الفصل الخامس والعشرون - الجزء الثاني

34.8K 1.3K 36
                                    


الفصل الخامس والعشرون ( الجزء الثاني ) :

وقفت تبكي بتحسر وهي تندب حظها العثر الذي أوقعها في هذا البلاء الذي تعيشه الآن .. لطمت على صدغيها ، وأطرقت رأسها في خزي وإذلال ..
لم تعد ترغب بالرفاهية والحياة المنعمة ، بل تتمنى لو تعود بها الحياة إلى سابق عهدها ، ترغب في العودة لراحتها القديمة التي تفتقدها..

نعم .. كانت تعيش في كنف أبيها مدللة ، فتزوجت من جعل منها وسيلة لتحقيق أغراضه الدنيئة طمعاً في المبلغ المالي الضخم الذي كان سيحصل عليه من والده للإنفاق على تكاليف زواجه المزعوم ..

والآن هي تعاني ويلات لا حصر لها حينما رفضت الإنصـــات إلى والدتها التي لم ترغب في تلك الزيجة منذ البداية ، وحذرتها كثيراً من مغبة تلك المجازفة الغير مدروسة ، ولكن كان طمعها گالمرض الذي ينهش لحم صاحبه ويتركه عظاماً ..
هي الآن في حضرة وكيل النيابة عقب تحويلها إلي السفارة المصرية ومنها للنيابة بعد ترحيلها سجينة من الخـــارج ..
شعور بالإنكســـار المصحوب بالذل سيطر عليها كلياً ..

حدجها والدها مدحت بنظرات ساخطة على صمتها طيلة السنوات السابقة وإيهامهبكونها تعيش گالملكة المتوجة في قصر زوجها ..

بينما قطع وكيل النيابة هذا الصمت المريب وهو يقول بلهجة جامدة :

-أكتب عندك ، قررنا نحن وكيل نيابة(( .... )) الإفراج عن المتهمة سارة مدحت عبد التواب بضمان محل إقامتها وعقب تسديد مبلغ الكفالة المطلوبة !

ثم رفع رأسه لينظر نحوها بجمود ، و أشار لها بيده وهو يتابع بصرامة :
- اتفضلي امضي هنا وامشي ، لولا والدك انتي كان زمانك متبهدلة في الاقسام !!!!!

_ ابتلعت سارة أهانته التي كانت گالعلقم في حلقها، ثم أمسكت بالقلم بأصابع مرتعشة وهي تبكي بندم شديد . ..

سبقها والدها للخارج وهو يكافح للسيطرة على إنفعالاته ..
التفت ليرمقها بنظرات احتقارية تقلل من شأنها وهو يردف بجمود وقسوة :

-ليه عملتي كده في نفسك ياسارة ؟! !!

وضع كفيه على كتفيها ، ثم صرخ بها بعصبية وهو يهزها بعنف :
-ازاي تقبلي كده على روحك !!!

إنهارت ســــارة باكية بمرارة وحسرة ، فأرخى قبضتيه عنها ، وارتمت بين أحضانه لتكمل بكائها الحارق المصحوب بالخزي الشديد ..
اختنق صوتها ، وهمست بمرارة :
-مكنتش أقدر تقول حاجة ، كان لازم اتحمل نتيجة طمعي لوحدي !!!

أشفق مدحت على حالها البائس .. هي أخطــأت ، وأساءت إلى نفسها بطمعها .. ربت على ظهرها بحنو ، ومسح بكفه وهو يضيف معاتباً :
-غلط يابنتي، علاج الغلط بالغلط ده أكبر غلط .. انا كنت حاسس ان في حاجة ورا استعجاله وحذرتك قبلها ، لكن إنتي كنتي راكبة دماغك ومصممة.. ودي النتيجة !!!!

انتحبت سارة بأنين خافت وقد شعرت بصدق قوله الذي زاد من اشتعال صدرها واحتراقه :
-ده عقاب ربنا ليا ، ده عقابه ليا ، آآآه !!!

_ ما كان منه إلا الصمت أمام بكائها الحار والشديد الندم ..
لم تتوقف قط طوال طريقها للعودة لمنزلها ..
لم تعد تشعر بطعم الحياة بل بالموت ، ربما يكون راحة لها من هذا الذي عايشته طوال هذه السنوات ..
هي مذنبة في حق نفسها ومجرمة حيال حرمتها گإنسانة ، لذا كان عليها تجرع العذاب كؤوساً مضاعفة لكي تتفهم حقيقة الدرس جيداً ...

..................................................................


تأهب مالك بنفسه ليقوم بمهمة توصيل إيثار إلى منزلها ، لن يتركها على تلك الحالة الواهنة ، بل لن يجرؤ قلبه على تحمل رؤيتها ترحل دون أن يطمئن عليها ..
وكانت ريڨان هي الأخرى مستعدة للذهاب معها .. فخرجت بها من الفيلا وهي تحملها وتداعبها بسعادة ..
نعم فهي باتت سلواها في وسط بحور أحزانها ..
لم تعلم إن مالك بإنتظارها في السيارة ، فهي على إعتقادها بأن السائق هو من سيتولى مهنة توصيلها ..
حمدت الله في نفسها أنها لن تضطر لإستقلال أي وسيلة مواصلات بمفردها .. فأعصابها مشدودة ، وجسدها مرهق بصورة كبيرة ..

وضعت الصغيرة على مقعدها الخاص بالمقعد الخلفي ، وأحكمت ربط حزام الأمان ، ثم أغلقت الباب بهدوء ..

رفعت رأسها للأعلى لتحدق في السائق ، لكن اتسعت حدقتيها بصدمة حينما رأت مالك يجلس خلف المقود
ويشير لها بيده لتجلس على المقعد الأمامي بجواره ..
توردت وجنتيها خجلاً منه ..
ذلك التورد الذي لم يعرف الطريق إلى قسماتها إلا معه هو فقط ..
هو خجل خاص به وله ..
ازدردت ريقها بحذر، وهزت رأسها معترضة بحرج بادي عليها .. وهتفت نافية بإستحياء :
- لالا ملهوش لزوم ، انا هاخد تاكسي !

حدجها بنظرات قوية ، ولم يترك لنفسه المجال للتفكير ، بل ترجل من سيارته ، واستند بساعده على سقفيتها ، ثم لوى ثغره ليردد بضجر :
-بصي يا مدام إيثار !

_أثار ضيقها بوضوح ظاهر على تعابير وجهها بنعتها بــ ( مدام ) ، بينما تابع قائلاً ببرود :
-أنا كده كده رايح عند عمتي ، يعني في طريقي ، وانا مش متكلف حاجة.. ياريت تتفضلي عشان الوقت !

نظرت له بذهول قليل ، فهتف بها بجدية :
-يالا ، مش عاوز أضيع وقتي !

_ انصاعت لرغبته دون إبداء أي مقاومة ، وربما تكون رغبتها تلك في شغفها للقرب منه ..

استقلت السيارة معه ، وحافظت على بقاء مسافة بينهما .. ثم التفتت برأسها لترى الصغيرة وهي تتداعب الكرات الصغيرة المعلقة في مقعدها ..
لاح على ثغرها إبتسامة ناعمة لم تستطع اخفائها لبرائتها ..
وتأملها هو بنظرات مختلسة أشبعه عطشه إلى حبها القديم ..
اعتدلت في جلستها ، وانكمشت على نفسها أكثر ..
حضوره الطاغي ، وقربة الشديد يؤثر بها ، ويشتت تفكيرها ..

تأملت حركات يده من زاوية عينها وهو يحركها متنقلاً بين المقود والمكابح وكأن حنينها بات غير مخفياً ..

استشعر بقلبه نظراتها .. لكنه لم يحاول النظر إليها ، أراد أن يحافظ على جموده .. لكن هيهات ، وما للقلب من حاكم !
توقفت السيارة في إحدى الإشارات المرورية فمرت عليه طفلة تمسك بيدها بعض زهور الفل والياسمين المعقودة مع بعضها البعض، فقربتها منه وهي تمد يدها داخل السيارة ثم هتفت بإلحاح شديد لتثير تعاطفه :
:-والنبي ياسعات البيه تاخد الفل ، ربنا يخليلك الهانم يارب وتفضلو مع بعض طول العمر ، خده مني !

_ فغر فاهه بذهول من عبارتها وهو يرمقها بنظرات جامدة رغم صدمته ..
شعرت إيثار بالقلق من ردة فعله نحو تلك الفقيرة ، فأشارت لها بيدها وهي تقول ببسمة عذبة :

-تعالي ياشاطرة

ركضت الفتاة للجهة الأخرى من السيارة وقد اتسع فمها بإبتسامة حماسية وصاحت بتفاؤل وهي تمد يدها لها بالزهور :
-اللهي ربنا ما يحرمك من نور عنيكي ياست هانم !

