الفصل 22|لا تخشي الظلام!

27.5K 1.2K 271
                                    

في الرحلة إلى «ويندي هاربور» تعرَّجت الطريق كأنها ثعبان عملاق يسبقهما صوب وجهة مجهولة، ارتعشت أفراد الأشجار بفعل رياح الجنوب، تلك الرياح المُلتوية التي تعصفُ بالغابات مشبَّعة بآخر عطور ديسمبر، و كلما صفعت الأوراق الخضراء، جعلت قطرات الندى تتهاوى منزلقة عن السطوح الرطبة، إلى أرض عطشى، لا تمانع في هطول المزيد و المزيد من الأمطار الشاذَّة في هذا الصيف العجيب!

   أرسلت ماريغولد نظرها المسحور عبر زجاج النافذة، و هي لا تملكُ مقاومةً ضد جمال الطبيعة من حولها، و إلى جوارها ذلك الرجل المتباعدُ الذي يكادُ يعبدُ صمته، مُكتفيا بنقل بصره بين الطريق و لوح القيادة، اتسمت قيادته بالسلاسة، و ما إن شغَّلَ راديو السيَّارة حتى قفز إلى الآذان صوتُ المذيعِ الأجش، و هو يردد محذِّرًا:

"...و يُصنَّفُ إعصار «إيلسا» الذي ستشهده مدينة «بيرث» ليلة غد ضمن الفئة الخامسة (الأعلى)، هذا و ستصحبُه أمطارٌ رعدية و رياحٌ غير مسبوقة سرعتها قد تتجاوزُ 288 كم في الساعة! على الجميع إتخاذ كافَّة احتياطاتهم! نكرِّر... على الجميع إتخاذ كافَّة احتياطاتهم!".

   شحب وجه ماريغولد، فلاحظ هارولان ذلك و هو يحرُّك غيَّار السرعة، و ينعطفُ بالسيارة يسارًا، و قال مُطمئنًا:

"لا تخافي! بيرث بعيدة عنا".

"ماذا عن كينغلاند؟ لِيو... و الباقين!".

نظر إليها في صمتٍ، ثم أجاب متجاوزًا شاحنة مواشي تحمل شعار مزرعة «غراند كلود»:

"لن تشهدَ كينغلاند أكثر من مجرد عاصفة عابرة، في كل الأحوال اتخذتُ كافة إحتياطاتي مسبقا، لقد توقع غوفيندا قدوم هذا الإعصار قبل أشهر! و دائما تصدق توقعاته الجوية".

"حقا؟ غوفيندا البستاني الهندي؟".

هزَّ هارولان رأسه بالإيجاب، فسألته ماريغولد مستعجبة:

"كيف يفعلُ ذلك؟ كيف يعرفُ ما هو آتٍ؟".

قاد هارولان السيارة هذه المرة يمينا و هو يردف:

"الأمر متعلق بأجداده، يقولُ غوفيندا أنهم كانوا يفهمون الكون، و ورث ذلك عنهم".

تذكر هارولان ذلك العجوز الهادئ، الغارق في تأملاته، و كان الوحيد الذي يجهرُ في وجه رب عمله برأيه مرددًا: «ستظلُّ هذه الأرض غاضبة! طالما تُحرِّمُ على ترابها الورود!»، و كثيرًا ما كان غوفيندا ببشرته البرونزية، و خصلاته الفضية الطويلة، و ثيابه الهندية التقليدية كاكيَّة اللون، و شاله الأحمر الذي لوحته الشمس، يُحدق مطولا في الأفق ليعلن فجأةً قدوم أمطار غزيرة! كأنه يملكُ أسرار الكون في عينيه المحاطتين بتجاعيد السنين!

خرج هارولان عن حدود أفكاره، و انتبه للفتاة الحالمة قربه، تجلسُ كسيدة مهذبة، لكن تعلو أساريرها تطلعات الأطفال لعالم خيالي، نفخت ماريغولد ببطء على الزجاج المتشح بمسحة النَّدى، لتطبع عليه بكفها علامة الحب خاصَّتها، تربطها تلك العلامة بماضيها، بروح والدها الذي اشتاقت له، بطيف والدتها الذي لم تعرفها سوى صورة! و بإيريكا لوريل! آه إيريكا الحبيبة! ابتسمت ماريغولد دامعة و هي تتخيل مدى سعادة العجوز الطيبة بالخبر الذي سيُنهي معاناتها! فيما كان هارولان يربطُ بعقله الفطن بين حركتها تلك، و علامة الكفوف الثلاثة التي لمحها على جدار بيتها!

الغضب الأسودحيث تعيش القصص. اكتشف الآن