-3-

4.9K 107 3
                                    

-3-
المكان المظلم, يزيد ضيق تنفسها, لكن ذلك الهواء الساخن الذي يتضارب في وجهها, يزعجها أكثر و أكثر, تريد ان تهرب من هذا المكان المؤلم, صرخاتها مكتومة أسفل قبضة يده, رغم الظلام تري في عينيها نظرة الشر و النوايا الخبيثة, تبكي بلا جدوي, لا تنجدها الدموع أبدًا, حاولت ان تتملص منه, فلم تلحق, فقد كان ما كان..
أستيقظت بصرخة بغيضة, أصدرت صدي صوت في أنحاء غرفتها, ثوب نومها مبلل من كثرة العرق الذي تصببته من هذا الكابوس اللعين, مسحت يدها علي وجهها, و أخذت في ترديد الآيات لتهدئ من روعها, هذا الحلم المتكرر, تحلمه دائما مع محمود, تشعر انه دائما يلاحقها, ليفترسها كما فعل غيره سابقًا, قالت بشفتاة مرتجفتان :
-استغفر الله العظيم اية الحلم دة بس يا ربي..
دلفت والدتها الغرفة مهرولة, و أضاءت ضوء غرفتها, فوجدت طفلتها في حالة مزرية, وجهها شاحب و عينيها مذهولتين في رعب حقيقي, أستعاذت الشيطان و أقتربت منها بأسي, و هي تلومها :
-كل يوم يا بسمة..هتفضلي تصيحيني كدة في اية يا بنتي..أوديكي لشيخ
حركت بسمة رأسها بالنفي, فتوسلتها نعمة برجاء :
-طب قوليلي الحلم لتكون علامة و انتِ مش دارية علي روحك..قوليلي اروح أفسره عند أم سعد أنتِ عارفاها دية ولية فيها الـبركة
-لا يا ماما..الحلم مفسر نفسه..انا محتاجة أرتاح بس انتِ عارفة الضغط الي كان عليا في الشغل الفترة الي فاتت.
هكذا أجابتها بسمة, محاولة ألا تماطل في الحديث, فمسحت نعمة بكفها الحنون فوق شعر طفلتها الكبيرة و قالت لها معاتبة في ضيق :
-يقطع الشغل و سنينه الي يعمل فيكي كدة..امتي تتجوزي و ترتاحي من الهم دة..
نظرت لها بسمة من طرف عينها, ثم ضحكت غير مصدقة, لتضحك معها والدتها و تقول و هي تربت علي كتفها :
-يلا قومي كدة أتوضي و صلي ركعتين عقبال ما اروح أعملك لقمتين نفطر انا و انتِ و ننزل نتمشي كدة في وقت الفجر الحلو دة..اما انا نفسي اشوف الشارع اوي
فمنحتها بسمة عذبة و أماءت رأسها بالوفاء, لطلب والدتها البرئ, هي أيضًا تود التمتع بتلك الطاقة الإيجابية في وقت الفجر, فلمَ لا إذن؟
                              ***
وقفت أمام حوض المطبخ و تركت الفاكهة في طبق ذو قاع عميق, لينزل ماء الصنوبر في ذاك الطبق, أخذت تغسل في جد, و عينيها أيضًا تغسل نفسها بالدموع, تمسح دموعها بين كل حين و أخر بكم قميص, أرتجف جسدها, كلما تذكرت خيانة زوجها –كما تظن-, لا يجيبها بل يكتفي بالردود الباردة ليشعل غيرتها أكثر و أكثر, لا يبالي لمشاعرها التي وهبتها له, دومًا ما يدهسها بقدم حماقته, فيترك دموعها ترتل سجع عذب لليل, تلك المرة, تشعر بإهانة قوية عن أي مرة, تحاول أن تنسي و لا يفيد شيء, سيظل عامر كما هو, لا يتغير, الي متي سيظل يؤذيها بلا شعور!
مر جوار المطبخ, و هو أشبه بعاريًا, كان يكتفي بملبس داخلي يستر عورته, مسح فوق وجهه و تثاءب, و وقف علي أعتاب المطبخ يتابعها و هي تبكي, تبدو شهية أكثر و هي حزينة, ملامحها المكتنزة حينما تكون تعيسة, تزيد جمالها, دموعها السريعة ترويها عذوبية, تابع جسدها الأرتجاف, فأخذ ينظر لثوبها الطويل و هو يهتز أسفل جسدها المتألم, أبتسم في خباثة و أكمل خطاه ناحيتها, شعرت بوجوده لتمسح دموعها سريعًا, وتلتفت إليه لترسم إبتسامة فاتنة كاذبة داخل وجهها المتورد من كثرة البكاء, قالت بصوت متهدج :
-أحضرلك الفطار دلوقتي..
مد ذراعه ليحط بذراعيها و يجذبها إليه, قرص خدها الأيمن و هو يقول :
-توء بس تعالي عاوزك.
ذهبا سويا نحو غرفة نومهما, جلس فوق الفراش و جذبها لتجلس فوق حجره, أخفضت بصرها لأصابع يديها التي تلتوي مع بعضهما البعض, ليقوم بتقبيل خدها و يقول :
-في أجازة هاخدها قريب هنقضيها انا و أنتِ في شرم لوحدينا
أصرت تلك المرة أن توضح لها حزنها و كفي لنظام سكوت, لتقول ممانعة :
-مش حابة أروح..
فداعب وجهها كطفلة حزينة, و قال متصنعًا الضيق :
-ليس بس يا حبيبتي! دة هيبقي اسبوع جنان بطلي تبقي نكدية بقي
فإلتفتت لعينيه قائلة في إنفعال مندفعة :
-انا مش نكدية و لا عمري حاولت أنكد عليك..بس انت ريحني و فهمني اية الي بيحصل..كلمني حسسني اني بني أدمة
فقال في لؤم و هو يبعد خصلات شعرها الداكنة :
-هريحك حاضر بس كدة
لتتجاهله و تتابع غاضبة :
-القميص دة مش بتاعك..فاهمني جبته منين, خليني أحسن الظن فيك و لو مرة
فسألها بلا إكتراث لقولها :
-انا بقول انا احنا لازم نكشف بقي..بقالنا 3 سنين متجوزين و انتِ محملتيش و لا مرة!
-انا عايزة أفهم دلوقتي انت دفعت كل الفلوس دية في اية! لمين تدفع كل دة..فاهمني هيجرا اية لو قولتلي انا مش  عدوتك يا عامر انا مراتك..
قالتها بحزن و لهجة أقل ضعفًا, فباغتها بالقول الباسم :
-احنا لازم نجيب ولد عشان يشيل أسمي هسميه...امممم اية دة تصدقي احنا و لا مرة فكرنا في أسماء أولادنا..
لتترجاة في هزل ذليل و قد عاودها مرض البكاء :
-ارجوك جاوبني بأي كلمة..
أخذ يفك ثوبها عنها و هو يقول بإبتسامة متماسكة :
-مش يلا نفكر في أسم العيال..!
                                ***
-أنت بتهزر..
هتفتها بسمة بضحكة واسعة أرتسمت فوق شفاهها, و أخذت تتابع بالقول :
-بتكلم بجد يا مهاب..انت في مصر..
ليقهقه مهاب, و هو يرتمي فوق الأريكة و يقول سعيدًا :
-ايوة لسة داخل البيت حالا..
-أخيرا انا هجيلك دلوقتي
-تعالي يا حبيبتي دة انتِ تنوري
عكست مسار طريقها, و قررت التوجه لمنزل مهاب, بلا تفكير في أي شيء سوي في وجهه الضاحك, لا تعرف الي متي ستظل تخفي حبها السري في جوفها, فات الآوان و خطبت لمحمود و ما زال قلبها لا يعرف الحب لغير سواه, عفوي, منطلق في الحياة, متفاءل, ناجح, لا يعشق غير الإجتهاد, مقارب في التفكير معها, و رغم كل تلك الصفات الحسنة, لكن يأبي القدر القران بينهما, فيخجل كل منهما من الإنحناء و إظهار الحب, و يكتفيا بالمعاملة كإخوان..
وصلت لمنزله بعد ركض مسافات طويلة, فتح الباب مهاب, لولا الحياء لقفزت تعانقه, أكثر من ثلاثة أشهر لا تراه, أكتفيت بالدخول و مصافحته, ضغط كلا منهما علي اليد الأخر بعمد, لعلهما يكتسبا شعور الدفء في عناق الأيادي, تبسمت إليه و قالت في لهجة رقيقة متحشرجة عن الخروج :
-اليوم كان بيبقي ناقص من غيرك..وحشتني جدًا
-تعالي تعالي نقعد
قالها و داعها لجلوس بلهجته اللطيفة, جلست جواره و تلتفتت بجسدها إليه تحدثه في نشاط عن يوم اللقاء مع الأمريكييون و كم كانت متحمسة و تود رؤيته في ذلك اليوم العظيم!, سألته عن أحواله و كيف كانت كندا عندما ذهب إليها ليجيبها موجزًا :
-أي مكان انتِ مش فيه مش برتاح فيه..
فضحكت في غنج و قالت :
-خلاص يبقي متسافرش تاني.
ساد بينهما فترة صمت محرجة, ليقوم بفتح التلفاز, فيما علبة التبغ, لتنتشل منها سيجار و تعزم عليه بأخري, أخذ أنفاسه بتعمق من سيجارته و زفر دخان قوي, لا يزال يحتضن يدها في حنان و يأبي التخلي عنها, نظر لها فوجدها شاردة و كأنها في عالم أخر, ليسألها كي يقطع عنها شرودها :
-هو أخوكي عارف انك بدخني و لا لسة..
ضحكت ضحكة عالية, حتي أنها لجأت لإعادة رأسها للخلف, ليضحك في بساطة مستعجبًا, إن كان سؤاله مضحك لتلك الدرجة أم هي تسخر منه, تلفتت إليه و قالت بلا إكتراث نوعا ما :
-عامر! عامر بيطلب مني سجاير..بس الصراحة انا بكسف اشرب قدامه
-غريب أخوكي دة والله!
فتساءلت في لؤم :
-اشمعني؟ عشان يعني ساكت اني بشرب سجاير
-أخوكي شرقي بزيادة فغريبة انه متساهل معاكي في الموضوع دة
-اخويا ما دام بعمل أي حاجة متضرش سمعتي و سمعته يبقي بيس..يعني لو ولعت في نفسي عادي..المهم الناس متعرفش حاجة و تعرف عني الأدب و الأخلاق و بس
ليقاطعها و يسألها :
-المهم عاملة اية مع خطيبك؟
زفرت و سكتت لتنحني برأسها في ذل, الكل يحترم سكوتها في هذا الموضوع, إلا هو, فهو لا يحب أن يراها صامتة مجبرة علي مقاسمة حزنها بينها و بينن نفسها قسرًا, أمسك بذقنها و رفعها إليه ليتأمل عينيها, قائلًا :
-ردي عليا..مزعلك
-دة موضوع طويل اوي يا مهاب..مش هعرف اكلمك فيه الا بكوبيتين قهوة يعدلوا الدماغ..
قالتها بسمة متهربة من الحديث, همت بالوقوف و هي تتوجه نحو المطبخ تقول بصوت مرتفع :
-سكرك زيادة لسة صح؟
فضحك و قال :
-لسة..
دلف ليستحم, و تركها تعبث في المطبخ علي راحتها, فهي الوحيدة التي تشاركه المنزل, بعدما توفي والده منذ أربعة أعوام, وقف أسفل الصنوبر مستسلمًا لماء الساخن في تلذذ, كان يغرد كعصفور إلتهم وجبته و أصبح في مزاج أحسن لطير, فتح أغنية لفيروز لتزيد أجواء المكان هدوءا, لكن تفاجئ بسماع صياحها العنيف من الخارج, أغلق الموسيقي و أنصت جيدًا لصراخها ليسمع ترديدها في خوف "نار..نار".
                              ***
تركها ذلك اليوم مستلقاة علي فراشها بنظرة حزينة متألمة, كأنه لم يستطع أن يسيطر عليها تلك المرة لنسيان, لا يعرف ما بها حتي تصبح عاشقة لكآبة و الحزن, ليس لها الحق في السؤال, هي متسلطة حمقاء, تريد تقييده ليكن لها, يعرف أحيانًا انها تغار من الفتايات التي في صفوفه, لا يدرك ما سبب غيرتها القوية, فمنذ زواجهما و هو لم يحاول حتي النظر لوجه فتاة لمغازلة, او اختلاس نظرة لمرأة مليئة بالشهوة, هو يحترمها و لكن هي لا تحترم ما يفعله لأجلها!
جاءته مريم تلك المرة قبل بدء الحصة, وقفت أمامه لتصافحه, صافحها في إبتسامة صغيرة, لتقول الصبية في حياء :
-انا امبارح ذاكرت في حاجات كتير وقفت معايا فمحتاجة مساعدة حضرتك..
-اه اتفضلي يا حبيبتي قولي..
قالها عامر مرحبًا, و هو معجب بتلك الملامح البريئة الخجولة, لتقول بتورد مزداد :
-دية حاجات في الجرامر و القواعد..اقصد يعني محتاجة حصة كاملة!
-طب أستني
و أخرج دفتر جدوله الصغير, أخذ يبحث بين الصفحات عن الميعاد المناسب له, و بينما هو يقلب بين الصفحات, كانت تفترس وجهه الرجولي بنظرة مطاولة, وسامته تجعلها تنصهر أمامه, أنفه الحاد و شفتاة المختبأة بين الذقن الجذابة, عضت علي شفاهها و هي تضيق حدقتيها, لم تمنع فضولها من السؤال :
-هو أنت متجوز؟
رد عليها بدون النظر لها :
-أه!
زمت شفاهها السفلي و تساءلت :
-شكلك لسة متجوز جديد صح!
