من الوجوه من إبتهاجها, عامر ينتظر عروسته علي أحر من الجمر, يشابك ذراعيه في ضيق من كثرة التأخير, رغم أنها في الحقيقية لم تتأخر أبدًا بل هو من قدم مبكرًا جدًا لشدة شوقه بعروسته الحسناء, ربما جمالها متواضع, لكن هذا ما جعله يتشبث أن تكون هي زوجته, فهذا ما ميز نيرة عن غيرها, جمال يمتلكه الجميع, لكن بها, كان يفوق الجميع في الإختلاف, يتساءل كلما سنح له الوقت بالتفكير, فكر لمَ هي! ألجمالها تزوجها, أو لشعوره بأنه أمام ملاك صاف, لا يريد تدنيسه كما فعل بنيرة, أم ما الذي جذبه بها! اجابة غامضة, تخبره أنه تزوجها, لأن عامر لا يستطع العيش بدون أنثي, تملئ عليه فراغه, و فراشه, سألته قبل يوم الزفاف في إستحياء, ألا تندم لتزوجك مطلقة, فضحك و قال أنا أيضًا مطلق!, نعم, في الحقيقة لم يشعر بأي سوء أن يتزوج مطلقة أو أرملة أو عذراء أو صبية, الأهم ألا تكون عاهرة, عنده حق, المنزل لن يتحمل عاهرين تحت سقف واحد, يكفي واحد..
حدق بها فور قدومها, و أبتسمت شفاتيه, هذا الجمال, سيمتلك وحده من بعد الآن, يأمل ألا يفرط به أبدًا, رغم كل شيء لا يزال يندم علي زوجتيه السابقتين, كليتهما كانتا أجمل من بعضهما, بل كل منهما يحملان جمال مختلف عن الأخري, أقبض علي خصر أميرة, و طبع قبلة فوق جبهتها, لتمتلئ بالخجل, وتدفعه في حياء و هي تدخل السيارة و تغمغم في خفوت :
-عيب بقي لسة متجوزناش
ليهمس بأذنها في حرارة :
-انا مش هقدر أستني ساعة كمان, أحنا نكتب الكتاب و نجري علي بيتنا
كان عليّ يراقبهما من مرآة السيارة و يضحك, فقد أدرك أن عامر بطبعه الجرئ, يشاكسها بكلماته الخبيثة, كان في المقعد المجاور لعليّ بسمة التي كانت تبتسم بسعادة إليهما, بسمة ذات الرداء الأسود القاتم, كان ثوبها متفجرًا بالأنوثة من كل ناحية, يخاصر خصرها الضيق حزام فضي, فيظهر ردفيها السمينين من الجهتين, بينما كان يرتفع صدرها بجرأة من الفستان, جلست كأميرة فرنسية, تضع ساق فوق ساق, حجابها ذي اللون الفضي, يعكس بياض وجهها و سواد عينيها الكبيرتان, من جوارها أختل توازن عليّ حتي شعر أن سيذوب كالحديد في النار, يتعرق أحيانًا حينما يختلس نظراته إليها في كل دقيقة, أصطادته مرة بعيون النمر هاتان, و رمقته متفصحة, تفاجئ لكنه أطلق ابتسامة جانبية واثقة, و كأنه يحيها, فلم تبالي, و ظلت تنظر الي الأمام..
وصل الجميع لقاعة الفرحة, بمشاعر متناقضة, بعضها حب و بعضها إعجاب, و بعضها عشق متخفي من درجة أولي, جلست العروس و بمجرد جلوس عامر مجاورًا لها, و أمسك بيدها لقبض أصابعها بخاتم الزفاف, حتي أحست أن الدنيا تهديها أجمل لحظاتها, لولا الحياء, لأرتميت في أحضانه, لكنها قاومت تلك المجازفة الجريئة, و أكتفيت بالشرود و إلتهام ملامحه بعينيها, وقعت علي قسيمة الزواج بجوار أسمه في سرعة, فالآن شرعيًا و قانونيًا, أصبحت ملك يمينيه, يحق له أن يفعل ما يشاء, كما يحق لها أن تحتضنه كما تشاء, فهذه كانت أكبر أمانيها منذ تعرفت عليه, و ربما ستظل..ربما!
