تردَّدت أصداء الضرب في أرجاء أرض الجياد بقوة في ساعات الليل الأولى، دون أن يهتدي إليها أحد، و دون أن ينجح هارولان في كسر شيء من البوابة، رغم جسده المصقول و بنيته الخشنة، إلا أن السدادة التي وضعها حديثا غير قابلة للكسر! وقف آخر الأمر أمام خيبته يتنفس بحدة و يتصبب عرقا، و بدا ما يحدثُ الآن خزيًا و عارًا بالنسبة له خصوصا أنه يحدثُ على مرأى من سجينته، ظل على وقوفه هناك يوليها ظهره، فلا رغبة له في رؤية نظرة سخرية شامتة ترمقه بها؛ لكن شيئا ما قاومه في الأعماق، و هزم عناده، و دفعه للالتفات قسرا، و المُدهشُ أنها لم تكن مكترثة بما يفعله، و لا ترمقه بأي سخرية أو شماتة، بل إنها لم تكن حتى تنظر نحوه، كانت ماريغولد جالسة في مكانها المعتاد فوق كومة القش، تسندُ ظهرها المتصلب إلى الجدار الخشبي، و تضمُّ كلتا ساقيها إلى حرارة صدرها المتآكلِ حسرةً، بذراعين مشدودتين تحاولان التماسكَ رغم التعب المضني!
أخبره وجهها الشارد أنها ليست هناك، و لا تتابع ضاحكة محاولاته الفاشلة في كسر قيود السجن التي صنعها بنفسه؛ و إنما هي... بروحها و عقلها و كل ذرة من كيانها... في عالم آخر بعيد تماما عن عالمه، و حين دقق النظر أكثر لاحظ أنها تنظر إلى نقطة وهمية منذ وقت طويل دون أن تتزحزح عيناها عن مسارهما، و دون أن يصدر جسدها حركة واحدة تدل أنها على قيد الحياة، فيما كانت نسمات الليل المتسللة إلى الإصطبل تكسر شيئا من ذلك الجمود محركة خصلات شعرها، لم يعرف لماذا افتقدَ فيها تلك المرأة المجنونة التي كانت كل نظرة منها تنطقُ بالصمود و العنفوان، لا شيء من ذلك في مظهرها الآن، لا شيء سوى التهالك، و كم ساءَه -لسبب مجهول- أن يراها هكذا! لماذا تبدو على هذا النحو الآن؟ جسدٌ سُرقت روحه... و وجهٌ كل قسماته منقوعة في الحزن! هل ستنهار و تستسلم؟ تُرى ما الذي ينهشها بهذا الشكل؟ و ماذا سيأتي بعد هذا السكون؟!
ارتمى إلى جانبها على القش، و طيلة نصف ساعة أخرى لم ينبس ببنت شفة، غير أنه شعر بالصمت يفقده صوابه، و استعاد صورًا كثيرة في عقله أوقدت نار حيرته بشأن الأنثى التي لم تترك شرودها بعد، فسألها فجأة دون مقدمات:
"لماذا سرقتِ تلك الأشياء؟"
حظي باهتمامها أخيرا، إذ أجفلت و استدارت تحدق فيه بعجب متمتمة:
"ماذا تعني؟".
فأضاف موضحا:
"الأغراض الثمينة بحقيبتكِ! هذا ما أعنيه".
فتحت فمها لتجيب، لكنها أحجمت عن الكلام؛ أو بالأحرى... لم تجد ما يقال إزاء اتهامه الأعمى، أما هو فلم يعجبه صمتها، و منظر العجز الذي لفها على نحو محير، فكرَّر استفساره بشكل مهين هذه المرة ليحثَّها على الرد:
"هل هي لمخدومتكِ الثرية... أم أنكِ سطوتِ على قصرٍ ما قبل أن تطئي أرضي؟ إنكِ لا تملكين مظهر من تخونُ الثقة... لكنَّكِ من المعشر نفسه! سُحقًا لكنَّ أنتنَّ النساء!".

YOU ARE READING
الغضب الأسود
Romanceفسخت ماريغولد خطبتها لتنقذ طفلا صغيرا، لكنها تجد نفسها متهمة بمحاولة خطفه من طرف خاله القاسي! يسجنها راعي البقر هارولان كينغ في إصطبل على أرضه عقابا لها لأنها تجرأت على الوقوف أمامه بكل قوة، لكن ماذا سيفعل سيد قطعان الثيران حين يكتشف أن ماريغولد خطف...