أخرجت إيثار من حقيبتها بعض النقود ثم أعطتها لها وهي تبتسم ، تناولت منها عقدين من زهور الفل والياسمين وقالت لها بخفوت :
-شكراً

طالع مالك تصرفها بغرابة وهو قاطب جبينه ..
هي كما اعتادها قبل سنوات .. عفوية ونقية گسماء زرقاء صافية عقب ليلة هوجاء عصفتها الرياح والأمطار ..
أمعنت في تعابير وجهها المرتخية بإرتياح ..
ها هي تبتسم ، ها أنا أرى غمازتيها تتشكلان لتأسرني مجدداً ..
أفاق من هالة سحرها ، والتفت برأسه سريعاً حتى لا تلتفت هي وتلاحظ نظراته الشغوفة لها ..
طيلة سنوات غربته رسم لها رداء الطمع والخيانة ولكنه لم يره أبداً يليق بها ..
لم يكن لها ، بل لم ينطبق عليها ، ولكنه أجبر نفسه على رؤيتها كذلك ،
رجا الله في نفسه وتضرع إليه خفية أن ينير طريقه ويهديه ، هو گالضال .. لا يعلم ما يدور حوله .. متخبطاً مذبذباً ، وبأقل همسة منها يعصف كيانه وتدور الرياح من حوله ، ويسقط صريعاً في بئر غرامها .....

......................................................................

_ وصلت سيارته على أول الطريق المؤدي للبناية التي تقطن بها ، فصفها ، وأفلت حزام الأمان عنه واستدار بوجهه ليبلغها بعدم قدرته على الإنصفاف أمام البناية مباشرة ، ولكنه وجدها تضع حقيبتها على كتفها وتستعد للنزول من تلقاء نفسها .. فأثر الصمت حتى لا يفسد وهم هدوئه المقنع ...

ترجلت من السيارة ، وخطت نحو بنايتها بثبات ..
حرك رأسه قليلاً ، فلفت انتباهه أنعقاد الزهور في مرآة السيارة الأمامية ...
اتسعت حدقتيه بصدمة ، ومد يده بشكل تلقائي لكي يلتقطها ..
قربها من أنفه ، وأشتم رائحة الياسمين النفاذة في الزهور بهوس عجيب ..
أغمض عيناه ليستمتع بذلك السحر الذي تخلفه ورائها ..
وتسائل في نفسه بإندهاش ، هل شرد بقوة لدرجة تصل إلى عدم انتباهه لفعلتها تلك ؟
بدى كما لو كان بعالم آخر غير واقعه الذي يرفضه هذا ..
فتح عيناه ، و تلمس الزهور برقة .. وتأمل بياضها وألوانه المثيرة للفرحة ، ثم ابتسم وهو يلتقط زهرة منهن ليحتفظ بها ..
عقد البقية في المرآة وهبط عن سيارته ...

.................................................................


ولجت إيثار عبر باب المنزل ثم صفقته بهدوء لتجد أمامها عمرو ، مرتدياً قميصه وبنطاله الأسودان مستعداً للهبوط ..
لم تعره الاهتمام ، و تحركت للداخل ، و تركت الحقيبة عن كتفيها وكادت تجلس إلا أنه إستوقفها بعبارته قائلاً بعذوبة :

-إيثار ، انا هنزل أجيب أكل ، قوليلي نفسك في إيه !

استدارت برأسها نحوه ، ونظرت له بعدم إكتراث ، ثم ردت عليه وهي تشير بيدها نافية :
-لا شكراً، انا هغير هدومي وادخل اعمل أكل لنفسي !

اقترب منها عمرو ، وحاوط كتفيها بذراعه ، وأردف قائلاً بإصرار وهو يبتسم لها :
- لأ ، هجيب أكل ومش هتعملي النهاردة .. بس قوليلي نفسك في إي؟

_ تنهدت إيثار بإرهاق عقب حركته المباغتة ثم تهدل كتفيها بحزن ، هي لم ترغب يوماً أن يصل الحال بينها وبين أخيها لهذا الجفاف والرقود، ولكنه من دفعها لكل تلك العدائية التي حملتها تجاهه ..
هي لم يعد لديها المزيد لتخسره ..
عليها اتخاذ هذا القرار الذي لم تتخذه منذ ثلاث سنوات ..
التفتت لتنظر له بعين الاشتياق وهي تقول بهمس :

-هاتلي عسلية ، بس تبقى بالسمسم !!!