مال عامر علي أذنها و قال :
-ألف مبروك يا عروسة..
أرتبكت حينما أحست بصوته الناعم يتطرق لأذنها, لكن أتسعت عينيها حين قام بتقبيل خدها أمام عيون الناس, دون الشعور بأي خجل, و أمسك يدها و داعها لرقصة فقيرة الحركات..
و في وادٍ أخر, أختفيت بسمة عن عينيه, فجعلته ينتفض باحثًا في كل مكان, كانت تقف جوار شقيقها و رجل برتقالي الشعر منذ قليل, لكن ين هي الآن؟ ظل يدور بعينيها في كل مكان, لم يكترث أنه أصبح كالأبلة و هو يمسك بذراعي النساء و يرمقهن أن كانت بسمة أم لا, وصل الي حافة القاعة, فشاهدها عبر الزجاج, و هي تقف تستند بذراعيه علي سور خشبي, أحس بأرتياح, و ركضت سقاه نحوها, دمعت عيناها فور رؤيتها لمهاب, و يداه لا تفارق يد حبيبته الجديدة, يبدو أن الموضوع أصبح جادًا, يجب أن تنهي جميع إحتمالاتها بكونها له, هي التي عشقته من كل قلبها, لكنها تستحق, هي نادمة عن تجاهلها لحبه في أخر لقاء و مفارقته كأنه نكرة, و قولها تأخرت يا مهاب, لا لم يتأخر, هي التي بلا عقل يفكر, أو قلب يحس, هكذا أخذت تناجي نفسها و تلومها بقسوة, مسحت عينيها الدامعة بأطراف أصابعها, لتتفاجئ بوجود سواد عند أصبعها, أستدركت سريعًا أنها ربما أتلفت من رسمة الكحل الأسود, لتدير ظهرها مسرعًا, لتعدل ما جري في عينيها, سكنت حينما وجدته يقف كالمنتصب أمامها, بلا بسمة, أو أي ملمح يدل علي سعادته أو حزنه أو أي شيء, صامت كتمثال, قالت في حنق :
-أقدر أعدي!
عقد ذراعيه فوق صدره, ألقي بنظرة علي ردائها و هو يقول :
-حلو فستانك بس مش لايق عليكي..
و تابع في بعض الخبث :
-كان لايق عليك الفستان الأحمر أكتر..
أي ثوب أحمر يقصد؟ هكذا تساءلت محادثة نفسها, لتتذكر أول مقابلة كانت بينهما, لتعقد حاجبيها في ضيق بعدما أتسعت عيناها من الدهشة, صمتت في حنق, ليمد يده لمصافحتها و قال بابتسامة صغيرة :
-تشرفنا يا بسمة هانم..
ترددت أن تصافحه, فهي لا تزال متضايقة من أخر موقف, وقتما تركها وحيدة و رحل, و لم يتمسك بها حتي و يسألها ما بكِ تبكين؟ ربما كانت ستجيبه, و ربما كانت ستمادي في الدلال, حتي تريح باله و تجيب بما حدث, لكنه جلف!
صافحته علي مضض, و هي تنير وجهها بأبتسامة بغضية, ليقول بصوته الذكوري الحازم :
-لو مكنتيش حابة تسلمي, كنت هحترم رغبتك
فلم تمانع لسانها السليط من الأجابة في تخابث :
-لا عادي..أنا مش بسلم علي رجالة, غير كدة عادي
رغم أندهاشه, و عدم أستيعاب عقله, أن الكلام موجه إليه بالتحديد, لكنه لم يبدي أي رد فعل عنيف, أو ساخر, بل ظل محدقًا بها بعينيه الخضروتين, و كفيه يحتضن يدها الصغيرة بقوة, أحست بالربكة من صموده و سكونه, أسينفجر بعد قليل, أم ما سر هذا الهدوء, تمنت داخلها ألا يكون هدوء ما قبل العاصفة, لكنه قد كان..
