-10-

3.8K 85 1
                                    

-10-
مرور الأيام كان مرًا عليهما, كل ليلة تمضي بدون نعمة, كانت أسوء مما قبلها, خاصة علي بسمة, التي لم تقدر علي تقبل الوضع أبدًا, كان أول أسبوعين ملئ بالبكاء الصارخ و الإكتئاب الحاد الذي يمنعها عن الطعام, و يحثها علي الإنتحار, قضيت لياليها في أحضان أخيها الذي شاركها شجونه الحقيقية, كان متماسكًا لأقوي حد, حتي أنه تابع عمله و حياته بعد ثالث أسبوع, و عادت ضحكاته و أحاديثه, أصبح يتعامل بشكل عادي مع الجميع, و لا يبدو آثار الحزن عليه, حسدته علي ذلك الجبروت الذي فيه, تذهب و تعود من عملها لتغلق الباب علي نفسها و تنام, لتذهب ليوم التالي لعملها خالية الشعور و الأحاسيس, أحيانًا تستيقظ علي أحاديث عامر و أميرة في الخارج, فتسمعه يتكلم مع أميرة بل و يضاحكها, نسيت أخباركم, بأن أميرة لم تفارقهما لحظة بعد تلك الحادثة المريرة, جاءت يوميًا تعطيهما الطعام و تواسي بسمة عن أحزانها, أحيانًا, كان يلين قلبها فتشاركها البكاء, فقد كانت تعشق نعمة بشدة, و تتابع حالتها رغم أختلافها عن مجالها -الصيدلة- و الطب, لكن لم تبالي و تابعت عملها كطبيبة خاصة لتلك السيدة الوديعة, التي تنشر البهجة و السرور في النفوس, تحدثها عن عامر و جموده و تخبرها عن أفعاله و هو صغير, تخبرها بأزماته و تفاصيله الصغري, لم تحاول يومًا ان تحكي عنه بسوء حتي أنها صورته بمخيلة أميرة بأنه البطل العظيم الذي سينقذ العالم يومًا بأخلاقه الحسنة و عقله المبتكر, كانت دومًا تسخر بسمة من كلامها علي عامر, و تظل تسأل أمن تحدثها عنه هو شقيقها السادي القاس ! ثم لا تلبث ان تستأنف حكايات عن أخيها المهاجر عامر و تقص بعض الطرائف في علاقتهما, فيمتلأ فم أميرة بالضحكات و يمتلأ قلبها بالحب لهذا الرجل الذي لم تراه من قبل.
جالس فوق مقعده, و أمامه كوم ورق أمتحانات يحتاج لتصحيح, ذاق من كوب قهوته و عدل من وضع نظارات القراءة قبل أن يبدأ في معركته, أمسك بالورقة الأولي و بدأ يقرأ أول سؤال, قاطعه متطفل يفتح الباب, جز علي أسنانه كاملًا في ضيق, فهو يكره تلك الحركة المزعجة, تلفت لفاعل بنظرة حادة و لم يسعفه الوقت لقول شيء, فالصدمة حبست لسانه عن استكمال جملته, هم بالوقوف و تفحصها ليقول مندهشًا :
-مريم!
خطت خطاها نحوه و البسمة ملء شفاهها, سارت تجاهه بحذاء واثق و ذقن متغطرس مرفوع, جلست علي الكرسي المقابل له, لترتفع التنورة القصيرة و تظهر جزء من فخذيها, اسندت ظهرها علي المقعد, ليبرز كبر ثدييها, جلس متنرفزًا, و الشياطين تتقافز أمام عينيه, ماذا تحاول فعله! لم تصر علي إغواءه و التلاعب بمشاعره اللينة أمامها, رفع بصره عن جسدها و قال حادًا :
-انا مش قولتلك مش عاوز أشوفك تاني! أقدر أفهم سبب الزيارة دية يا آنسة؟
-دية معاملة تعامل بيها الطلبة بتاعتك يا مورة..
