-4-

4.3K 101 6
                                    

-4-
أستطاع بصعوبة, سحبها من النيران الملتهبة التي أندلعت لتوها في المطبخ, كانت مذعورة تبكي بإرتجاف, فقد آسرتها النار في حلقة تحيطها من كل جهة, جعل تنفسها يقل و تركيزها يشرف علي الفقدان, لولا أياد مهاب التي أنقذتها من خوفها, لكانت الآن رماد!
أخذ يخمد الحريق المنبعث من أنبوبة البوتجاز, فيما تركها فوق الأريكة تهذي من إختناقها برائحة الجاز, أستطاع مهاب السيطرة علي الحريق, رمي نظرة لمطبخ المحترق و تنهد في يأس, جلس جوار بسمة و مسح بكفه الناعم فوق يدها, و جذبها في حنان ناحيته, لم تكن في وعيها الكامل, مالت برأسها علي كتفه, ليمسح بأصابعه الناعمة فوق خدها, ثوان و قد بدأ وعيها بالعودة الحميدة, لم تعجبها تلك المفاجأة فقد كانت مرتمية فوق منكبه العاري المبلل, لم يسعفه الوقت لإنهاء إرتداء ملابسه فأكتفي ببنطال و خرج مهرولًا لتلبية النداء العاجل, مسحت وجهها و أخفضت نظرها للأرض, فتنحنح بالقول في حرج :
-أنتِ كويسة!
-انا هروح
قالتها و همت بالوقوف, لكن لم تلبث حتي شعرت بغثيان, فأرتمي جسدها بخمول ليلتقطه مهاب مسرعًا قبل الوقوع علي الأرض, أحتضنها في عنف, فعانقته و أنغمست بين ذراعيه بلا تردد, ظلت الاجساد متعانقة, حتي بدأ بالأستسلام لنشوته في عناق بسمة, عزفت أياديه مقطوعة حميمية فوق ظهرها, و غرس رأسه فوق عنقها, تصلب جسدها فجأة و دفعته بلا رحمة الي الخلف, ظلت ترمقه بنظرة غير مصدقة, ما نوي فعله لتو, تردد النظارات بين الأسف و العتاب, لتركض بسمة من مجلسها و تخرج خارج المنزل..
                             ***
في غرفة ضيقة, مستطيلة الشكل, تكتفي بفراش واحد بسيط المنظر و طاولة دائرية بكرسيين, كان مستلقيًا فوق الفراش, ينفث أنفاسه من سيجارته و يراقب الدخان الخارج من فاه, دق أحدهم الباب فلم يعير له نظرة, ليفتح و تدخل فتاة بثياب تنير بالثراء و الموضة, سنها مجهول من شدة جمالها, لكن لنقل أنه في العقد الثاني, ذات شعر قمحي قصير يكاد يصل لكتفيين, تلاحقها سيدة في منتصف عمرها ترتدي زي الممرضات, نادته الفتاة في ابتسامة ثابتة :
-إيهاب!
تلفت لها برأسه, ثم هم بالإعتدال في الجلسة, و ابتسم في رضا, لتنظر الفتاة لممرضة و تقول :
-تقدري تخرجي أنتِ..
خرجت الممرضة و أقتربت الصبية الجميلة منه, لتسحب كرسيًا و تجلس أمامه ممسكة بكفيه في حرص مليء بالحب, ليسألها في ضيق :
-بقالي كتير مش بشوفك
-سوري يا حبيبي بجد كنت مشغــ
قاطع كلامها حادًا :
-انا لازم أخرج من هنا
فمالت عليه بجزعها و ضغطت فوق يديه هامسة في مشاكسة :
-خلاص يا حبيبي..انا بابي هيخرجك من هنا في خلال شهر..شهرين!
لوي شفاتيه لجانب الأخر مفكرًا, ثم رفع عينيه لها و أرسل لها ببسمة ساكنة :
-ممتاز..ممتاز جدًا
لتمسح بيدها فوق ذقنه و تهمس بأنوثة غير بريئة :
-يا تري وحشتك نور!
لم يجيبها, وقف و توجه لباب فتحه و نظر لممرضة, جاءته مهرولة, فكلمته هنا سمعًا و طاعًا بأمر من مدير المستشفي, لا يجب لاحد مخالفته في شيء, و من يخالفه يطرد.
-مش عايز مخلوق يدخل الأوضة الا لما أطلبه..فاهمة يا سمية
-حاضر يا إيهاب بيه..