_ كانت رسالتها بالسماح والعفو عنه أكثر الأشياء فرحة وبهجة ، أرتفع نَهَدَيه بنفس عميق ثم احتواها داخل أحضانه لتسكن جوار نبضات قلبه المشتاقة إلى دفيء أخته الصغرى ..
أه يا حبيبتي ، كم اشتقت لحضنك الدافيء ، وروحك العذبة ..
انحنى ليقبل رأسها ، ثم حاوط وجهها براحتيه ، وهتف بفرحة جلية :

-انا هنزل أجيبلك محل العسلية بحاله وأجي على طول !

_ كانت تحية تقف على عتبة المطبخ لتتابع فلذتي كبدها ..
ابتسمت بسعادة وهي تراهما معاً ..
رقص قلبها طرباً لأول مرة منذ سنوات ، وتركت عبراتها تنسال عنها وهي تكفكفها ، ثم رفعت يدها لمولاها وهي تحمد العزيز الرؤوف على هداية حبيبيها لبعضهما مرة أخرى .. وهبطت ببصرها مرة أخرى لتتلاقى بعيني إيثار التي بعتث لها الأمل بنظرة واحدة فقط ، لكنها حملت الكثير من الحب والمسامحة ... .

................................................................

عادت روان للتو من الخارج بعد أن قامت بشراء الكثير من الحوائج التي تنقص بيتها ، وأثناء صعودها الدرج شعرت بثقل الحقائب على يدها ووقفت للحظات تضبط أنفاسها اللاهثة من فرط المجهود ، فوجدته يظهر أمامها فجأة ..
أسبلت عينيها بحياء ، ثم تحركت للجانب لتفسح له الطريق ولكنه أشار لها لتصعد وهو يبتعد بخطواته قائلاً :

-اتفضلي يا آنسة روان !

ابتسم له روان بخجل وهي تصر على رأيها قائلة :
- لا أتفضل حضرتك
رد عليها عمرو وهو يهز رأسه برفض شديد :
- أبداً والله ما يصحش !!!

_ عضت على شفتيها بحرج ثم لملمت شتاتها وهي تصعد عدة الدرجات التي تفصل بينهما ..

وقفت على مقربة منه ، ورفعت عيناها بخجل نحوه لتطالعه بنظراتها المتأملة ، فلاحظت نمو بصيلات ذقنه والتي جملت من هيئته الحزينة ، فأطرقت رأسها وهي تقول بحزن شديد :

-البقاء لله في والدك !

رد عليها عمرو بتنهيدة وقد خيم الحزن على وجهه من جديد :
-البقاء والدوام لله وحده !

_ وقع بصره على الحقائب البلاستيكية العديدة التي تحملها ففكر سريعاً في مساعدتها وبشكل تلقائي هتف :
- تحبي أساعدك في حاجة؟
أجابته روان وهي تهز رأسها بنفي :
-لا شكراً، عن أذنك !

كادت تمرق من جواره ولكنها انتفضت بهلع .. بل ارتجفت بخوف كبير ...
نعم شعرت برعشة تسرى بأوصالها على إثر صوت أخيها وهو يهدر بها :

-روان !!!

التفتت بفزع نحوه ، وتسمرت في مكانها مصدومة ...
أدرك عمرو سبب خوفها ، وأسرع موضحاً حسن نيته ، فتساءل بنزق :
- ازيك يامالك ؟
هدر مالك بعنف متجاهلاً حديثه له وهو ينظر حيال أخته الصغرى بنظرات مشتعلة :
- بتعملي إيه عندك؟
ازدردت روان ريقها بخوف ، وأجابته وقد تلعثمت الحروف على لسانها :
- آآ نا......... !!!!

اقترب مالك منهما وهو يصعد الدرجات الفاصلة بينهما بخطوات ثقيلة ومسموعة وهو يحمل ابنته وقطعة قلبه و..................
.....................................

✅ وَبَقِي مِنهَا حُطَام أُنثَى ©️ كاملةWhere stories live. Discover now