ابتسم ابتسامة جانبية و قال :
-مش اوي من 3 سنين..
-اممم و عندك عيال بقي وــ
فقاطعها بالقول الجادي :
-بصي يا مريم..يوم الأحد الساعة 4 العصر تقدري تيجي بيتي لو حابة أشوف الي ناقص معاكي..و لو الميعاد مش مناسب ليكي ممكن يوم الأربع الساعة 8 الصبح..
-خلاص هاجي اليومين دول
قالتها بحماس, فتعجب من إندفاعها في الإجابة, أعتقد انها ستقبل بيوم واحد, فهز رأسه موافقًا و وهبها ابتسامة لطيفة, ذهبت و جلست بين شاب قصير له بشرة سمراء ناعمة, و صديقتها فاطمة, مستعدة لتأمل ذلك الفارس الوسيم.
بدأ عامر حصته, و أخذ يشرح بطرقه المتمكنة  بكل خبرة و بلا أي تردد, رفع أحد الطلاب يده لسؤال, فأستقبل سؤاله و أخذ يناقشه و بين تلك المناقشة البريئة, سمع شهقة قادمة من صف الفتايات, فتلفت لهن في ضيق و قبل أن يصدر أي زمجرة علي صوتهن العال, وجد مريم تقف و تصفع الفتي الذي بجوارها في عنف و تسبه بلا خجل, توقف الجميع عن الحديث و نظر لها في صدمه, تساءل في حدة واضحة :
-اية الي بيحصل هنا؟ في اية يا مريم! في اية يا سلامة!
كان سلامة الولد الأسمر, مصدوم من الصفعة, فيما أنهارت مريم باكية و اخذت تقول :
-انت واحد قليل الأدب مش متربي..
رفع إحدي حاجبيه و قد بدأ يفهم ما حدث, فسأل سلامة في تعانف :
-عملت لها إية يلاة..
أخذ صوته يتهدج عن النطق, و يردد مصدومًا كلام غير مفهوم, شعر بالأنظار تحاوطه و تود لو تقتله, فلم يلبث أن قفزم من مقعده و سارع بالركض خارجًا, كاد عامر أن يمسك بتلاتيبه لكن كان الغلام نمر فلم يستطع إمساكه من سرعته, نظر لمريم التي أرتمت فوق صدر فاطمة و بكيت بقوة, ليصرخ عامر غاضبًا و هو يرمي الكتاب علي الأرض بقوة :
-ابن ال*** الواطي..انا هوريه ازاي يعمل عليه كدة انا عارف هو مين أقسم بالله لأربيه و انسيه لبن أمه..
و صاح في وجهها :
-ردي عليا عملك اية!
لتبكي أكثر و تردد في خجل :
-أكسف أقول..
أنتهت الحصة بتلك النهاية المؤسفة, تشاركت الفتاتين الذهاب لمرحاض لكي تغسل وجهها و تهدأ, ما أن دخلت مريم المرحاض حتي قهقهت بإنتصار, فقالت فاطمة مندهشة :
-بسم الله الرحمن الرحيم مالك يا مريم..انتِ مش كنتي بتعيطي من شوية..
ثم تساءلت في فضول :
-هو صحيح عملك اية بالظبط
قالت مريم بخبث :
-هو كان يقدر يعمل حاجة..دة انا كنت قطعت له أيده..انا بس كنت عاوزة أعمل حوار أكشن بدل الحصة المملة دية, كنت عاوز أشوف عامر هيعمل اية لما يعرف ان في واحد ضايقني
لتشهق فاطمة غاضبة و تقول :
-يا نهارك يا مريم! انتِ أتجننتِ أنتِ ضيعتي الواد عشان كدة..
وقفت مريم أمام المرآة و وضعت أحمر شفاة جرئ و هي تقول في غنج :
-الحب بيعمي
فكثرت عصبية فاطمة من برودة رفيقتها و قالت :
-حب اية و نيلة اية هو انتِ تعرفي مستر عامر اساسًا.. اش حال ان دية أول حصة ليكي..انتِ فاكرة عشان قالك كلمتين حلوين يبقي عجبتيه! انتِ غبية أقسم بالله يا رتني ما جبتك معايا..
                            ***
نظرت إلي الطبيب, و قالت له بأسي :
-انا حامل يا دكتور رأفت..انا عاوزة أعمل عملية الإجهاض..
فأشتدت ملامح الطبيب غضبًا و قال :
-تاني يا رشا هانم! تاني! دية تالت عملية إجهاض أعملهالك في اية يا مدام..قولتلك دة غلط علي صحتك
*
*
*
يتبع

أطلال محبةWo Geschichten leben. Entdecke jetzt