و أغلق الباب في وجهها, ليتقدم لصديقته الجالسة علي الكرسي, تضع ساق فوق ساق و قال لها في نعومة و هو يغرز يده بين خصلات شعرها :
-تعالي أعرفك نور وحشتيني أزاي
ليتبادل كليهما النظرات الجريئة المتجردة من الحياء, و حدث ما حدث حينما يتجرد المرء من حياءه..
حينما هرب من جريمته الشنيعة, بقتل نيرة و تقطيع جسدها محاولًا إخفاء ما فعله, و دفن سره, لجأ لمحاميه الخاص "عبد العظيم شوقي", و أختبأ في بيته تلك الفترة, عاشر أهله و أصبح فردًا منهم, لكنه لاحظ حزن فتاة صغيرة لا تتعدي الخامسة عشر, حدث بينهما حوارًا طويلًا و سألها عن شجنها لتجيبه, وفاة شقيقها الأكبر مصطفي بعد أصطدامه بسيارة و إحتراق جثته بالكامل, ما زالت تشتاق إليه و لا تتأقلم لحياه بدونه, و تشعر في كل يوم أنها ستموت مثله, لم يحتاج الي الكثير من الوقت ليعرف من مصطفي, هو مغتصب بسمة شقيقة عامر الصغري, سمعها حينما تحدثت مع نيرة و أفصحت بكل شيء, وصفها لمصطفي متشابهة و طريقة موته لا أختلاف فيها, صدفة غريبة جعلته يبتسم غير مصدقًا, فتح قلبه لصبية الجميلة هكذا كان يناديها "غزالة", و أصبحت جزءلا يتجزأ من يومه, حتي وقعت أسيرة في عشقه, فأوقعها أسيرة في شباكه, فدخلت يومًا غرفته في المساء و المنزل نيام, فخرجت تلك الليلة من الغرفة فاقدة العذرية و الحياء..
و دام حبهما الزاني, حتي قبض علي  إيهاب, صرخت أنتحبت, بكت, وعزمت علي خروجه, و إلا ستقتل نفسها, هددت والدها بذلك و لأنها أبنته المفضلة و لن يقدر علي فقدانها كأبنه البكري, قطع علي نفسه وعد أنه يخرجه من محنته سليمًا سالمًا..
                                ***
فيما سأله عامر في فضول :
-و انت مش ناوي تتجوز بقي يا بيه؟
ليجيبه عليّ ضاحكًا :
-بلا جواز بلا خنقة..انا مبطقش الستات أساسًا هطيق واحدة تبقي عايشة أصحي علي وشها كل يوم!
ليقهقه عامر و يتساءل مستنكرًا :
-مبتحبش الستات! والله الواحد بدأ يشك فيك!
و تابع كلامه في تنهيدة لئيمة :
-حد ميحبش الجنس الناعم, و لو حتي هما مقرفين في بعض الحاجات بس في الأخر هي أنثي و انت محتاج لها..
ليشرب عليّ من كوب الشاي و يغمز له قائلًا :
-مش حابب اني أربط حياتي مع واحدة..مش عاوز أتجوز واحدة لمجرد انها انثي
ليكرر عامر قائلًا في مزاح :
-والله شاكك فيك
فأجابه عليّ بلا مبالة :
-شك براحتك..سيبك انت مني و خليك في حبك لنسوان الي موديك في داهية..مش عارفة مستحمل نفسك ازاي و انت من حضن واحدة لتانية
فقهقه عامر مجلجلًا و قال بابتسامة واسعة محاولًا انه يستفز صديقه :
-انت مش متخيل قد اية شعور جميل..
-بالعكس مقرف..
قالها عليّ في إشمئزاز, ليشيح عامر بيده و يضحك, و يقول :
-من ساعة ما عرفتك و انا عارفة اني مستحيل هتفق مع معقد زيك..
ضحك عليّ في قوة, ليضحك عامر معه و يسأله مستغربًا :
-اية الي بيضحك يوي كدة
-انا من ساعة ما عرفتك و انا كنت بقول انك هتقي ألد اعدائي..بس الحمدلله يشاء القدر و نتفق في يوم!
                             ****
دفنت وجهها في الوسادة, و هي تبكي معاتبة علي نفسها, و كيف أستسلمت و لو لرمشة عين واحدة لذراعيه, بلا لم تكتفي بذلك, فقد عانقته و أسرحت بحبها في الإستسلام, بكيت في ندم شديد, و رأته انه عقاب من ربها لأنها سيئة التعامل مع محمود, و هو بريء من وجهة نظرها القاسية له, كفكفت وجهها من الدموع و حاولت السيطرة علي أعصابها, أمسكت بهاتفها و تفحصته, وجدت إتصالات كثيرة من مهاب و رسالات لا تنتهي من الإعتذارات و المبررات عديمة الفائدة, وجدت رسالة من محمود يطلبها لمقابلة, فتنهدت في قوة لتفرج عن كرب صدرها و تراسله بالموافقة..
                              ****
أقنعها الطبيب باللإقلاع عن فكرتها السخيفة في إجهاض الطفل, لمجرد مشاكل دائمة الحدوث مع زوجها, قررت مع نفسها, ستعطيه فرصة أخيرة يمكنه بها تصحيح كل أخطاءه و إثبات انه جدير بمسؤولية أب, و أنه سيكون و ليومًا واحد مسؤولا عن مشاعرها, و لا يشعرها يومًا بأنها قليلة مذللة لحبه, تحضرت له ذلك اليوم, و كانت في قمة زينتها, جهزت الطعام الذي يحبه و أشعلت الشموع في أنحاء المنزل ليعطي جو رومانسي وردي, جلست تنتظر و تنتظر, حتي قلق بالها فأتصلت به, ليجيبها في ضيق واضح :
-بتسألي ليه هو انا عيل صغير هرحع وقت ما احب انا دلوقتي مع صحابي..
قتلها الغيظ حتي لم تستطع منع نفسها إلقاء هاتفها بعنف علي الأرض و الملاذ لمضجعها, مكسورة القلب, جريحة حب باطل..
                               ***
جلسا علي طاولة في مطعم فاخر, يتناجيان في الكلام, أخذ يقول لها و هو يقطع قطع اللحم بالشوكة و السكين :
-أشتريت فيلا كويسة في المجمع الخامس
لتتساءل مستعجبة :
-لينا!
فضحك محمود و هو يمسح فمه بمنديل :
-أمال لمين يا حبيبتي أكيد لينا..عش جوازنا جهز مش ناقصه الا رضا العروسة
قالها جملته الأخيرة و هو ينظر في عينيها في اتسامة صافية, لترتبك و تقول بإضطراب واضح في نبرتها :
-طب بالنسبة لماما مش هعرف أبعد عنها المجمع بعيد اوي عن بيتنا..
-نبقي نزورها كل أسبوع
-لا! ماما محتاجة راعية ماما بتنسي تاخد الدوا الا لما اقولها و مش بتتغدي الا لما ابقي معاها
ليتنهد في ضيق :
-خلاص هجيب لها ممرضة تراعيها..
فضاق بها القول و قالت :
-ماما مش بترتاح لممرضات بترتاح معايا انا بس!
ليبتسم ابتسامة صفراء و يقول دون النظر إليها :
-بسمة ياريت متلحميش انها تعيش معانا..انــ
فقاطعته مدافعة و بصوت مرتفع :
-انا مش بلمح لكدة علفكرة!!
لينظر حوله و يقابل نظرات الناس التي تلفتت عليهما, ليجيبها جازا علي صف أسنانه :
-بسمة بلاش فضايح..احنا في مكان محترم و مش مستحب أسلوبك دة
اندهشت من طريقته المتغطرسة في الكلام, لتقول في حدة :
-و انت شايفني مش محترمة يعني و لا قصدك اية؟
فجأة قاطعها قدوم شخصين, هب محمود بالوقوف و صافح صديقه و قبله من الخديين, و خطيبة صديقه صافحها بنفس الحرارة, أضطررت لوقوف و مصافحتهما, لكن بمجرد ان لامست يديه حتي جذبها و قبل خديها قائلًا في ترحيب مبتهج :
-أهلا بمرات صحبي العزيز
أندهشت و فرغ فاهها من تلك الحركة الجريئة, التي أصدرها هذا الرجل, نظرت لمحمود بإستنجاد أن يقول شيئًا, لكن وجدته يضحك قائلًا :
-لسة بلين قلبها عشان نعجل الجواز دية لسة خطيبتي
فضغط الشاب علي يدها التي ما زال يحتفظ بها في كفه و قال في نعومة الإناث :
-اوووة لية كدة يا بيبي..صدقيني لو لفيتي العالم كله ما هتلاقي في طيبة محمود و جماله..
و تابع ناظرًا لصديقته :
-صح يا سيمو..