جز علي أسنانه بقوة أقوي و تماسك عن الهب فيها بالسباب, فعلى أي حال, يبدو أنها مراهقة لا تعرف ما تفعله و ما عواقبه, مص شفاتيه و ضاق بحدقتيه قائلًا :
-أسمي مستر عامر يا حلوة,
-توء! مستر قدام الطلبة لكن دلوقتي أحنا لوحدينا,
-أتلمي يا بنت, انتِ جاية عاوزة أية
-عايزة أعزيك شوفت أنا نيتي بريئة ازاي
قالتها و هي تبدل مكانها بالجلوس فوق مكتبه, وضعت ساقها فوق أختها, أزداد إثارة فقال متماسكًا و هو يشيح عينيه عنها :
-أرجعي مكانك يا مريم, أو أطلعي برة أفضل
لامست لحيته بأصابع أنثوية رقيقة, وأخذت تمررها علي ذقنه, أنصهرت قواه, لا مانع لو خالف وعده ولو لمرة واحدة, لن يقدر علي التحمل, أعادت وجهه إليها, ليضع يديه فوق ركبتيها, مالت بجزعها عليه مشتهيه شفاتيه ليشدد الإقتراب بينهما, ففتح الباب فجأة, أنتفضا معًا و تراجعا إلى الخلف, فيما أنتصبت مساعدته من صدمة ما رأت, وقف عامر مهرولًا, و عدل من قميصه و هو يقول بلهجة جامدة و كأن لم يحدث شيء لتو :
-أيوة يا أمينة في حاجة؟
تلعثمت في تركيب حروفها, فأنزلت رأسها للأسفل و قالت :
-كنت هستأذن أمشي, و كنت هقولك في واحدة مستنياك برة,
-واحدة! تبقي مين ؟
-أسمها أميرة ؟
اندهش و حاوطته الصدمة, تلفت لفتاة الجالسة علي مكتبه, و سارع بالقول في حنق :
-أمش أمش أنتِ دلوقتي يا مريم, أمشِ
رمقته بنظرة نارية و هي تلوي فمها بعناد و تقول :
-أمشِ! انت بتطردني ؟
-يا بنتي أمش أحسنلك عشان مطردتكيش بجد,,أمشِ يلا
همت بالوقوف و حملت حقيبتها, هي لا تزال ترميه بنظرات حانقة, ظلت تتبرم بالسباب و الشتائم, خرجت من الحجرة, ليتنهد عامر بأريحية و ينظر لمساعدته قائلًا :
-دخلي أميرة!
غمغمت أمينة من داخلها "من مريم لأميرة و أمه لسة ميتة! شكلها الشغلانة مش هتكمل علي خير", ثم خرجت تنادي اميرة..
                                   ***
سوداء, لوحة سوداء, و قد ضاع القلم الأبيض!
هكذا تكون الحياة برحيل الأحبة, تسترسل الحياة بمصائبها لكن أين اليد الحنونة لترتب علي الظهور المكسورة, أو حتي اللسان العذب الملين لقلوب مجروحة, أين البسمة الصافية المهدئة لسوء الحياة, أين القلم الأبيض الذي سيرسم لوحتي السوداء, أين هو؟ أنا لا اراه,,أقد مات, أم علي قيد الحياة مختبئ بين الأيام!!
                                                     بسمة عمرآن
ألقت نظرة باردة علي ما كتبته, ثم همت بتقطيع الورقة, و هي تهتف ساخرة "خزعبلات", لا فائدة هاهي الحياة تمر, ستنتهي المأساة يومًا, ستكون نهايتنا متشابهة سيموت كل من علي وجه الأرض, يلزم التمسك بأحبال الأمل, فتركها يعني الهاوية لموت حيًا!
أتصل أحدهم علي هاتفها, جعلها تفيق من أمواج أفكارها المتلاطمة, همت بالرد في صوت رفيع حزين لا يفارقه أثر البكاء :
-مين معايا؟
-مين معايا! لحقتِ تنسي صوتي يا بسمة؟
قطبت حاجبيها و أعتذرت في حزن قائلة :
-أنا أسفة يا د/ايهاب بس انت أكيد سمعت عن الظروف الي مريت بيها الفترة الأخيرة,
-أنتِ طنشتيني جدًا الحقيقة
ما تلك الوقاحة! ألا يعلم بنفسيتها الآن أيعاتبها علي ماذا؟ علي عدم إعتذارها لميعاد, أم عدم القدرة علي الإتصال به أثناء تلك الفترة البائسة, زفرت بضيق واضح, و حاولت إستنشاق بعض الهواء و هي تجيبه :
-آسفة!
