الفصل الأول:« نهايةُ كلِ بدايةٍ».

1K 58 79
                                    

بوجهٍ شاحِبٍ شحوب الموتىٰ، حين تُلفظ أنفاسهمُ الأخيرة، وبجسدٍ علىٰ وشك فقدانِ آخرِ علامات حيويته، بجروحٍ رسمت طريقها علىٰ كل إنشٍ بخلاياه، بشفاهٍ زرقاء تُحاكي صعوبةٍ في سريان ذاك السائل القاني بها، يسبحُ في عالمٍ بعيد؛ بعيدًا كل البعد عن هذا العالم الغض، اللعين، تجولُ ذكراه في ذكرياتٍ قد انتقلت لمنطقةِ اللاشعور، حيثُ دفن بها كل ألمٍ، خزيٍ شعر به، وبكل انتفاضة بكاءٍ عجز علىٰ أن يُشهرها.

وكأن أخرِ ما سمعه، قبل أن تُظلم الدنيا حقيقةً بوجهه، كما أظلمت كنايةً منذ أمدٍ بعيدٍ عن قلبه، هتاف الجمع حوله، وهم يُشهرون أسلحة عيونهم علىٰ جسده المُسجىٰ أرضًا، والغارقُ في دماءِ التضحية، ولا أحد يعلم له كنيةً، ولا لقب، لا عائلة، ولا اسمٍ حتىٰ!

_«رباه، من هذا؟!».

_«هذا غريبٌ إن لم يُخطئ ظني!».

_«فليُهاتف أحدكم سيارة الإسعاف».

_«أسرعوا إنه ينزف بشدة!».

_«هذ الغريب وقع ضحيةً لهم! هل كان بشجاعةِ أن يُجابه الظلم بكل بسالة!».

_«ألا عائلةٍ له! إننا لا نعلم عنه شيء! ليضع أحدكم يده علىٰ جرحه الغائر».

غريب!... شجاع!.. باسلٌ!...بلا عائلة!... ومنذ متىٰ كان ينتمي لعائلة؟!

هو الغريب الذي لا وطن له،
لا عائلةٍ تحنو،
ولا يدٍ تُربت،
ولا حِضنٍ يَضمه،
لا وطن له هو!
أصدقوا القول بغرابته! ولكن هل أخطأوا وصف شجاعته!
هو ليس بشجاعٍ البت!
هو لا فائدة منه،
هو لا يُحسنُ التصرف في أي شيء،
فاشل في كل خطوةٍ خطاها.

ومازال يفشل! لا في هذه اللحظة، وفي هذا التو لا فشل، ولىٰ زمنه، لأنه لن يعود مرةً أخرىٰ، مستسلمًا بكل هوادةٍ منه، وبكل انصياعٍ وامتثالٍ لأن يودع عالمه البائس، لا لن يعود!
العودة مرة أخرىٰ، بمثابة فشلٍ لا يضمحل، فليستسلم إذن كجل استسلاماته التي لا تنضب، وليُرخي جفنيه منسابًا لهذه الدُجنة، وليطبق السمع عن كل هذه الترهلات، هو لن يعود.

ولكنه مازال صدىٰ كلمةِ «شجاعٍ» تطن في أذنيه طنينًا غريبًا، لم يعتاده من قبل!
هل تبدلت «أنت فاشل» بـ «شجاع»!! بالطبع لا، هذا دربٌ من جنونٍ لا يريده، لا يريد العدو خلف وهمٍ وسراب، هذا وقعُ كلمةٍ خاطئة، أخطئتها إحدىٰ الأفواه، لماذا يكذبوا!
ألم يعلموا أن الكذب حرام! ليس من شِيم الإسلام!! لماذا يلقبونه بما ليس فيه!!

ولوهلةٍ وقبل ضياعِ وعيه في دهاليزٍ بعيدة، مرت سنون عمره في ذكرياتٍ بعيدة، أمام مرآىٰ عينيه المنسدلة، وكأنه شريط حياته الذي عاشه، والذي يحفظه في مكانٍ سحيق، ذاك المكان الذي يحمل من المرارةِ ما يكفيه، يوصمُ به كما وصمةِ العار، يدركه ويعرفه عن ظهر قلب،
هناك في الأمدِ البعيد،
حيث اسوداد حياته،
ورمادية أفكاره،
حيث لا سلام في عمره،
هو فارس الحرب،
العدو والمحارب،
الفائز والخاسر،
هو المنبــوذ.

الــمَـنبُــوذ. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن