الفصل 23|صرخة السيد

44.6K 2K 352
                                        

جلست ماريغولد إلى طاولة الفطور الصباحي تجترُّ أحداث أمس مبتسمة، يقودُها بالها الخالي من أي هم إلى الشعور بقوة عجيبة، قبل ساعات فقط كانت مهزوزة الأعماق، مفطورة القلب على غاليتها إيريكا، لكن وجود سند معها خفف ألمها، مساندة هارولان لها أحيت فيها الأمل للإستمرار، و ملازمته لها طيلة تلك الجنازة أكدت لها أنها ليست مهجورة في هذا العالم، حضنه بدَّدَ خوفها من الوحدة! رغم أنها لم تعرف بعد كيف لحضن رجل أن يشيع فيها كل هذا الأمان؟ و كيف ليديه اللتين ربتتا على ظهرها و شدتاها لصدره أن تمنحاها كل هذه القوة؟ لقد احتضنها أوليفر حين رحل والدها للأبد، و أخبرها أنه موجود أيضا، لكنها لم تشعر بالأمان، و لم تمنحها كلماته أدنى قوة، بل ملأتها بالقلق من مستقبل مجهول، و الشيء الوحيد الذي جعلها تتماسك و تسافر برفقته هو... الذكريات التي لم تمت في قلبها!

كانت الأنوار قد عادت إلى المزرعة مع بزوغ الفجر، و العاصفة هدأت و خبا هديرها، و الرياح القويَّة جمعت هبَّاتها العنيفة لتجمح بها بعيدًا، عدا المطر الذي فرض نفسه هناك، و تمسك بكينغلاند كأنها توسلته ليرويها أكثر. حلقت ساري حول الطاولة لتجمع الأطباق و الفناجين و رأسها يطوف بها، فيما كان لِيو يسأل ماريغولد بعينيه الواسعتين:

"ماذا سنزرع اليوم صديقتي؟".

أجابته معتذرة و هي تراقبُ ساري في ذات الوقت:

"لا شيء! لن نعمل في الحدائق اليوم".

عبس الطفل و لوى شفتيه، فسارعت إلى الاستطراد موضحة:

"لن ننجح في زراعة شيء مع هذا المطر الغزير، لذا سنأخذُ إجازة، و سنفعلُ ما يحلو لنا".

لمعت عيناه بحبور، سيكون يوما بديعا إذن، هكذا فكر و هو يعدد على أصابعه الصغيرة الأشياء التي سيستمتعان بها، ألعاب... قصص... تلوين... و ماذا أيضا؟ استعجلته ماريغولد مقاطعة أفكاره، و طلبت منه أن يسبقها نحو غرفته و ينتظرها هناك ليرسما معا، فأطاعها فورا، بينما اهتمت هي باستنطاق ساري عما يجري معها، ساعدتها في جمع الأواني بعد احتجاج الخادمة الطويل، ثم جلستا في جناح الخدم، و تحديدا بالغرفة التي تشغلها ساري، ضمَّت هذه ركبتيها لبعضهما، و نكست رأسها و أصابعها المتشنجة تقبض على الفراش بيأس، كشخص لن يكفيه عزاء الكون كله إزاء مصيبته، راحت ماريغولد تمشطها بعينيها منتظرة كلمة، كلمة فقط تشرح بها ذبولها مؤخرًا! مدت يدها و رفعت بها ذقن الخادمة مستسفرة بلطف:

"أسري لي بما يشغلكِ، المرأة لا تذبلُ إلا بسبب قلبها! السببُ رجل، هل أنا محقة؟".

انكمش فم ساري، و فاضت دموعها فورا، لتنفجر باكية في حضن ماريغولد، و استمرت كذلك تنتفض بيأس لدقائق طويلة كادت تشبه الساعات، حتى لملمت نفسها، و أعلنت أخيرا بصوت مرتعش:

"لقد حطمتُ نفسي آنستي! دمرتُ حياتي، و لا أعرف كيف سأستمرُّ بعد هذا... أنا... أنا...!".

و عادت للنحيب مجددا بعدما ضاعت منها الكلمات، التي رتبتها بجهد لا يعرفه سواها، تأملتها ماريغولد بتفهم، و قالت معالجة شعرها الأحمر الذي تبعثر حول وجهها الشاحب:

الغضب الأسودWhere stories live. Discover now