(القطعة الثالثة)

25.3K 593 19
                                    

(القطعة الثالثة)
***********
جلس على طرف فراشها يراقب ملامحها الساكنة بمزيج غريب من مشاعر تجتاحه بجنون هادر ويقاومها بجنون أكبر...
لماذا لا تكبر ملامحها ؟!
لماذا لا يبدو عليها أثر السنين؟!
لماذا لا تتخلل وجهها تجاعيد الهرم كمثيلاتها من النساء؟!
لماذا لا تسمح لخصلات المشيب أن تعلن عن نفسها ...
ربما تعلن معها "أمومتها"!!
نعم...ربما وقتها فقط ...ينسى "بيللا" الفاتنة نجمة الأضواء التي عاش يطارد سرابها لسنوات مرت ثقيلة كالجبل على صدره!
لكنها للأسف لاتزال تتشبث ببقايا عهدها القديم ...
تماماً كما عينيه العاجزتين عن رؤيتها إلا بصورة "المرأة الفاتنة"...
و"الأم الجاحدة"!!
جمالها كان ولايزال "نعمتها"...و"نقمته"..
"كنزها"...و"لعنته"...
ربما لهذا لا يزال عاجزاً أن يلبسها عباءة "الأم" تماماً كما لاتزال هي متشبثة ب"تاج"نجوميتها!

فتحت عينيها فجأة لتلتقي بعينيه الصارختين بمشاعره لكنه أغمضهما بسرعة وكأنه خشي أن يفضحه حديثهما ليقول بنبرته الخشنة:
_قبل ما تلوميني وتقولي أنا السبب ...الدكتور قال إن أدوية التخسيس اللي بتاخديها هي اللي أثرت عليكِ وسببت الهبوط اللي حصللك ده.

رمقته بنظرة عاتبة صامتة وجدت صداها في صدره فاختلجت عضلة فكه وهو يحاول كتمان ما يشعر به!
عندما وصل إلى هنا منذ ساعات ليجدها فاقدة لوعيها كاد يسقط جوارها وهو يتصور نفسه السبب في انهيارها هذا ...
وحتى عندما طمأنه الطبيب بقي على حالته من القلق حتى تحسن وضعها نوعاً ..
ساعتها تمنى لو ...
لو يحتضنها!
هل تعلمون أنه لم يحتضنها مرة واحدة في حياته كلها؟؟!!
هي حاولت كثيراً في مواقف عدة أن تضمه لصدرها لكنه كان يكتفي
بالاستسلام لحركتها متيبساً قابضاً ذراعيه جواره !!
هذه الحركة التي لم يفوتها قلبها ك"أم" لكن كبرياءها ك"نجمة"
تغاضى عن مناقشة سببها معه !
لكن...هل تراها حقاً لا تفهم ؟!
أم أنها تتجاهل السبب كما تجاهلته هو نفسه لعشرين عام من عمره ؟!

_يامن...أنا مش وحشة قوي كده !

بهمسها الخفيض اقتحمت بها "دائرته الخارجية" الخشنة لتصل لما بعدها باستطرادها المتهدج:
_انت عمرك ما سألتني سبت باباك ليه...عمرك ما عاتبتني ...
_ولا هاعاتبك !
قالها وهو ينتفض واقفاً وكأنما خشي أن يقترب من "صندوق ذكرياته الأسود" ليردف بنفس الخشونة :
_وياريت بلاش نتكلم عشان احنا الاتنين ما نزعلش...
ثم ابتسم ليقول بسخرية مريرة:
_واضح إن تأثيري وحش على صحتك ...كان معاكي حق ترميني زمان ...لو منك أعيدها تاني دلوقت !

أغمضت عينيها بألم افترش ملامحها لكن ظنون "نقمته" كانت تراها
الآن "بيللا" الممثلة البارعة التي طالما اعترف بمهارتها في إجادتها في إتقان الدور!
ربما هذا ما برر قسوة عبارته بعدها:
_عموماً ما تقلقيش...(ساعةْ صراحة) وراحت لحالها ...يامن اللطيف اللي بيزورك هنا ساعة كل يوم ويشوف طلباتك وطلبات البنات هيرجع تاني...أظن ده الأريح لنا احنا الاتنين !
فتحت عينيها لتنظر إليه نظرة "جائعة" لعاطفة هو "أبخل" ما يكون عنها ...رغم أنه "أحوج" ما يكون إليها !
لكن ما حيلته؟!
عندما تحترق الزهور يسهل أن تنبت من جديد ...
لكن ماذا لو احترقت "الجذور"؟!
هل يبقى هناك من أمل؟!

وتساؤله الأخير أجابه ببساطة عندما "ابتعد" عنها بضع خطوات في طريقه لباب الغرفة مع قوله:
_أدوية التخسيس دي ما تتاخدش تاني...لو عايزة تعملي رياضة خفيفة ممكن أفضيلك نفسي ساعة كل يوم الصبح بدري نمشيها سوا..
ثم التفت إليها برأسه ليردف بابتسامة مريرة:
_والحفلة احضريها براحتك وهاوصللك وأرجع آخدك...ماهو ما يصحش الناس ما يلاقوش ابن "النجمة" جنبها في مناسبة زي دي...مش ده كل اللي يهمك؟!
انفرجت شفتاها وهي على وشك الاعتراض لكنه قاطعه باستطرادها الصارم ملوحاً بسبابته:
_لكن البنات محدش فيهم هيحضر...وابعدي عن داليا بالذات ...مفهوم؟!
قالها بشراسة فتيّة اجتاحت حروفه لتفضح لها حقيقة شعوره نحو بنات شقيقتها ...
هو يريدهن جميعاً الصورة التي كان يتمناها فيها هي...
بل ويريد تجنيبهن جحيم حرمانه الذي عاشه عمره كله!
لهذا أغمضت عينيها ببعض الخزي الغريب على كبريائها المعهود
لتقول بصوت واهن:
_قَرّب يا يامن!

والعبارة وصلته كما أرادتها بالضبط!!
ليس فقط بما "ظهر" من قرب المكان ...إنما بما "بطن" من قرب القلب!
لهذا ازدرد ريقه بتوتر وقد بقي على حاله يعطيها ظهره للحظات
قبل أن يعود ليتوجه نحوها بخطوات بطيئة وعيناه تجبنان عن مواجهتها بنظراته ...

_آسفة...عشان ضربتك!

ليتها ما قالتها !!
الآن ...تعتذر؟!
علامَ؟! على مجرد صفعة؟!
هي -لو تدري- تجلده جلداً منذ ولد ...
تجلده ب-قربها-...كما فعلت منذ زمن ب-بُعدها-!
تعتذر على صفعة؟!
ألا تدرك أنه يوماً ما تمنى لو تصفعه؟!

أجل...وقتها كان طفلاً منطوياً كعادته يجلس منزوياً على إحدى مقاعد حديقة عامة مع والده الذي شرد عنه بتفحص جريدته ...
عندما رأى طفلاً آخر يصغره بسنوات وقد اندفع خارج سور الحديقة القصير مطارداً كُرته التي يلعب بها حتى كادت تدهسه دراجة مسرعة
لولا توقفها في آخر لحظة !
عيناه وقتها التصقتا بأم الصغير التي جرت نحوه بسرعة لم يرَها يوماً في امرأة حتى تلقفت ابنها ليكون أول رد فعل لها هو ...صفعة!

صفعة تمنى مثلها من فرط ما فضحت مشاعر الأم الملهوفة التي علا صوت بكائها وهي تحتضن ابنها بعدها بقوة وقبلاتها تمتزج بدموعها على وجهه!
ساعتها تمنى لو تكون له أم كهذه تصفعه لو أخطأ ...
مادام سينتهي كل هذا بعناق دافئ كهذا!!

_المفروض تتأسفي على حاجات كتير!
تمتم بها بصوت غير مسموع فرفعت إليه عينيها بتساؤل لكنه هز رأسه مقاوماً مشاعره لتعود لصوته خشونته مع قوله متجاهلاً اعتذارها :
_أنا هبات هنا النهارده عشان لو احتجتم حاجة .

نظراتها المريرة حملت تفهّمها لكل هذا الجفاء الذي يبديه...
وإن منعها كبرياؤها من الرد فاكتفت بالإشاحة الصامتة بوجهها بينما
رمقها هو بنظرة أخيرة قبل أن يخرج صافقاً الباب خلفه بعنف!!

هو وُصم بها منذ طفولته ولم يملك لهذا سبيلاً...
لكن قريباته لن ينحدرن في هذا الجرف مادام في صدره نفس يتردد.
"بيللا" تريد عيش حياتها نجمة فليكن لها ما أرادت ...
لكن النجوم لا تلمع إلا في "الليل"...
و"ليل جفائه" لن يقل ظلمة عن ليل "جحودها"!!
ولا عزاء ل"عاطفة" تظن أن بعد هذا الليل فجراً.....
========
_هي عاملة ايه دلوقت ؟!
سألها رامز هامساً بينما يراها تغلق باب غرفة النوم الصغيرة في شقتهما والتي صارت غادة تشغلها منذ وفاة زوجها في تلك الحادثة البشعة
والانهيار الذي أصابها بعدها ...
فأجابته وهي ترمقه بنظرة غريبة بين لومها وعجزها:
_هتموت يا رامز...لو جرى لها أي حاجة ذنبها هيبقى في رقبتك!

قالتها بعينين دامعتين وهي تتقدم نحوه ...
فهتف بانفعال:
_أنا كمان حاسس بالذنب بس والله ماأعرف ده حصل ازاي...الطريق كان فاضي عشان كده دست بنزين براحتي ....معرفش المقطورة دي ظهرت امتى وازاي!
تطلعت لجرح جبهته الغائر الذي تم تضميده وتلك الكدمات التي تغطي ما ظهر من جسده ...
قبل أن تنخفض نظراتها لجبيرة ذراعه المكسور ...
ثم أغمضت عينيها بألم وهي لا تكاد تصدق ما حدث في الأيام السابقة ...

حلم غادة الوردي تبخر في غمضة عين !
حب أحمد الذي كان لها الدنيا وما فيها صار الآن مجرد ذكرى!!
"العروس البائسة" التي لم يمر على زواجها سوى بضعة أشهر فقدت أمان عالمها كله فجأة ...
وهذا "المتهور" أمامها هو السبب!!
لهذا لم تملك نفسها وهي تفتح عينيها من جديد لتهتف بصوت مرتجف:
_أنا عارفة إن كل شئ قضاء وقدر ...بس غصب عني ...مش قادرة أبص في وشها ...فرحتها اطفت في عزها ...آآه....يا حبيبتي يا غادة !
انهارت بعدها في بكاء خفيض فضمها إليه بذراعه السليم ليهمس بمزيج من أسى وأسف:
_ما تشيلنيش الذنب أكتر ...أنا لحد دلوقت مش مصدق إن هو فعلاً مات...آخر صورة له في دماغي وهو بيضحك قبل الحادثة بدقايق...تخيلي كان بيفكر هايجيب لها هدايا إيه من هناك عشان يعوضها عن الكام ساعة اللي هايغيبهم ...مكانش يعرف إنه...
_اسكت يا رامز...اسكت !!
تمتمت بها بين آهات بكائها وهي تنكمش على صدره أكثر ...
ذراعاها يتشبثان به بقوة وهي تستعيد لحظات مشابهة ...


عندما وصلها خبر وفاة والديها في حادث كهذا ...
ساعتها تجمد بها الزمن وهي تكذب الخبر لأول وهلة ...
قبل أن تضم شقيقتيها معاً لصدرها وهي تدرك لأول مرة في هذه الحياة معنى "المسئولية"...
ربما لهذا السبب لم تبكِ وقتها أمامهما ...
ظلت تحتضنهما بكل ما أوتيت من قوة لتتلقى دموعهما على صدرها هي متظاهرة بالصلابة ...
ورغم أنها لم تكن تعلم وقتها ما ينتظرها من دعم يامن وعودة خالتها لحياتهن ، لكنها تعهدت أن تبقى القوية وسطهن وألا يقهرها حزن ولا عاطفة !
كانت هذه أول صدمة تلقتها في عمرها القصير ...
والصدمة التالية كانت ...يامن نفسه!
يامن الذي خانته معشوقته الأولى لتهين رجولته بفضيحة تحدث عنها الجميع وهو لا يزال في مقتبل عمره ...
يظنون أن صدمته أثرت عليه هو فقط ...
لكنهم لا يعلمون أنها هي كانت تراقبه بقلب كسير وهي تتساءل عن السبب الذي يجعل امرأة عاقلة ترفض عشقاً كعشق يامن !

ورغم أنه زعم أنه تجاوز ذاك الأمر بعدها ليحاول خداع الجميع بقناعه القاسي حتى أنه تزوج منذ فترة من امرأة أخرى في لندن ...
لكنها تعلم أن ندبة "معشوقته الأولى" لا تزال راسخة في قلبه ...
ليس فقط كونها حبه الأول ...وجرحه الأول ...
بل لأنها لمست بخديعتها "وتره الحساس" الخاص بوالدته ...خالتها!
ومن وقتها وقد تعلمت أن الحب هو الشيء الوحيد الذي يخفض هامات كبريائنا.
ربما لهذا كانت تستخف كثيراً بالمشاعر وتتشبث بقناعها العملي ...
لكنها عندما تخلو بنفسها تدرك أنها بداخلها أشد هشاشة مما تبدو عليه ...
ولهذا تجد نفسها رغماً عنها تتريث في خطواتها نحو رامز ...
تخاف التعلق ...بقدر ما تخاف الغدر...
وبقدر ما تهاب الفقد!!

وعند خاطرها الأخير التفتت نحو الباب المغلق لغرفة غادة وقلبها ينتفض بين ضلوعها بحسرة على صديقتها التي تعيش الآن "كابوس الفقد" الخاص بها وحدها ...
وحدها؟؟!!!
لا ...لن تتركها وحدها أبداً!
لهذا رفعت إليه عينيها لتهمس بنبرة أقوى:
_أنا آسفة إني جبتها هنا...بس انت عارف إن والدة أحمد ماتت من زمان ومعندوش إخوات بنات ...وهي مالهاش قرايب في القاهرة...
ثم صمتت للحظات لتغيب في شرود سبق قولها المقتضب:
_ووالدتها ظروفها مش مناسبة إنها ترجع تعيش معاها .
قالتها بالطريقة "الألطف" كي لا تحرج صديقتها أمامه أكثر ولو صدقت لقالت إن المرأة تذمرت من عودة غادة معها لبلدها مكتفية بعزاء قصير لها هنا ...

بل إنها -بمنتهى الصفاقة- طلبت من هانيا أن تبحث لها عن عمل هنا كي تعتمد على نفسها فهي لن تعيش لها العمر كله -بزعمها-!

_غريبة! مع إن جوز والدتها كان مرحب جداً بإنها ترجع معاهم زي ما قاللي.

قالها رامز بحيرة فتراقصت على شفتيها ابتسامة استهجان وهي تدرك سر تمسك "الوغد" بعودة "غنيمته الباردة" من جديد بعد ما صار "نيلها" أسهل فلم يعد هناك ما يمنعه منها ويكشف بغيه عليها !
هو نفس السر الذي يجعل والدتها "المتصابية" تتجاهل أمومتها فداء ل"أنوثة" تظن نفسها ستغتصبها اغتصاباً من بين أنياب السنين...
لقد ظنت يوماً أن "نبيلة" كانت أسوأ أم عرفتها ...
لكنها تعد "ملاكاً " إذا قورنت بأم غادة!
لهذا تنحنحت بخفوت لتتمالك بأسها فيما قال هو ببعض الحرج:
_واضح إنك مخبية عني حاجة بخصوص حياتها بس أنا مش عايز أتدخل في خصوصياتها ...لكن....
صمت للحظات مرتبكاً قبل أن يردف :
_ما ينفعش تفضل قاعدة معنا هنا كده ...انتِ عارفة إن ده بيت العيلة...وماما مش بالعة حكاية وجودها معانا في نفس الشقة...مش ماما بس ...الوضع كده مش لطيف خالص .
أومأت برأسها في تفهم ثم قالت بنبرتها -شبه الآمرة-:

_ما تقنع مامتك إنها تديها شقة أخوك اللي قصادنا ولو بإيجار مؤقت لحد ما أقدر أوفر لها سكن تاني ...أنا محتاجة إني أكون جنبها الفترة دي...
ظهر الامتعاض على ملامحه واشياً بصعوبة ما تطلبه خاصة مع طباع حماتها المتسلطة لكنها أردفت بصوت لائم:
_أظن دي أقل حاجة ممكن نعملهالها خصوصاً إن اللي حصللها...
_خلاص يا هانيا ...أنا هاتصرف وأقنع ماما!

قاطع بها عبارتها التي يفهم مغزاها بضيق وهو يشيح بوجهه .
هنا لانت ملامحها نوعاً وهي تنتبه أنه لا يزال يحتضنها بذراعه السليم ،
فازداد تشبثها به وهي تتفحص وجهه بمشاعر شتى ...
قبل أن تهمس باسمه بخفوت ليلتفت نحوها ...
أناملها ارتفعت لتتحسس وجهه ببطء وعيناها تناجيانه بحديث لم يفهمه...
حديث بعيد تماماً عن تقريعها الدائم ...وعدم الرضا الذي يستشعره واضحاً ولا يفهم سببه!
نظراتها الآن كانت تحمل شيئاً جديداً على عينيه ...
وكأنما تسرب عبر شقوقها الضيقة قبسٌ من شمس عاطفة لا تسمح لها أبداً بالظهور ...
لهذا ابتسم ابتسامة واهنة وهو يتفحصها هامساً:
_عايزة تقولي إيه ومترددة؟!
التمعت عيناها ببريق دموع حقيقي مع صمت لحظات قبل أن ترتجف شفتاها بهمسها:
_يوم الحادثة قبل ما نعرف الخبر غادة سألتني إذا كنت بحبك ...ما عرفتش أرد...ما قدرتش أحدد ...

بدا الاهتمام على ملامحه وذراعه يضمها إليه بقوة أكبر ...
فازدادت ارتجافة صوتها مع استطرادها:
_بس لما عرفت الخبر كنت زي المجنونة...لدرجة إني مش فاكرة إيه اللي حصل لحد ما شفتك قدامي ...كأن الزمن وقف والدنيا كلها وقفت لحد ما اطمنت عليك ...
اتسعت ابتسامته وهو يعانق ملامحها بنظراته العاشقة فأسندت رأسها على كتفه وهي تردف :
_يمكن ماليش في حركات البنات والكلام المزوق ...بس ...بس...انت بجد غالي عندي قوي ...
ثم رفعت عينيها إليه لتقول بنبرتها المرتجفة البعيدة عن قوتها المعروفة:
_لدرجة اني اتمنيت ساعتها اكون مكانك بس انت تبقي كويس!

اتسعت عيناه الملتمعتان للحظة وقد كان هذا آخر ما وعته ...
قبل أن يفاجئها بدفعها للجدار خلفها وشفتاه تمنحانها "مكافأتها" الخاصة على هذا الاعتراف الذي تأخر كثيراً...
والذي يدرك هو أكثر من غيره قيمة أن تنطقه امرأة مثلها !
امرأة ربما لا تعرف الكثير عن فنون "إغواء حواء"...
لكنها تجيد غزو قلبه بقوة "الاسكندر" وذكاء "نابليون" وثقة "هتلر"!
جوهرةٌ "خام" لم تصقلها التجارب فبقيت على حالها من الخشونة لكنها تبقى فريدة...وأصلية!!
وبين ذراعيه كانت هي غائبة في عاطفة تذيبها ...وتخوفها!
"احذر من تكرهه مرة...ومن يكرهك مائة مرة...
ومن تحبه ألف مرة...ومن يحبك ألف ألف مرة!!"
طالما كانت هذه حكمتها التي تضعها على طريق طموحها ...
ليس أقدر على إيذائنا من أناسٍ اعتدنا "غيث" عطائهم ونخشى "جفاف العطش" بعدهم!
لهذا تمالكت نفسها لتدفعه برفق نائية بنفسها عن الغرق في طوفان مشاعرها أكثر... فالتقط أنفاسه ليهمس لها بنبرة دافئة:
_صدقيني لو قلتلك ده أجمل اعتراف بالحب سمعته ...مش عايز أكتر من كده !
لكنها أشاحت بوجهها لتتجاهل عبارته قبل أن تعود ببصرها نحو باب غرفة صديقتها المغلق قائلة بنبرة عادت إليها قوتها:
_غادة مش صاحبتي وبس...غادة أختي الثالثة...ساعدني نخلليها تتجاوز أزمتها مهما حصل.
=========
الفراش يتراقص بها بنعومة ورائحة "الفراولة" المميزة لدبّها الصغير من الفرو تملأ أنفها ...
قطع المكعبات الملونة بين أناملها تبني بيتاً صغيراً ...
وتصنع شكل فتاة تحركها لتجعلها تبدو وكأنها تدخله!

ابتسامتها تشق الطريق عبر شفتين بريئتين تدنسهما الآن أنامله القذرة عندما اقتحم الصورة فجأة !
عيناها تتسعان برعب وهي تحتضن دبها فيصلها هسيس صوته المرعب:
_حضن عمو أحلى!

تغمض عينيها بقوة فيصلها صوت المكعبات حولها تتكسر ...
بيتها الجميل ينهدم...
و"فتاة المكعبات" صارت بلا ...بيت!
مثلها!

_أحمد!
تناديه بها باستغاثة ولازالت مغمضة عينيها فلا يرد عليها ...
فقط صوت -الرجل المرعب- يدوي في أذنيها مع لسعة أنامله فوق بشرتها ...
فتنادي أمها ليصلها صوتها من بعيد ...

_انتِ اللي سافلة وقليلة الأدب عشان بتفكري في الحاجات دي ...ناسية ابن الجيران اللي ظبطتك معاه ولا زميلك في المدرسة اللي حكالي المدرس عن اللي بتعملوه في الفصل من وراه ...ودلوقت جاية لجوزي كمان ...من النهارده أوضتك تتقفل عليكي بالمفتاح...ومالكيش دعوة بيه خالص....امتى تتجوزي وأخلص من همك ؟!

_أحمد!
تتمتم بها بيأس وهي لا تجد لها ملاذاً غيره فيظهر أخيراً ليزيح عنها طيف الرجل المرعب ...
ويضمها إليه بقوة ...
قبلاته الناعمة تغرق وجهها وشعرها فتتشبث به بكل قوتها ...
تكاد تلتحم بجسده والأنفاس بصدرها تتوسله البقاء...
لكن شيئاً ما ينتزعه من بين ذراعيها بقوة ليقذفها بقوة فتسقط على ظهرها صارخة باسمه!!!

_قومي يا غادة...قومي!
تهتف بها هانيا وسط دموعها وهي تهز جسد صديقتها على الفراش لكن
الأخيرة لا تستجيب بينما جسدها ينتفض كالمحمومة مع نداءاتها باسم زوجها الراحل ...
_اعمل حاجة يا رامز ...مش هنقف كده !


تصرخ بها بعجز وهي تحاول ضم جسد غادة المتشنج فيلتفت نحوها رامز ليقول بقلق :
_دقيقة واحدة ...أجيب الحقنة المهدئة اللي الدكتور قال عليها !
قالها ثم خرج من الغرفة ليحضر لها الحقنة ثم عاد بها ليناولها لزوجته التي كشفت ذراع غادة تحقنها بها...
غادة التي كانت شبه غافلة تتشابه المرئيات أمامها مع كوابيسها ...
دموعها لا تكاد تتوقف تماماً كهمسها باسم الفقيد الغالي ...
حتى استكان جسدها أخيراً بفعل تأثير الدواء لتستسلم لذراعي هانيا المحتضنين لها بقوة ...
والتي لم تكف عن البكاء بدورها لترفع عينين قلقتين نحو رامز الذي تجهمت ملامحه بدوره أمام هذه المأساة الحية!!
لكنه أخذ نفساً عميقاً ليتمالك حزنه قبل أن يجذب زوجته من كفها برفق هامساً:
_خلاص نامت...سيبيها ترتاح!
لكن هانيا تشبثت بها بقوة رفيقة مع همسها الخفيض:
_معلش يا رامز ...هنام معها!
ورغم تفهمه للظروف لكنه لم يستطع منع الضيق الذي كسا ملامحه مع همسه العاتب:
_دي سابع ليلة يا هانيا!
وضعت سبابتها على شفتيها محذرة فزفر باستياء ليغادر الغرفة مغلقاً بابها خلفه برفق كي لا يوقظ البائسة التي لا تكاد تفرق بين ليل أو نهار ..
أو يقظة أو منام !
أجل كان يتعاطف كثيراً مع وضعها خاصةً وهو يحمل نفسه الكثير من الذنب فيما حدث لزوجها ...
لكنه ببساطة يريد زوجته التي تلاشت تماماً في حزن صديقتها الذي ابتلعهما معاً !
الغريب أنه كان يرى هانيا دوماً امرأة قوية مسيطرة تتمتع بأكبر قدر من الثبات الانفعالي الذي يقل عادة لدى النساء...
لكنها صدمته أن كل هذا كان مجرد "دائرة خارجية" تخفي بداخلها هشاشة ورقّة بلا حدود !
وفاؤها لصديقتها يبهره لكنه يرى أنها تغالي قليلاً...
والدته وافقت بشق الأنفس أن تمنحها الشقة المقابلة لمدة بسيطة بعد رجاءاته العديدة ....
لكنه فعلها فقط إرضاء لهانيا التي لا يفهم ما الذي تخفيه بشأن غادة ويجعلها ترغب في إبقائها هنا معهما دون أن تعود لبلدتها كما يفترض!
ومع استلقائه على فراشه وحيداً ككل ليلة منذ ذاك الحادث زفر بحنق وهو يطالع السقف بشرود ...
ثم تناول هاتفه ليلعب إحدى تلك الألعاب الالكترونية التي صار يدمنها مع همسه الساخر لنفسه:
_يا فرحة الحاجّة بيك لو عرفت إنها جوزتك عشان تقضيها لِعْب على الفون ومراتك نايمة في حضن صاحبتها!

وفي الغرفة الأخرى استلقت هانيا جوار صديقتها تضمها بقوة وهي تهمس لها دون أن تدرك إن كانت تسمعها أم لا:
_ما تخافيش يا حبيبتي ...أنا معاكي...مش هاسيبك أبداً لحد ما تقفي على رجليكي من تاني .
=======
_مش ملاحظة إن صدفك كترت؟!
قالها بغيظ مكتوم وهو يرى باب المصعد الذي يستقله في أحد
ال"مولات" التجارية الضخمة يفتح في اللحظة الأخيرة لتدخل هي منه !
هي التي تجاهلته تماماً وهي تعطيه ظهرها لتسمع هتافه الساخط خلفها:
_انتي ماشية ورايا واللا إيه؟!
ظلت على وضعها فاستشاط غضباً ليردف بحدة أكبر:
_أروح النادي ألاقيكي في وشي...أخرج من "الجيم" ألاقيكي داخلة...حتى الحفلة اللي حضرتها أمي لقيتك فيها ...آه ..بالمناسبة كنتي بتعملي إيه هناك؟!
قال عبارته الأخيرة بشيء من الاحتقار ورؤيته لها في ذاك الحفل الذي أصرت والدته على حضوره تعمق صدق ظنونه السوداء بها!
ليلتها كان ينتظر والدته ليوصلها ففوجئ بها تخرج معها ...
وبقدر ما بدا هو -وقتها- مصدوماً برؤيتها ، بقدر ما بدت هي هادئة تماماً إلا من نظرتها العاتبة كالعادة ...
نفس النظرة التي رمقته بها الآن مع إجابتها بصوتها الواثق:
_ممكن أقوللك انت مالك وأسيبك تغلي لوحدك ...لكن لو حسنت أسلوبك ده ممكن نتكلم .
_ومين أصلاً عايز يتكلم معاكي ؟!...اوعي كده !
قالها وهو يزيحها جانباً بخشونة ليغادر المصعد نحو محل بعينه قصده ليشتري لداليا هدية يصالحها بها بعد آخر صدام كان بينهما والذي طال بعده خصامها له خاصة بعد ما حدث لنبيلة ...
دخل المحل ليصافح صاحبه الذي بدا على معرفة وثيقة به والذي دعاه للجلوس ريثما يعد له طلبه .
جلس على الكرسي الذي يتيح له أن يكون ظهره مواجهاً للباب وكأنه يتوقع رؤيتها بالخارج تنتظره ...
هذه المرأة تكاد تصيبه ب"فوبيا" الغرباء من فرط ما صار يخشى رؤيتها ...
شيء ما بهيئتها ينفره منها...
يذكره ب-شيء يكرهه- لكنه لا يدركه...
غريب؟!
ربما...لكن الأكثر غرابة أنه لا يدري لماذا تطارده بهذه الفجاجة دون أن تتعمد الحديث إليه مكتفية برؤيته ...
تراها مخبولة؟!
لا!
مظهرها وحديثها لا يوحيان بهذا ...على العكس...إنها تتحدى مهارته الشهيرة في السماجة والوقاحة بأسلوبها القوي !
وما يزيد من هالة الغموض حولها هذه النظرة اللائمة التي لا تغادر عينيها كلما رأته وكأنه قد آذاها يوماً ...
فقط لو يذكر أين رآها من قبل!!

_اتفضل يا دكتور...ده ذوق الآنسة داليا...أنا واثق إنه هيعجبها جداً!
انتشله بها البائع من شروده فتناول منه العلبة الصغيرة ليفتحها متفحصاً الخاتم فيها ...

_عيار كام ؟! وشركة إيه؟! فين الخِتم؟!
قالها بنبرته المتشككة والتي يبدو أن الرجل اعتادها فقد أشار له ببساطة لذاك التجويف في الخاتم مع قوله:
_اسم الشركة والعيار على الخِتم اهه يا دكتور !
_تمام...اكتبلي بقى كل ده في الفاتورة!
قالها ولايزال يتفحص الخاتم فابتسم الرجل بتفهم وهو يجلس على مكتبه ليكتب له ما يريد ....
بينما ابتسم هو ابتسامة خفيفة وهو يرى الفص الأحمر الكبير الذي تزين بها الخاتم ...
والذي يدرك أن داليا ستهيم به حباً !
ربما لو كانت هانيا لاختار لها شيئاً بفص أسود يلائم مزاجها الجاد شديد التحفظ...
ولو كانت لرانيا لكانت اللآلئ الصغيرة المنمنمة هي الخيار الأمثل لطبيعتها الهادئة الرقيقة.
لا ...ليس عجيباً أن يفهم أذواقهن لهذه الدرجة ...فهو يعتبرهن شقيقاته ولو أن تعلقه بهن وتعلقهن به يجعلهن ل"بناته" أقرب رغم أن فارق السن بينهم لا يسمح بهذا!

_مبروك يا دكتور...وسلامنا للآنسة داليا...وللنجمة بتاعتنا طبعاً!
قالها الرجل بعفوية فتجهم وجهه للعبارة الأخيرة ...
قبل أن يتمتم بكلمات مبهمة وهو يعطيه "بطاقة الائتمان" الخاصة به كي يسدد ثمن الهدية .
خرج من المحل ليختلس نظرة حوله لكنه لم يعثر ل"مطاردته" المجهولة على أثر فهز كتفيه ليقنع نفسه بعدم الاكتراث ...
ثم خرج من المكان وهو يختلس نظرة خلفه من آن لآخر وكأنه يبحث عنها ...
ووجدها!!
لكنها لم تكن خلفه بل أمامه !
على بعد خطوات من مدخل "المول" تتشاجر مع أحدهم وقد بدأ الناس في الالتفاف حولهم!
عقد حاجبيه بضيق وهو يتابع صراخ الرجل الحاد بها والذي قابلته هي ببرود في البداية قبل أن يتجرأ ليجذب ذراعها نحوه بقسوة فكان دورها لتصرخ به هي الأخرى وهي تدفعه بقوة !
تحرك خطوة نحوها وقد دفعته نخوة رجولية للدفاع عنها لكن طبيعته المتشككة كالعادة جعلته يتسمر مكانه للحظات وشياطين ظنونه لا تزال ترسم لها أبشع الصور ...
الرجل الذي يجرؤ على الصراخ في وجه امرأة وجذبها بهذه الطريقة في طريق عام إما مجنون... أو صاحب حق يخول له عفوية هذا التصرف!
لهذا ابتسم بمزيج من سخرية واحتقار عندما رآها تلتفت نحوه لتتسمر مكانها هي الأخرى عندما رأت نظراته قبل أن تصمت تماماً والناس حولها يحاولون فض النزاع.

لكنه لم ينتظر المزيد فقد اندفع نحو سيارته بخطوات متزنة ليستقلها مبتعداً عن كل هذا تلاحقه نظراتها التي لم يرها وإن شعر بها .
ولم يكد يبتعد بضعة أمتار عن المكان حتى شعر بالضيق وهو يتلفت خلفه ...

هذه المرأة صارت تحتل مكانة أكبر بكثير مما تستحقه مثيلاتها ...
وغموضها هو ما يصنع حولها هذه الهالة ،ربما لو انكشف هذا الغموض فيمكنه التخلص من التفكير بها بهذه الطريقة المغالية خاصة مع مطاردتها الدائمة والصامتة له!

لهذا أدار مقود سيارته ليعود بها إلى الشارع الذي تركها عنده لكنه رأى سيارتها تمر أمامه... فابتسم وهو يقول في نفسه:
_حلو قوي ...كده نقلب الأدوار وامشي أنا وراكي أشوف الهانم عايزة إيه !
قالها ثم تناول هاتفه ليتصل بصديقه المقرب يخبره عن وجهته ومكانه وما ينتويه ليختم حديثه بقوله:
_لو ما كلمتكش في خلال ساعة كلمني انت...لو ماردتش عليك بلغ البوليس...أنا شاكك فيها صراحة وممكن تكون دي حركة منها !
_انت بتشك في نفسك أصلاً...إيه جو المغامرات ده ؟!
قالها صديقه ضاحكاً قبل أن يغلق معه الاتصال متفهماً طبيعته الوسواسية...بينما استمر هو يتعقبها بسيارته حتى خرجت بها من حدود المدينة المعمورة ليزداد يقينه بظنونه السوداء.
هنا انتبه فجأة للطريق الذي تتخذه فانعقد حاجباه بغضب وهو يغمغم بصوت مسموع:
_يا بنت الإيه!!....معقول تكون هتروح هناك ؟!

قالها وهو يزيد من سرعة سيارته بحركة عصبية ليتبعها حتى وجدها تتوقف تماماً كما توقع ...
في مكانه -هو- المفضل في تلك المنطقة الجبلية المنعزلة !!
زفر بسخط ثم كز على أسنانه ليوقف سيارته بدوره قبل أن يترجل منها ليندفع نحوها فينحني أمام نافذة سيارتها هاتفاً :
_انتي بتعملي إيه هنا؟!
اتسعت عيناها بصدمة وقد بدت متفاجئة تماماً بوجوده ...
فابتسم ساخراً مع هتافه:

_إيه يا حلوة ؟! اتخضيتي ؟! أظن هتقولي إنها صدفة وإنك ما تعرفيش إن ده مكاني اللي بروحه لما بحب أبقى لوحدي ؟!
_لأ عارفة!

قالتها ببرود كادت تنجح فيه لولا نبرة صوتها المتحشرجة التي فضحت قرب استسلامها للبكاء قبل أن تأخذ نفساً عميقاً بينما هو يستطرد بحدة:
_كده كتير ....أنا عايز أعرف حكايتك بالظبط معايا .
_انت اللي جاي ورايا المرة دي !
قالتها وهي تشيح بوجهها لكنه هتف بها بفظاظته المعهودة:
_هو ده اللي هامّك دلوقت ؟؟!...انتي ماعندكيش دم؟! فيه واحدة تيجي مكان زي ده لوحدها الساعة دي؟!
ثم أطلق صوتاً ساخراً وهو يردف:
_واللا يمكن مقصودة وأنا قاطع عليكي معاد مهم؟!
لكنها لم تبدُ متفاجئة بوقاحته بل فتحت تابلوه السيارة المجاور لتستخرج منه صاعقاً كهربائيا لوحت به في وجهه مع قولها بنفس النبرة المتحشرجة:
_بعرف ادافع عن نفسي كويس ...ودلوقت لو سمحت امشي وسيبني !
مع كلمتها الأخيرة خانتها عيناها بخطين من الدموع سالا على وجنتيها فانقبض قلبه تأثراً ...
لكنه كتم هذا خلف قوله الساخر الذي حافظ على فظاظته:
_شيلي يا شاطرة اللعبة اللي في ايدك دي...لو حد حب يأذيكي هنا محدش هيعرف لك طريق!
_امشي يا يامن أرجوك ...محتاجة أبقى لوحدي !

قالتها وهي تخفي رأسها بين ساعديها المرتكزين على مقود السيارة قبل أن تستسلم لبكاء صامت....
فاعتدل بجسده ليتطلع للمكان حوله بمزيج من غضب وضيق قبل أن يدور حول السيارة ليحتل المقعد المجاور لها دونما استئذان !
تركها لبكائها لدقائق فهو تعلم هذه القاعدة الذهبية من أمه وقريباته ...
لا تعترض طريق بكاء امرأة ،دعها تفرغ فيه انفعالاتها بدلاً من أن تفرغها في وجهك!!
لهذا صمت طويلاً قبل أن يقول لها بخشونة:
_انا مش هستناكي تخلصي عياط للصُبح...هم كلمتين وهامشي ...انتي عايزة مني إيه؟!
_ماعدتش عايزة منك حاجة ...مش من النهارده ولا من امبارح ...لأ ..من زمان قوي!
قالتها بنبرتها المختنقة دون أن ترفع رأسها فتجهمت ملامحه وهو يعاود سؤالها:
_أيوااااا ...إيه حكاية من زمان دي بقى؟! انتي تعرفي عني إيه بالظبط؟!

_كل حاجة تقريباً!
قالتها بنفس النبرة قبل أن ترفع رأسها لتمسح وجهها بمحرمة ورقية ،ثم أشاحت بوجهها لتردف:
_وما تسألنيش إزاي لأني مش هجاوبك.
_أنا مش فاضي للعب العيال ده...خلصيني وقولي انتي مين وحكايتك إيه!
هتف بها بخشونة لكنها حافظت على صمتها مع إشاحة وجهها عنه ،فحاول اللجوء للحيلة :
_نبيلة اللي زقاكي صح؟! عشان كده كنتي معاها في حفلة رأس السنة ؟!
التوت شفتاها بابتسامة ساخرة جعلته يردف بنبرة أكثر حدة:
_فاكراكي هتعجبيني ونتجوز؟!
أخذت نفساً عميقاً ثم أسندت رأسها على ظهر مقعدها لتقول بنبرة عاد إليها هدوءها:
_ومن امتى هي بتهتم بحاجة زي كده أو بأي حاجة تخصك؟! بتضحك عليّ واللا على نفسك؟!

شعر بإهانة حقيقية في عبارتها وكأنها ترد له رصاصة وقاحته بأخرى، لكنه لا ينكر أنها أصابت كبد الحقيقة...لهذا ضم قبضته بقوة كادت تحطمها...
بينما أردفت هي دون أن تنظر إليه:
_الحفلة كانت مجرد صدفة...بس ماانكرش اني لما شفتها اتعمدت أتعرف عليها .
_ليه؟!
غمغم بها من بين أسنانه فقالت بنفس النبرة الهادئة:
_زي ما بحاول أقرب من أي حاجة تخصك !
_إيه؟! بتحبيني؟!

قالها بنبرة ساخرة بعد ضحكة مكتومة لكنها لم تجبه مكتفية بصمتها الشارد والذي قطعه رنين هاتفه برقم صديقه الذي هاتفه كما اتفقا...
ففتح الاتصال ليغمغم ببعض الحرج:
_كله تمام...زي ما انت قلت كنت ببالغ...سلام دلوقت هاكلمك بعدين!

_انزل وسيبني لوحدي لاني مش هريحك !
قالتها وهي تنظر أمامها فانفرجت شفتاه وكأنه على وشك أن يقول شيئاً ما قبل أن يطبقهما ليغادر السيارة صافقاً بابها خلفه بعنف مع هتافه بلهجته الفظة:
_لو شفتك في أي مكان تاني هاعمللك فضيحة تحكي عنها البلد لسنين قدام .
قالها وهو يلوح بسبابته في وجهها ليردف باحتقار نفث فيه غيظه:
_وأظن بعد اللي شفته من شوية واحدة زيك مش ناقصة فضايح!

أغمضت عينيها بألم لم تفوته عيناه المتفحصتان...
لكن غضبه حجب عنه شعوره بالذنب فابتعد عن سيارتها ليعود بسيارته من حيث أتى ...
تباً لها من امرأة !!
كيف لهذه القامة الضئيلة أن تثير بداخله كل هذه الفوضى ؟؟!!
هو الذي لا يكره شيئاً في حياته كالفوضى!!
كيف استطاعت في أيام قليلة الاستحواذ على كل هذا القدر من تفكيره ؟!
ربما هي طبيعته الموسوسة التي تكره خروج الأمور عن سيطرته ...
وربما هي جاذبيتها الغريبة المتشحة بغموضها !!
وربما هو -باب الذكرى المغلق- الذي تطرقه ملامحها العاتبة وإن عجز عن تذكر التفاصيل!!!

ظل منشغلاً بأفكاره عنها والتي شابها بعض القلق وهو يفكر أنه تركها وحدها هناك في مكان كذاك....
لكنه نفض عنه هذا الشعور وهو يهتف لنفسه بصوت مسموع:

_وأنا كنت خلّفتها ونسيتها ؟! أنا قارف نفسي بيها ليه؟!

ظل يرددها لعدة مرات وكأنه يقهر بها ذاك الصوت الخفي بداخله حتى وصل إلى بيت أمه التي استقبلته بقولها:
_اتأخرت النهارده...أخلليهم يحضروا لك العشا.
_لو هتاكلي معايا !
قالها بتهكم شابته بعض الخيبة وهو يتوقع إجابتها:
_مش هينفع يا "مانّو"...الدايت!
مط شفتيه باستهجان ساخر من تدليلها الذي لا يتقبله... فأردفت بارتباك:
_سوري يا يامن...انا...
لكنه أشار لها بكفه ليسكتها بفظاظة ثم سألها وهو يتلفت حوله:
_فين داليا؟!
_نامت...أو عاملة نفسها نايمة عشان زعلانة منك!
قالتها بنبرة عاتبة فاستخرج العلبة من جيبه قائلاً بحزم:
_لما تصحى اديلها ده...وقوليلها تبطل عبط...أنا مش عايز غير مصلحتها !
تناولت منه العلبة لتفتحها قبل أن تبتسم لذوقه المراعي لاختلاف كل واحدة منهن...ثم نظرت لعينيه ...
وكأنها تحاول مدّ جسور للعاطفة بينهما بقولها:
_طول عمرك حنيّن ... بس لو تبطل الوساوس اللي في دماغك دي!
فابتسم ابتسامة ساخرة وهو يشيح بوجهه دون رد ...
غافلاً عن -تلك التي وقفت خلف باب غرفتها الموارب- ترمقه بنظرات مختلسة ظافرة ...وكل ما يشغل ذهنها فكرة واحدة ...
فارسها جاء ليصالحها بهدية!!
=======
_ميرسي جداً يا دكتور ياسر...مش عارفة أشكر حضرتك إزاي!
قالتها داليا بدلال وهي تجلس مع أستاذها في غرفة مكتبه بالجامعة ...
كانت قد تذرعت بأنها لا تفهم شيئاً من محاضرته الأخيرة كي تتبعه إلى هنا وتبقى بصحبته لما يزيد عن نصف الساعة !
نصف ساعة فقط لكنها اعتبرتها إحدى انتصاراتها العظيمة في معركتها لكسب اهتمامه هو بالذات!
الغريب أن الرجل لم يكن شديد الوسامة بل بدا -بجسده الممتلئ وقامته التي تميل للقصر نوعاً ونظارته الطبية التي لا يكاد يخلعها وثيابه شديدة التواضع- كمواطن بسيط ممن تقابلهم في الشارع بل... في الحافلة !
لكنها لم تكن تنظر لكل هذا ...
فقط كانت تكتفي بتلك النظرة المهيبة في عينيه ...
حزم صارم مغلفٌ بحنان لن يخطئه قلب فتاة مثلها !
أجل...إن كان "يامن" يمثل صورة "الأخ" في قلبها ...
و"هيثم" يمثل صورة الصديق ...
ف"ياسر" يمثل صورة الأب التي تفتقدها!
لكن ...هل توقفت لتسأل نفسها أين صورة "الحبيب" وسط كل هذا؟!

فلندع الأيام تجيب هذا السؤال ولنعد لأستاذها الذي كان غافلاً عن مشاعر إعجابها هذه وهو يسألها بلهجة عملية:
_لو محتاجة أعيدها مفيش مشكلة !
لكنها هزت رأسها بحركة متعمدة لتتطاير خصلات شعرها الكستنائية حول وجهها مع جوابها المتغنج:
_بلاش أعطل حضرتك أكتر من كده ...كفاية عليّ النص ساعة دي...
ثم قامت من على كرسيها المقابل لمكتبه لتستخرج من حقيبتها مسبحة زرقاء مدت بها أناملها نحوه وهي تردف بنبرتها المتدللة:
_دي عشان العربية الجديدة...ممكن حضرتك تعلقها على المراية عشان كل ما تشوفها تفتكرني ...
ثم تلعثمت بحركة مدروسة لتستطرد:
_آآآ...أقصد تفتكر أدّ إيه تلامذتك بيقدروك !
لكن الرجل بدا شديد الغفلة عن حركاتها هذه التي تلقاها بحسن نية وهو يتناول منها هديتها ليقول بنبرة بسيطة رغم وقارها:
_متشكر جداً.
ويبدو أن حسن النية الذي تقبل به هديتها وكلامها أثار ضيقها فتجرأت لتقول بنبرة أكثر دلالاً وهي تقترب منه بجذعها عبر المكتب:
_أنا اللي عاملاها بإيدي ...اتعلمت الطريقة مخصوص عشان حضرتك!

_ونعم الطالبة فعلاً!
والعبارة لم تكن من أستاذها بل من زوجته التي تشتغل بالتدريس مثله في الجامعة لكن في كلية أخرى ...
والتي دخلت الآن الغرفة لتتقدم نحوهما بنظراتها الثاقبة ...
فالتفتت نحوها داليا بضيق لم يخفَ على عيني المرأة الثاقبتين قبل أن تعتدل الأولى بجسدها لتقول بنبرة واثقة:
_شكراً لحضرتك...أستاذ ياسر عزيز علينا كلنا!
ابتسمت المرأة ابتسامة ذكية وهي تمد أناملها لتلتقط المسبحة من يد زوجها تتفحصها ببصرها قبل أن تقول بهدوء:
_جميلة فعلاً...تسلم إيديكِ.
وقف الرجل ليمد يده مصافحاً زوجته وهو يتجاهل هذا الحديث ليقول باهتمام:
_استنيني هنا خمس دقايق هاخلص حاجة مهمة ونروح سوا.
أومأت له زوجته برأسها ليغادر الغرفة تلاحقه نظرات داليا التي مزجت غيظها بتحديها ...
بينما جلست المرأة مكانه تتأمل داليا للحظات سبقت قولها بهدوء ذي مغزى:
_واضح إنك طالبة مجتهدة قوي...كل ما آجي للدكتور مكتبه ألاقيكي !

ورغم شعورها بالحرج لكن داليا رمقتها بنظرات قوية مع قولها :
_دكتور ياسر مش بيتأخر الحقيقة عن أي حاجة بحتاجها.
كانت تشعر أن المرأة تلمح لها بشعورها باهتمامها الزائد بزوجها لهذا تعمدت أن تلقي لها هذه العبارة ذات المعنى -المزدوج- ...
والتي تلقتها المرأة بذكاء يليق بها وهي تتلاعب بالمسبحة بين أناملها للحظات بينما عيناها تمشطان جسد هذه الفاتنة أمامها لتقول أخيراً :
_السبحة اتعملت عشان نفتكر بيها ربنا وقت ما ننشغل عنه ...

وفجأة...وبحركة خاطفة لم تشعر داليا بها ...كانت المسبحة قد انفرطت حباتها لتسقط تباعاً على الأرض!!!
عقدت داليا حاجبيها بغضب وهي ترفع رأسها للمرأة التي أكملت بنفس الهدوء وكأنها لم تفعل شيئاً:
_مش عشان أي حاجة تانية...ودكتور ياسر ماشاء الله عليه مش محتاج حد يفكره !
ازداد انعقاد حاجبي داليا بغيظ وصل حد الصفاقة بينما بدت المرأة شديدة البرود مع استطرادها الواثق:
_آسفة إن السبحة اتقطعت ...بس ياريت ماتحاوليش تعملي غيرها ...هاتضيعي تعبك على الفاضي!
احمر وجه داليا وانفرجت شفتاها كي تهم بالرد لولا دخول الرجل من جديد ليقول مخاطباً زوجته:
_ياللا بينا!
ثم انتبه لداليا فأردف بلهجته الجادة:
_انتِ لسه هنا يا داليا ...محتاجة حاجة تاني؟!
ابتسمت زوجته ابتسامة واثقة وهي تقوم من مكانها لتتأبط ذراعه بينما قالت داليا بغيظ مكتوم:
_لا خلاص.
قالتها ثم غادرت الغرفة بخطوات سريعة فضحت غضبها قبل أن تتوقف في ذاك الممر بين أروقة المبنى لتلتقط أنفاسها بضيق...
وكأنها تملك الحق فيما تفعله!!
الغريب أنها لم تكن تحس بالغيرة من زوجته...
هي فقط كانت تشعر أنها تملك "حق المشاركة"!!!
غريب؟!
لا ليس غريباً بالنظر إلى مشاعرها المضطربة المتخبطة...
والتي ازدادت تخبطاً برؤية هذا الذي تقدم نحوها ...

_هيثم؟! بتعمل إيه هنا ؟! مش قلت هاتروح؟!

رمقها بنظرة متفحصة طويلة قبل أن يقول لها بضيق:
_الجو وحش قلت أستنى وأوصللك ...
ثم أشاح بوجهه مردفاً بغيرة فاحت بين حروفه:
_اتأخرتِ قوي في مكتب الدكتور!
ابتلعت مشاعرها السلبية لترتدي قناع مرحها وهي تقترب منه قائلة:
_طالبة مجتهدة ...عندك اعتراض!
_داليا أنا فاهمك أكتر من نفسك...وحاسس إن علاقتك بالدكتور مش عادية...على الأقل من ناحيتك!
قالها عاتباً وهو يعود إليها ببصره فضحكت ضحكة رنانة وهي تقترب منه أكثر بغمزة عابثة :
_غيران يا "روميو"!
لكنه لم يستجب لشقاوتها العابثة هذه المرة بل ابتعد عنها خطوة ليقول بلهجة جادة تماماً:
_الطبيعي إني أكون غيران...بس الحقيقة إني خايف عليكِ أكتر!
ورغم أن الصدق الدافئ الذي لون كلماته مس قلبها الظمآن للعاطفة لكنها تخطت هذا بهزة من رأسها لتقول وهي تتظاهر بالتشاغل فيما حولها:
_هيثم احنا اتكلمنا في الموضوع ده قبل كده ...وقلت لك إديني فرصة أحدد مشاعري ناحيتك...أنا مش برفض ...بس كمان مش باقبل ...انت صاحبي من أيام المدرسة وصعب قوي أخرج علاقتنا من الإطار ده لشكل تاني بسهولة كده .
_واشمعنا أنا قدرت؟!
بعتاب جاد قالها ونظراته تكاد تصرخ بمشاعره نحوها لكنها عادت تتجاوز عن هذا محتميةً بدرع مزاحها اللعوب:
_خلاص علمني!
وعبارتها وازت هزة من كتفيها بحركة تدرك كم يحبها من هذه اللمعة في عينيه وهذه الارتجافة في ابتسامته ...
ابتسامته التي ما كادت تلمحها حتى تنهدت بارتياح لتبدأ في السير جواره قائلة:
_أيوة كده فُكّها أبوس إيدك مش ناقصة عقد...ياللا "ننمّ"على العيال شفت اللي حصل في الشلة ؟!
هز رأسه باستسلام لثرثرتها المعهودة وهو يستمع صابراً كعهده حتى خرج بها من المبنى نحو سيارته التي استقلتها جواره ...
ولم يكد ينطلق بها حتى فوجئ بها تنحني لتلتقط شيئاً ما من دواسة السيارة ...
ثم رفعته أمام عينيه بقولها الغاضب:
_سلسلة شوشو ! ما تكدبش...أنا شارياها معاها وعارفة...كانت بتعمل إيه في عربيتك؟!

