الفصل الثامن عشر: «هُدنة».

108 10 43
                                    

_قراءة مُمتعة يا رِفاق").

*******

عندما تهدأ الأصوات من حولك، يخفت الضجيج شيئًا فشيئًا حتىٰ تراه مضمحلًا لا أثر له؛ فيعم الهدوء القاسي.. الهدوء المخيف الذي ترهبه، وتخاف أن تقع فريسته!
حين يرن صدى أفكارك في صمت المكان.. الأشياء كلها ساكتة.. إلا عقلك لا يكف عن الضجيج، فتدخل في مرحلة أن يكون دوي الهدوء أبشع من دوي الأصوات.. صدى أحاديث الناس.. نفير السيارات المزعج.. ضحكات الأقارب.. عويل الفاقدين.. صراخ الأطفال... تدرك هنا ولوهلة أنه لولا هذه الأصوات حولك.. لفقدت عقلك كل يوم ألف مرةٍ من ضجيج الهدوء اللامرئي.

٭٭٭

_ كيف.. كيف تعرض حياتك للخطر هكذا! كيف تسمح لهم بأن يؤذوك وتؤلمني؟! هل قلبي يستحق منك كل هذا؟!

وأمام هذا الحديث كان يناظرها باتساعٍ في مقلتيه، وقلبٍ يخفق بقوة إثر رؤيتها بهذا الشكل، والكلمات تخرج منها بحرارة شديدة، بوجهها الباكي بقوة شخصٍ أوشك علىٰ فقد من يهمه أمره.. فكاد ينهار، كان هذا هو الوصف المثالي لها.

هل قصدت ما تشدقت به لتوها، وهي تقف مرتجفة أمامه بانفعال! هل تألم قلبها حبًا لأجله؟ أم مجرد قرابة جيرة وصداقة تجمعهما؟! وإن كان الاستفهام الأول فصدمته ستكون أقوى، فما أرقه لليالٍ طوالٍ لا يكف عن التفكير فيه، يضيق قلبه ذرعًا حين تهدي المارة ضحكاتها العفوية، وتلاطف هذا، وتمزح مع ذاك، وهو حين يراها تحادث رجلٌ ولو كان قريبها.. يكاد يدك الأرض تحته دكًا وغضبًا، تتملكه رغبة في أن يعنفها علىٰ تعاملها المتباسط مع الجميع.. ولكنه يعود أخر اليوم مطأطئ الرأس وهو يدرك تمامًا بأنه لا يملك عليها حق أن يمنعها من أي شيء، ولكن ماذنب قلبه إن كان اختارها هي من بين كل الفتيات.. هي دونًا عن الكل!! والتي عاندته يومًا في صغرها مشاكسة.. بأنه سيقع في حبها حين يكبران، ولن يجد فتاة بجمالها أبدًا وهي سترفضه ولن تقبل به.. وكبرياءه كذكرٍ عنيد هو الأخر، أخبرها بقوة عتاده بأنه أبدًا أبدًا لن يحبها.. وسيقع في حب فتاة أجمل منها بكثير وسترى مستقبلًا هذا، وهاهو منذ سنواتٍ ليست قليلة، يسخر من نفسه كل يومٍ يراها فيه، وقد صدقت هي وكذب هو.. انتصرت عليه بأن أوقعته في حبها دون جهدٍ منها، وخسر هو الرهان حين أصبح رهن قلبها!

_جنـ... جنىٰ.. ماذا تقصدين بحديثك؟! هل... هل أنتِ؟!

بالكاد تفوه فمه بتلك الكلمات المبعثرة بنبرة متلعثمة، وهو مازال زاهلًا مما نطفت به انفعالاتها، ونظراتها قبل كلماتها، أما هي فاقتربت منه ومازالت الدموع تنساب خجولة من مآقيها، وقد سئمت هذا العناد، والرهان الذي وضعاه سابقًا، ليقع كلاهما بلا حول منهما ولا قوة علىٰ جذور رقبتيهما، صارخة فيه بانفعالٍ غير عابئة بملامح الصدمة علىٰ وجهه:
_ تبًا لك يا معاذ.. هل تسأل بعد كل هذا؟! كيف تترك نفسك فريسة للخطر هكذا.. بل كيف سمحت بهما بأذية قلبي فيك!
ولا تسألني عن معنى حديثي لأنك تعرفه جيدًا.. بل كلانا يعرف ما في خبيئة الأخر.. وقد سئمت هذا العناد بيننا.. سئمت ركضنا خلف حديث طفولةٍ بائسة وتحدي لعين من كلانا.. دون مقدرة من أحدنا علىٰ الإيفاء به، سئمتُ من أن أكون مختبأة دومًا خلف ذلك التحدي منتظرة منك أن تتحرك نحوي.. ولكنك أحمق أنت الأخر، لاكتشف أنك أيضًا مختبئًا خلفه ولا قدرة لأحدنا علىٰ أن يعترف للأخر بمشاعره.. علي أن أشاركك ألمك.. وحزنك، فرحتك ونجاحك، أن... أن أهرع إليك خلف مشاعري حين أسمع خبر إصابتك فلا يقابلني السخرية منك علىٰ خسارتي.. فلتشهد الآن أننا وأنت خسرنا التحدي.

الــمَـنبُــوذ. Where stories live. Discover now