الفصل الثاني

7.8K 182 24
                                    

-2-
فتحت سيدة سمراء مرحبة بعامر الضيف, و بسطت ذراعها لداخل تدعوه لدخول بابتسامة صغيرة, فقد أعتادت على تواجده تلك الفترة كثيرًا, ترجل لداخل و مسح فوق خدها برقة, قائلًا :
-لاغا..عليِّ هنا و لا في العيادة!
لتجيبه لاغا الفلبينية, بعربيتها الضعيفة :
-موجود..موجود..ما بيروح العيادة هالًا..هو فوق..
و أشارت على غرفته في الأعلى, ليضحك قائلا :
-طب الله يرحمه..ناديه و قوليله عامر مستنيك في المطبخ..
قالها و توجه لمطبخ القصر, قبل أن يدخل طرق الباب الخشبي العريق, و نادى بأسلوبه المرح :
-السلام على أهل الدار..
سارعت هالة "شقيقة عليِّ" الكبري بوضع الحجاب فوق رأسها, بينما أنتبهت الفتاة العشرينية التي تقف تشرب عصير الفرولة, بالتوقف و مسح فمها, أسمها "زينة" و هي زوجة أحمد, شقيق عليِّ الصغير, قالت السيدة العجوز التي تجلس وسط الفتاتين :
-أدخل يا عامر يا بني..
دخل عامر بصدره الضخم, و توجه نحو السيدة العجوز ليقبل رأسها قائلًا :
-صباح الفل علي ست الكل..
ضحكت السيدة بطريقتها الأرستقراطية المتكبرة, رغم كونها من أصول صعيدية حازمة, ألا أنها تتمتع بثراء كبير, العينين العشبية القاسية و الفم صغير غارق بين أمواج التجاعيد, و أنف طويل متعجرف كإله الأغريق, كان شعرها الأبيض الميت لا يزيدها سوى جمالًا و تألقًا, تحب عامر حبًا جمًا, كما تحب ولدها الذكري عليِّ و ربما تفضله عن هالة و أحمد, لهذا فكانت تحترم كل أصدقاءه بقوة, و تعاملهم كأنهم مخلوقين من رحمها.
-ها هتتغدي معانا انهاردة يا حبيبي..
قالتها العجوز "أمينة" في حبور صادق, ليهز عامر رأسه بالنفي :
-مش هينفع أنهاردة والله مشغول جدًا..
فعاتبته زينة قائلة :
-علطول مشغول كدة..مش بنلحق نشوفك زي الأول
فغمزت لها هالة بالقول :
-بقى واحد مشهور و محدش عارف يقابله أرزاق بقى يا زينة..
ليضحك عامر, و يلقي السلام ملوحًا بيده في ترحاب :
-اهلا اهلا..بالسيدات الحلوين
لتقول زينة و هي تمد يدها بطبق مليء بأنواع "المحاشي" و تقول بابتسامة لطيفة :
-طب أتفضل كُل, حاجة كدة من أيد ماما أمينة..
فقال بأنبهار جرئ, و قد كاد يسيل لعابه من رؤية الطعام الممدود إليه :
-الله الله ورق عنب لا مش هعرف أقاوم..
و جلس على الكرسي المجاور لأمينة, و بدأ بألتهام الطعام في تلذذ, مطلقًا عبارات الغزل و المدح في طعام أمينة, في مماطلة رهيبة, لتبتسم في تكبر و تسأله في إستهزاء :
-هي مراتك مش بتعرف تطبخ عدل و لا اية؟
فأجابها مغازلًا :
-هي بتعرف تعمل حاجة..انا هجيبها تتعلم منك
فقالت هالة مقاطعة :
-عيب عليك والله رشا أكلها زي العسل
دخل وقتها عليِّ, ملقي السلام على عائلته ثم أقترب من عامر و ألقى ضربة فوق كتفه قائلًا في ضيق :
-طول عمرك همك علي بطنك..يلا نمشي
-أستني أستني دة في كوسة هنا جنان..
و قبل ان يناولها له, وقع الطبق فوق قميصه الأبيض, لتشهق زينة في صدمة و تقول مندهشة في مزاح :
-يا خبر..قميصك بقي كله صلصة و رز..يومك مش فايت انهاردة مراتك هتقتلك
فيما ضحك عليِّ و قال :
-فالح يا أخويا تعالى ألبس حاجة من عندي..
صعدا كلاهما إلو الأعلى, وقف عامر أمام الخزانة و أخذ يخرج في قمصان صديقه و يلقيها بأهمال علي الفراش, فيما هز عليِّ رأسه بيأس, أمسك عامر بقميص أزرق و أخر أسود اللون, تطلع لرفيقه و سأله :
-ألبس أنهي
ليقول عليِّ هازئًا :
-انا لو ماشي مع واحدة مش هتقولي كدة..ما تلبس أي هباب يا عم عامر
فألقى عامر القميص الأزرق على الأرض و أرتدى الأسود, فقال عليِّ معلقًا على تصرفاته المهملة :
-الله يكون في عون رشا..
ثم تساءل مستفسرا :
-و أنت صحيح عايز تشتري عربية جديدة لية..انت مش لسة مشتري لمراتك من قريب
-العربية مش لرشا..العربية لوحدة تانية