في غمضة عين, كانت ملك ذراعيه, أحدهما قبضت علي خصرها, و الاخري, تحتضن يدها في قوة, أختل توازنها, و حاولت التملص منه, ليزيد ضمة خصرها إليه و هو يقول :
-نرقص..
ودت لو تصرخ, لكن لو رأهم أحد لظن سوءًا بها أيضًا, فقالت بعصبية هامسة :
-سبني..سبني يا قليل الأدب يا حيوان..سبني
ليبتسم و يحن ذراعه عن خصرها و يضعه فوق ظهرها, حاول جاهدًا ألا يلتصق بجسدها,  فتزيد خوفًا, جذبها بخطوات الناعمة, نحو الظلمة الدامية, لتبدأ رقصتهما علي ألحان ضوء القمر, و همسات الحب الضارية..
و برقصة روحك
علي أوتاري
و بهمسة حبي
علي شفاهك
كأنه يسمع مقطوعة, تجعله بذلك الانسياب في الرقص, ساقاه تطيران لا ترقصان, عيناه تنطق بألف كلمة, تحاول أن تفهمها, و تفك شفرتها, لم تستسلم, لكنها أيضًا لم تقاوم, شددت بالضغط علي كفه المعانق لكفها, وضعت يدها الأخري فوق ذراعه, راقصته, جعلها تنخفض بظهرها فجأة الي الوراء, فمالت في سرعة متغانجة, و عادت إليه سالمة مطمئنة, باسمة, و قد ألهبها الحماس لمتابعة تلك الرقصة, دارت, و أستدارت, جعلها تطير الكحمام الحر, بين الرقصات الناعمة, رمقها بعينيه متناقضة الألوان, فذابت كحبة لوز في كوب حليب, في لحظة كانت يدها تحيط عنقه, لم تعرف متي, أصبحت بذلك السلام, و الاستسلام, رسم ملامحها و أحتفظ بها في مخيلته, أسند بجبهته علي جبهتها, فوجدها تتبسم, تسكن كعصفور جريح وجد ملاذه و ملجأه..
جلس العروسين علي مقعدهما المزين بالورود الزهرية و الأرجوانية, أمسك بيدها و شابك أصابعه بها, و بين كل ثانية و ثانية يهمس بأذنها في كلمة, تجعلها تضحك في رقتها المعتادة, و تشاركه الحديث, أقترب مهاب منهما, و سأله مستفسرًا :
-عامر..شوفت بسمة؟
-لا دور عليها هنا أو ممكن تكون برة القاعة
قالها بلا مبالة, لم يكن يعلم, أن شقيقته تحلق الآن في سماء بلا عنوان, ما بين حيرة الحب و الإعجاب, تعيش أسعد دقائقها في رقصة أفصحت لها بالكثير و بالكثير, بلغة الصمت الذي لا يفهمها سوي الحالمين..
ضاحك زوجته, و تضاحك معها, غازلها بجرأة, فتقبلت كل مغازلاته, و هي تبتسم راضية, منتظرة منه المزيد, تريد أحدهم أن يقول أنها ليست في حلم, و أنها تزوجت عامر عمرآن, الرجل الذي طالما عشقته, و طالما خانت قلبها العذري بالتفكير فيه, وضع أحدهم يده فوق كتفه, جعله يصمت عن الحديث, و يدير رأسه ليتهيأ لمعانقة أحدهم من الأصدقاء لكنه صدم, و أحتلت الدهشة عيناه و هو يتمتم قائلًا :
-كلوديا!

*
*
*
*
يتبع

أطلال محبةWhere stories live. Discover now