-ملوش لزوم الآسف الي حصل حصل, عموما البقاء لله, انا لسة محتاج أقبلك انا هسافر قريب؟
-انا الأيام دية مشغولة جدًا, الشركة محتجاني و بليل مش ببقي فــ
-مليش دعوة بمبرراتك, تعالي علي المطعم الي أتفقنا عليه أخر مرة,
-يا ايهاب بيه أفهم مش هينفع, زائد ان المكان دة بعيد أوي أوي دة علي حدود المدينة في مكان كله صحرا انا سألت عليه و عرفت أن مجرد أستراحة مش مطعم, ياريت نختار مكان تاني معقول أكتر
-هستناكِ هناك
قالها و أغلق المكالمة, لتشهق فزعة و تتسع عينيها, أيغلق الهاتف في وجهها, لقد تعدي حدود الوقاحة, مصت شفاتيها بعصبية مفرطة, يا تري ماذا يريد ليكون بهذا الأصرار العجيب؟
وقفت و أحتضنت ملف لصدرها و باليد الأخري حملت حقيبة اليد السوداء, لتتوجه لمكتب المدير لأخذ أذن بالخروج قليلًا و مقابلة هذا الإيهاب!!
                              ***
-أنت بدرس هنا لطلبة بتوعك..أممم المكان أنيق!
قالتها أميرة و هي تأخذ جولة بعينيها العربية حول المكان, أبتسم بتفاخر و قال مغازلًا :
-المكان نور بوجودك,
أتسعت ضحكتها و هي تقول :
-ميرسي
-بس أنتِ اية الي عرفك بمكاني؟
-لا  أعرف من زمان, بسمة قالتلي قبل كدة انك بدرس هنا و تفاجأت انك طلعت مشهور, ما شاء الله باين عليك ناجح زي أختك
أبتسم بثقة و صمت, لتقول بحرج :
-طيب مش حابة أزعجك انا جست أودعك عشان مسافرة يومين و راجعة
ليبتسم ابتسامة مرتبكة هادئة, ثم أخذ يسألها في توتر واضح :
-طب مسافرة فين و سيباني!
لتضحك في حياء و تقول باستنكار و هي تهز رأسها مستعجبة من أسئلته الفضولية :
-سلام يا عامر..
                              ****
رأته يجلس يدخن التبغ, و أمامه كوب ماء نصف ممتلئ, كان يتأمل الشرفة و هو يرتدي قبعة تخفي أغلب ملامحه, أخفضت رأسها عليه لتتأكد أنه هو إيهاب, ليتطلع إليها و يقول في برود :
-أقعدي,,أقعدي
جلست علي المقعد المقابل له علي مضض, فقال :
-أطلبلك حاجة!
-شكرا,
-طب تمام نتكلم بقي في المهم,
وضعت أمامه ملف أزرق, ثم بدأت تحكي في أسلوب رسمي روتيني :
-دة البحث الي شغالة عليه دلوقتي و هيبقي رسالة الدكتوراة ان شاء الله, ياريت تتطلع عليه و تقــ
بتر جملتها مسرعًا و هو يقول :
-لا لا أنتِ فهماني غلط! انا مش عاوز نتقابل عشان كدة, أنا جايبك هنا عشان تكلميني عن نفسك عايزة أتعرف علي بسمة..
أعادت ظهرها لخلف مشابكة ذراعيها و حاجبيها في عبوس :
-أفندم؟ بقي حضرتك جايبني لهنا بس عشان تتعرف عليا!
-مش بظبط بس انا عاوزة أكتسبك صديقة في صفي, نتكلم شوية و نتحاكي, ها عارفيني علي نفسك
هبت بالقيام غاضبة, فكم أصبح في نظرها تافهًا ليس له قيمة, لقد جلبها لمكان مهجور و جعل جزء من مرتبها يخصم و أعمالها تتوقف فقط لأنه يريد التعارف, لملمت أشيائها سريعًا من ثم رمته بعينين متسهزئة :
-انا ميشرفنيش نبقي اصدقاء, انت انسان معندكش ريحة الدم, أمي تربتها لسة مجفتش و أنت عايز تتعرف و تتصاحب, لو سمحت أبعدني عني حاليًا عشان مأذكش بكلام سم ملوش لزوم,
و غادرت المطعم و هي تضغط علي شفاهها السفلي محاولة في كبت غضبها, توجهت نحو سيارتها الحمراء المضيئة, همت بفتح باب السيارة لكن تفاجأت بيد تكبلها و تقلبها لناحية المخالفة, أصطدمت بإيهاب و بعينين تترامي منها حمم بركانية غاضبة, كادت أن تصرخ فكتم صرختها بقبلة عنيفة, مص منها كل أحبالها الصوتية الخائفة, قاومت بشراسة, فسيطر علي قطته بأياديه التي لا ترحم, أنتشلها من رقبتها و رمق شفاتيها المتورمتين, ليقول ساخرًا :
-محدش بيعمل كدة في إيهاب بيه يا سومة, فاهمة!
بصقت في وجهه, و أخذت تصيح بإندفاع محاولة التملص من يديه, ليشدد خنقها بقبضته علي عنقها, لتتابع سيل السباب  :
-يا حيوان سبني, سبني, انا هبلغ عني, آه سبني هموت
-نادي بأقوي ما عندك محدش هيسمعك, و لو سمعوكي محدش هيقدر ياخدك من ايديا يا بسمة, خليكي كويسة و تعالي معايا..
ثم تباعد عنها بخطوات معدل من هيئته المبعثرة, فيما وضعت أصابعها ملامسة شفاتيها و أخذت في النحيب الباكي و السعال المستمر, تطلعت إليه بعيون دامعة بريئة :
-ايهاب انت عاوز مني اية! سبني الله يخليكي بطل تخوفني منك, كفاية
لترتسم علي ملامحه ملامح شيطانية خبيثة :
-أخوفك اية بس يا حبيبتي, أهدي و أسمعيني بس!
-مش عاوزة...مش عاوزة أسمعك سبني أمشي من هنا
قالتها بصراخ منزعج, و هي لا تزال تتكوم في نفسها, تضع يدها فوق شفاهها, خوفًا ان يتجرأ و يكرر فعلته الدنيئة, أحتدت عينيه و سارع بمد خطواته إليها مرة أخري, كادت أن تركض هاربة, ليقبض بأصابعه الغاضبة فوق ذراعها بشراهة, و يجذبها إليه في قوة و هو يقول :
-أنتِ الي بتجبريني بحلاوتك أرتكب جناية هنا, أقولتلك أهدي و تعالي معايا
هربت بأنظارها كالفئران, و أخفضت رأسها مستحية خائفة, ليقول بفتور :
-يلا معايا علي شقتي..نتكلم علي انفراد اكتر
دفعته بكل ما تمتلك من قوة, ليشدد ذراعيها عليها و يغرس أصابعه في ساعدها و هو يقول متعصبًا :
-بسمة! متحاوليش تعصبيني هنزعل من بعض كتير,
فلم يكن في حوزتها سوي أن تجرح وجهه الغرناطي المنحوت بأظافر أصابعها, هم بالصراخ و اللين في التمسك بها, لتجدها فرصة حسنة في دفعه في الأرض, فلم تفلح أحتضنها في تعانف و أصر علي إلتقاء جسديهما, لتندفع و تعض أذنه متمسكة بأسنانها الحادة, ظل يصرخ بأنين عالٍ, و يضربها فوق ظهرها بأن تتركه و شأنه, لكنها لم تستمع إليه, أصرت أن تكون عضتها بصمة مميزة لمن يحاول التعرض إليها و تذويقها مرارة الماضي, حملها في خفة و ألقي جسدها فوق الرمال في قوة متغابة فيها, لكن حدث ما أرادته, أذنه تنزف دمًا, قامت علي قدميها قبل أن يلحق بها, سارعت بالركض من أمامه, معاودة السير لسيارتها, قفزت في مقعدها و قبل أن تغلق الباب, كان قد أمسكه, فشدت الباب إليها في عند, ليغلق الباب علي أصابعه, سمعت صياحه المرير, و ضربات قبضته الأخري فوق زجاج سيارتها, فعجلت بإخراج يده, و القيادة في سرعة جنونية بعيدًا عن هذا البشع المخيف.
كادت تدهس الكثيرين من سرعة سيارتها, تعتقد أنها أجتازت أشارة مرور واحدة أو أثنتين, لا يهم كم العدد, المهم أنها أستطاعت الإفلات من قبضة يده, بين كل حين و حين تضع منديلًا فوق شفاهها, تمسح به آثار قبلته القذرة, قطعت علي نفسها وعد, ألا يمسها أحدًا قهرًا, إلا و ستأخذ حقوقها كاملة بكل عنفوان بلا رحمة و غفران, أختفيت كلمة السماح من قلبها, و تبدل عنه القسوة و الكفاح ضد أي معتدٍ أثيم, تراكضت لمنزلها و سارعت بالإرتماء فوق الفراش منفجرة في البكاء, لا حياء أمام وسادته التي شهدت دموع كثيرة و عاصرت ألالم لا يتحملها أقوي الرجال, عصرت الوسادة في ضمة صدرها و غطت في إستجواب نفسها, ماذا فعلت لألتقي بعقاب مثل هذا ؟ من هذا المجنون المصر علي خطفها ؟ كيف تخلصت من هذا الكابوس؟ من حماها ضد هذا الإيهاب الذي لا تعرف عنه غير معلومات سطحية؟
أ ياتري روح والدتها الطاهرة!
أم روح بسمة الصبية التي ذاقت من الألم ألف, و من الوجع الكثير!
من أنجاها منه! من دفعها بقوة لتحتمي من وحشيته! أخذت تحمد الله علي وقوفه بجانبها و الدفاع عنها, و في نفس الوقت لم تكتفي عن البكاء, فكلما أستعادت ذكراها, أنتابتها رعشة مؤلمة, تعيدها لأمضي من الماضي, و تذكرها ما فعلوه بها الأخرين, و كيف كبلوها و عذبوها, كيف لثموا الشفاه, و كيف فضوا طفولتها, كيف تساقطت قطرات الحرية منها, لتكون فتاة تحت ألقاب كثر : مغتصبة, عاهرة, خاطئة, زانية, مذنبة! , صرخت داخل وسادتها طالبة الرحمة لتخلص من تلك الذكريات البائسة, و آه من قسوة الماضي علي الأبرياء!
هتف الجرس بنواحه العالٍ, فأنتفضت من فراشها و مسحت دموعها, من يكون قد أتي! أنخلع قلبها أن يكون إيهاب عاد لإستكمال الأنتقام! سارت بركبتي مرتعشتين, و قالت بشفاه مرتجفة :
-مين علي الباب؟
صمت, لا إجابة!, يزداد قلبها رعبًا, فصرخت غضبًا :
-مين علي باب؟؟
ليأتي صوت رجل هادئ خجول, صوت حليم له نغمة ذكورية حانية :
-أنا عليِّ,
-عليِّ!
ثم فتحت,و أطلت بنصف هيئتها العلوية, لتجده يقف يحني رأسه في حرج, تطلعت إليه متفحصة ثم سألته بوجوم :
-أنت لوحدك؟
كان مرتبكًا من رفع عينيه إليها, فهو لا يريد خيالات أخري في وجودها أمامه, أماء رأسه في صمت, لتقول بإندفاع :
-حضرتك عاوز أية ؟
تماسك و رفع نظره إليها, ليعاود الصمت حينما رأي عينيها الحمروتين, شفاتيها المرتجفتين, لاحظ صوتها المأخوذ عن ريح باكية, و هيئتها التي تؤكد بذلك, وجهها الشاحب الأصفر, أربما ما زالت تبكي لوالدتها, تساءل بشكل عفوي :
-هو في حاجة يا آنسة بسمة؟ أنتِ كويسة؟
سؤال صاعق بالنسبة لها, يجعل شهوتها لبكاء تعود, تريد البكاء فتصارع نفسها بإشاحة وجهها بعيدًا, كتمت ثغرها بيدها و ظلت تبكي صامتة, ليتأكد من شكوكه فخطي ناحيتها, لتعود بالنظر إليه بترجي مستحي :
-عليِّ ممكن تبقي جمبي شوية, ممكن؟
رمقها متعجبًا, و قام برفع حاجبه الكث و هو يقول بتمهل متأني :
-أوي أوي يا هانم
ثم دخل و أغلق الباب من خلفه, لتمسح دموعها كاملة و تسيطر علي نوبة بكائها الجارفة و هي تخفض رأسها للأسفل :
-أنا آسفة اني هزعجك بس لازم حد يبقي معايا انــ
أمسك بذقنها و رفعه إليه, لتتجاوب معه بسهولة, أبعد يده مسرعًا عنها و كأنه لامس شعلة ملتهبة, لتقول مسرعة :
-أستاذ عليِّ خلاص خلاص ملوش لزوم تفضل معايا, انا كويسة!