قالها عامر بغمزته اللئيمة, فقال عليّ حانقًا :
-الله يهدك لحقت تخون رشا
فبسط عامر ذراعيه, و قال بضحكة عالية:
-امرأة واحدة لا تكفي عامر يا صديقي..
-و أسمها اية المحروسة إللي واخدة عقلك و مضيع عليها فلوسك
فأحتدت ملامح عامر و قال في أنزعاج مصطنع :
-أتلم..دية حبيبة القلب
-هي مش حبيبة القلب دية اشتريت ليها طقم دهب من كام يوم..!
-بالظبط هي نفسها
فتساءل عليِّ ممازحًا :
-طب ما تقولي أسمها و لا غيران..
فهز عامر رأسه نافيًا مقررا ألا يخبره بأسم حبيبة قلبه –كما يدعوها-, فقال عليٍّ مسرعا مغيرًا مجري الحديث :
-صحيح, تعرف انا شوفت مين من يومين..
سأله عامر مستغربًا :
-مين؟
-حسام..حسام و مراته و دلوقتي بقي عنده ولدين تؤام لاقيته عند قبر نيرة و انا رايح الجامعة الصبح
توقف عامر عن إرتداء القميص, حينما ذُكر له بأسم حسام, حاول ان يبدو طبيعيا و كأن الأمر ذكري عابرة, ليقول بلا مبالة :
-اه و يا تري اتكلمتوا؟
-طبعا و قعد يسألني وصلنا لأية في قضية الكلب إيهاب..فقولتله مرمي دلوقتي في مستشفي الأمراض النفسية لاقيته أضايق و سكت..
فيما غمغم عامر بعصبية :
-الحيوان عامل نفسه مريض عشان يترحم من عذاب السجن..
ليضحك عليِّ و يقول :
-انت لو تعرف هو عايش ازاي في المستشفي...كينج في نفسه, هموت و اعرف ال*** جايب فلوسه منين انا متأكد ان في حد بيساعده
-فعلا في "أنثي" بتساعده
فعقد علي حاجبيه و سأله مستغربًا :
-اشمعني واحدة ست يعني؟
-دية باين واحدة هو لاعب في عقلها و بيحبها..عشان تسلمه كل حاجة كدة من غير مقابل..لو بس نمسكها هنعرف نوديه في ألف داهية.
-طب قفل على السيرة
قالها عليِّ حازمًا, تهيأ عامر لخروج و قال :
-مش يلا نمشي بقي
                               ***
وقفت تمشط شعرها الغجري الطويل, متملقة في منظرها الجذاب, وضعت أحمر الشفاة الوردي الرقيق, فوق ثغرها الناعم, أعادت النظر إليه, لتشعر بالغيظ و الحنق من داخلها, فهي تتزين فقط إرضاءا لوالدتها الكريمة, حتى تستقبل خطيبها محمود, أمسكت بمنديل ورقي و مسحت فمها في ضيق, فهي تأبى أن يراها في أفضل تريده ان يبتعد, ان يرحل, ان يهجرها, الكل يمتدح فيه, لأنه ثري, او لنزيد توضيح لأنه أبن رجل ثري, هو عاطل لا يعمل, له مكتب في شركة والده و لا يذهب للعمل, رجل ثمين كالبغال من كثرة حشو الطعام, غليظ المنظر, أصلع الشعر, تفسر دائما لمَ يطلب صورة لها و هي متبرجة من الحجاب, لعله يعوض نقصان شعره, لكن لن ترضيه و لن تلين له أبدًا, هي تعرف كم هو مجنون بها, يحبذه عامر و يحترمه بشدة, فيقول لها "سيعلي مقامك أكثر و أكثر" و لا يعرف انه يحط من شأنها, فلا يريدها ان تعمل بل يريدها خادمة لقدميه المقشفتين, تشعر في بعض الأحيان انه يحدد حجم جسدها و يلتقط نظرات مطاولة لرسمة جسمها, تكره تلك النظرة المفترسة, تود لو تغرز أي شيء في عينيه الخارجة عن جوفها, تخبرها والدتها هامسة في أذنها "هو دة الي هيستتك", لكن ألا تلحظ والدتها ما وصلت إليه من علم و عمل, ألا تعرف كيف وصلت من مقامات في أعين الناس, أصبحت هي حلم من أحلامهم, أصبحت هي الشعلة المضيئة بينهم, تبحث و تدرس و تسهر الليال فقط لتوثق معلوماتها و تعرضها على الناس, منحت لها أكثر من سفرية لبلاد أوروبية متقدمة لكن كانت ترفض بحجة عدم موافقتها على ترك والدتها وحيدة, و أنها لا تريد عملها سوى في بلدها لعلها تعلي من شأنها, تحظى الأحترام من جميع الناس بإستثناء محمود, الذي بمجرد ان تخبره عن شيء من إنجازتها حتي يقول بتكاسل :
-لية يا بنتي وجع القلب دة,, هو انا حرمك من حاجة فوكك من إللي خلي السواد تحت عيونك..
وقتها تود لو تبصق عليه و تخبره أنها تكرهه من كل قلبها, فتح أحدهم باب غرفتها فجأة, فألقت نظر عبر المرآة و قالت :
-أتفضلي يا ماما..

أطلال محبةWhere stories live. Discover now