لتقول المدعوة بـ"سيمو" :
-جدا يا بيبي..هو في زي محمود
كان محمود يجلس يفرد ذراعيه علي مسند الأريكة الواسعة و هو يضحك بفمه الواسع, ظلت مصدومة صامتة, و يا أهلًا بالصفة الجديدة, ستتزوج ديوثًا!
بمجرد ان غادر الصديقان حتي قالت لمحمود بحزن :
-انا مضطرة أروح يا محمود
ليقول محمود بابتسامة صغيرة غير مباليًا بها :
-سلام يا حبيبتي..
                             ****
في المساء, لا يزال عقلها مشغول بالتفكير عن تأخير عامر تلك الليلة عن أي ليلة, أصبحت الساعة الثالثة صباحًا و لم يعد بعد, و الأسوأ لا يجيب علي إتصالاتها الخائفة, ظلت متوترة بشدة حتي وجدت باب المنزل يفتح, فبدأ قلبها بالإطمئنان نوعًا ما, دخل الغرفة, أغلقت عينيها سريعًا, لكن مع الأسف قد أستطاع كشف أمرها و معرفة أنها ما زالت مستيقظة, أبتسم بحنان, و أرتمي بثقل جسده علي الفراش, حتي ان الفراش أهتز من ضخامته, أخذ يمسح علي شعرها في نعومة, أخذت عينيها ترمش من التوتر, ليضع عامر رأسه فوق صدرها و يحيط خصرها بذراعيها, مطلقًا أنينًا صغيرًا, سكتت و لم تعلق بشيء, ليقول في صوت ضعيف :
-انا عارف انتِ مش راضية تبصي في وشي بعد الي حصل..بس غصب عني
أنصتت له بصعوبة, فكان صوته هزيلًا لا يكاد يسمع, و كأنه ليس لسانه من يتحدث بل قلبه, ليتابع عامر حديثه قائلًا :
-انا غلط في حقك كتير اوي..انا كنت غبي معاكي
كالطفل يتكلم, و كالعاشق يحتضنها, لكن لم يكن عناقه لأجل شهوة أو متعة, بل كان غريبًا, كان عميقًا, يتعمق في جذبها إليه بحنان, يحتضنها بلا إشتهاءه المعتاد لأي أنثي, كانت مستعجبة من تصرفه لكن أول ملحوظة لاحظتها أنه ثمل الآن, سكتت بلا  بث كلمة, لتفاجئ بجسده يرتجف و صوته يتقطع من أثر البكاء, كانت دهشتها قوية, عامر يبكي في حضنها بضعف, حزن رجل متألم, فجأة قالت ببراءة طيبة :
-بس بس يا عامر..بتعيط ليه يا حبيبي بس بس محصلش حاجة مسمحاك
أبي أن يريها وجهه و ظلت يدفسه في رقبته ممانعًا كالأطفال و قال :
-انتِ عمرك ما هتسامحيني علي الي عملته فيكي..عمري ما هنسي نظرتك ليا
-يا حبيبي صدقني  مفيش حاجة حصلت..متعيطش يا عامر
قالتها برجاء باكٍ, رفع عينيه الحمروتين, ظلت تنظر له بحنان, ليلثم شفاهها المكتنزة, شعرت بحب حقيقي في إرتواءه من شهد شفاهها, قبلة لم تعتاد عليها يومًا, قبلة متيمة بحميم الحب, أسند رأسه مرة بين كتفها و رقبتها مرددًا بإعتذار :
-أنا اسف..انا عارف لو فضلت أعتذر لأخر يوم في عمري عمرك ما هتسامحيني..
فعانقت رأسه بقوة و مسحت فوق شعره الغريز بنعومة, و لم تجب, ستخبره بحملها في طفله, لن تتخلي عن طفلهما, لن تتخلي عن هذا العشق الكبير, لن تتخلي عنه ليوم الدين, قال عامر و هو يرابط ذراعيه حولها جسدها كثعبان ملتف علي فريسته :
-انا بحبك..بحبك
تابع تكرار كلمته و هو ينثر قبلاته في رقبتها, كانت قد سالمت روحها إليه, ليقول عامر و هو يستلقي في حضنها :
-سامحيني يا نِّيرة..سامحيني أغفريلي
فاقت فجأة علي الأسم الغريب علي مسامعها و قالت مندهشة :
-اية!!
*
*
*
*
يتبع

أطلال محبةWhere stories live. Discover now