-مش مطمن هو في حاجة؟
قالها هادئًا, و كأن بكائها المرير لا يعنيه, فقالت علي نفس حالتها الأولي :
-لا لا مفيش انا بقيت كويسة, تقدر تمشي عشان معطلش حضرتك
-زي ما تحبي, عموما قولي لعامر أني جيت عديت عليه
و تركها و ذهب, هكذا ظنت أنه راحل!, خرج من المنزل بهدوء و ترجل لمصعد, و هو يلوح لها مودعًا, و كأنه لم يري دموعها الضعيفة, ندمت أنها أظهرت و لو جزءًا من بكائها, أعتقدت سيسألها سيحاول إستجوابها و يطمئنها, و يعوض فقدان شقيقها الآن, لكنه جامد للإحساس, ما أن أخبرته أن يرحل, حتي رحل بدون وداع يذكر, هكذا أعتقدت و ليس كل إعتقاد صادق, فلم يهدأ جنون قلبه و ولع عقله بها, لم يتماسك أمام تلك الدموع, يعرف أنه لو وقف أمامها لثوان أخري, لفعل ما في مخيلته و أكثر, دموع لؤلؤية تهبط من جنان عينيها, ما أحزنها يا تري؟ ما الذي يحزن أميرته الحسناء؟ جلس في سيارته أسفل منزلها يراقب نافذتها في هدوء, يود أن يصعد لها مرة أخري, و يبتكر حجة جديدة للإلتقاء بها لكن رونق رجولته يمنعه, ليكون بالقرب منها, قاوم بكل ما أتي من قوة, و ظل علي موقفه منتظرًا أن يحدث شيء يدفعه لعودة إليها, لكن أضطر في نهاية الأمر لتودعيها عن بُعد, بعدما رأي سيارة عامر تصطف في الشارع, و عامر يترجل منها, هنا أحس ببعض الطمأنينة عليها, و مع ذلك ود لو كان حاضرًا شاهدًا لم حدث ليجعل حوريته الصغيرة تبكي بهذا الشكل المروع, و ينتقم من الفاعل!
دلف عامر لمنزله, فوجدها تجلس علي كرسي خشب أمام سفرة الطعام الفارغة من الأطباق, بين شفاتيها سيجار, و بين أصابعها قلم, وضع الطعام الجاهز علي طاولة صغري, و جلس جوارها كعادته, ألقي نظرة فوق ما تكتب, ليجد رسمات لجماجم مرعبة تخرج منها عظام علي شكل حرف X  بالأنجليزية, لم يعقب بشيء, ثم أخرج سيجارًا أخري من العلبة خاصتها, و أمسك بالقداحة الوردية, تفحصها ساخرًا معلقًا بإستهزاء :
-pink!
أطفأت سيجارتها خجلًا من التدخين جوار شقيقها الأكبر, بوضع السيجار علي أعقابها داخل كوب الشاي, ظلت تتابع رسم في صمت كئيب, رغم أن قلبها أحس بالأرتياح بمجرد سماع عجلات سيارته و هي تحتك بالرصيف, و رائحة عطره الشذا المنتشر سريعًا, و خطوات حذاءه المقتربة منها, تود أن ترتمي في حضنه و تطلب منه أن يعانقها في حنانه المعتاد, لكن لأي سبب هذا العناق, أحست بالخجل و ظلت تدفئ جسدها برسومات كئيبة كثيرة تقبعها علي صفاحتها البيضاء, لتتوقف فجأة عن الرسم و هي تسمعه يقول بثبات :
-بسمة أنا قررت أتجوز
*
*
*
*
يتبع

أطلال محبةWo Geschichten leben. Entdecke jetzt