ابتسم ابتسامة راضية وهو يرفع أحد حاجبيه مشاكساً مستمتعاً باحمرار وجهها المنفعل مع هتافها:
_امال حوار الغيرة والعواطف اللي داخللي فيه ده لازمته إيه طالما سيادتك مقضّيها من غيري؟!
لم يرد عليها مكتفياً بصمته وهو يأخذ طريقه نحو بيت خالتها الذي يعرفه ...
فزفرت بقوة وهي تلقي السلسلة من النافذة بغيظ ...
ثم كتفت ساعديها لتعاود الاستقرار في كرسيها زامّة شفتيها المكتنزتين بحركة غاضبة ...
ظلا هكذا طوال الطريق حتى وصل بها إلى مكان قريب من البيت فهتفت به بنبرة آمرة:
_استنى هنا ...كنت هانسى!
استجاب لطلبها بالتوقف ثم استدار نحوها ليراها وهي تستخرج من حقيبتها وشاحاً قبل أن تلم خصلات شعرها لتعقدها بحركة سريعة سبقت ارتدائها للوشاح بإهمال...
ثم تناولت منديلاً لتمسح أثر الزينة على وجهها مغمغة بضيق:
_يامن ممكن يبقى موجود ...مش طالبة نكد و نصايح و يصحّ وما يصحش!
مط شفتيه باستياء وهو يستدير نحوها بجسده ليقول بانفعال:
_أهه الحسنة الوحيدة في يامن ده إنه محجّم جنانك شوية...فيها إيه يعني لو تتحجبي حقيقي؟! وبعدين شكلك من غير ماكياج أحلى ألف مرة من اللي بتعمليه في وشك ده!
همهمة ساخطة منها كانت جوابها قبل أن تغادر السيارة لتنحني بعدها على النافذة قائلة له بعنادها الذي يعرفه:
_أنا محدش يقوللي اعملي وما تعمليش ...احفظ الدرس ده كويس قبل ما تفكر تعدي "الفريند زون" اللي بيننا .
نظرته الغامضة الطويلة كانت الجواب الوحيد لما قالته ...
قبل أن تستقيم هي بجسدها لتغادر لكنها ما كادت تفعلها حتى سمعت عبارته خلفها:
_شوشو ما ركبتش معايا ...هي قصدت بس ترميها هنا عشان تعمل فيكِ مقلب لما تشوفيها!
كانت شبه واثقة مما يقوله -إن لم يكن يقيناً في مشاعره نحوها ففي طبيعة تلك الفتاة التي تدرك غيرتها منها- لهذا هزت كتفيها برشاقة لتعاود الانحناء على النافذة بقولها العابث:
_ما يهمنيش!
غمزته بعدها بحركة لعوب جعلته يبتسم وهو يشيح بوجهه بينما سارت هي مبتعدة نحو البيت ...
لم تجد سيارة يامن فشعرت بالكثير من الخيبة وهي تدخل البناية لتصعد الدرج بخطوات متثاقلة ...
البيت خالٍ كما يبدو ...بيللا تؤدي تدريبها المعتاد في صالة الألعاب الرياضية القريبة...رانيا منهمكة في المشاوير المعتادة لعروس اقترب زفافها !
زفرت بقوة وهي تشعر بالخواء قبل أن تدخل غرفتها التي استلقت على فراشها تناظر السقف بشرود...
ماذا تريد بالضبط؟!
السؤال العتيق الذي لم تجد له إجابة ويبدو أنها لن تفعل!
ماذا ينقصها كي تكون سعيدة؟!
ذاك التجويف الفارغ في صدرها كيف تملؤه ؟!
لا شيء سوى "نشوة المغامرة"هو ما يمنح حياتها الرتيبة بعض الإثارة ...
ربما لو يمنحها القدر فرصة لتكون نجمة مثل "بيللا"!!
نجمة تخطف قلوب الجميع فيتهافتون لإرضائها!!!

صوت هاتفها يقاطع أفكارها فتشرق ملامحها وهي ترجو رسالةً من عاشقها المجهول تبدد سحب مللها هذه ...
وقد كان ..
(اليوم كان القدر كريماً معي لأبعد حد ...رأيتك مرتين ..إحداهما كانت خصلات شعرك البرّية تحيط بملامحك كحرسٍ مخلص ثائر...وفي الثانية كان الوشاح النبيذي ينافس حمرة ملامحك المنفعلة...وفي المرتين نجحتِ في بعثرة دقات قلبي كعهدك...تعلمين كم أحب شعرك !! أحبه لأنني أشعر به رفيق دربي ...طفولتي منقوشة بذكريات شعثه ...مراهقتي مرادفة لجدل ضفائره...أولى خطوات شبابي رأيتها يوم صبغتِه أنتِ بالأشقر البشع الذي لا يليق به ...قبل أن يعود بعدها -لحسن الحظ- للونه الكستنائي كقهوتي الصباحية عندما أخففها باللبن...أرجوكِ لا تفعلي شيئاً بشعركِ ...لا تقصيه...لا تصبغيه...دعيه حراً يسرد تاريخي ... فما أصدق قيلاً من شَعر امرأة يروي تاريخ عاشقها؟!!)

انفرجت شفتاها رغماً عنها وقلبها يخفق بجنون ...
رغم العبث اللامبالي الذي تتلقى به رسائله لكنها لا تنكر أنه مس قلبها بصدق هذه المرة ...
يقول إنه رآها مرتين ...مرة بحجابها ومرة دونه ...وهذا يعني أنه قد تبعها من الجامعة إلى هنا ...
أو ربما هو أحد جيرانها ؟!
هل رأى هيثم معها ؟!
لماذا لم يلمح لها بغيرة إذن؟!
تراه واثقاً إلى هذا الحد من طبيعة علاقتها بصديقها ؟!
أو لعله لم يره !!
زفرت بقوة عند خاطرها الأخير وفضولها يشعلها حد الغيظ ....
ثم قامت من فراشها لتنزع عنها وشاحها بسرعة أمام مرآتها...
تحرر خصلات شعرها لتجعلها تحيط بوجهها في طلّة فوضوية ...
تبتسم وهي تتذكر كلماته التي كادت تحفظها ...

ما أصدق قيلاً من " شَعر"امرأة يروي تاريخ عاشقها؟!

محظوظةٌ أنتِ يا فتاة ب"رجالك" الذين يتناثرون على خريطة "أنوثتك" كلٌ في موقعه بالضبط...
محظوظة؟!
من يدري ...ربما ...منكوبة!!
======
_أنا آسفة يا "طنط"!
قالتها رانيا بارتباك للمرأة التي فتحت لها باب بيتها ببشاشة لتردف بتلعثمها المعهود:
_جيت من غير معاد بس قلقت على أشرف ...ما بيردش على موبايله!
ضمتها أمه بحنان ثم جذبتها لتدخلها وتغلق الباب خلفها قائلة:
_ما تقلقيش يا حبيبتي ...هو هتلاقيه مش دريان بالدنيا...
ثم غامت عيناها بحزنها وهي تردف:
_متبهدل بين شغل المصنع ...و لفّه معايا على الدكاترة والجلسات ...ومشاكل نشوى وبنتها ...هيلاقيها منين واللا منين؟!
رمقتها رانيا بنظرة تعاطف طويلة وهي تشعر بأن إشفاق المرأة على ابنها يفوق حزنها على نفسها ...
هي تعلم أن أشرف يحمل الكثير على كاهله بعد وفاة والده خاصة بعد انفصال شقيقته عن زوجها الذي سافر وترك لها مسئولية ابنتهما كاملة ...
تماماً كما تعلم أن أشرف لا يتذمر من كل هذا بل على العكس...
طبيعته المسئولة تجعله دوماً يشعر بالتقصير مهما فعل...
لكن هذه ليست المشكلة...
مشكلتها أنها عاجزة عن دعمه في كل هذا!
تريد .. لكن...لا تستطيع!!
طبيعتها -السلبية الخانعة- لا تجعلها تمنحه أكثر من مجرد عبارات مواساة !
_ادخلي صحيه يا بنتي ...اعمليهاله مفاجأة!
قطعت بها المرأة أفكارها بحنان -لم يفتقر مرحه بعد رغم الألم- فترددت رانيا لتقول بارتباك:
_لا يا "طنط" مش هاينفع...
ضحكات المرأة الواهنة قاطعت كلماتها المتلعثمة وهي تجذبها من ذراعها قسراً نحو غرفة ابنها قبل أن تلتفت لها بقولها :
_الولد مقتول من التعب ...مفيش قنبلة هتصحيه دلوقت من النوم إلا لو شافك.
_خلاص خلليه نايم!
قالتها بحرج وهي تبتعد تلقائياً لكن المرأة فتحت لها الباب لتقول لها بجدية عاد الحزن يشوبها من جديد:
_صحّيه يا بنتي وخديه واخرجوا...فرّحيه...أنا عايزة أشوفه فرحان!

ارتعش صوتها في عبارتها الأخيرة قبل أن تبتعد بسرعة مخافة أن تفضحها دموعها فراقبت رانيا انصرافها بنظرات مشفقة ..
ثم عادت ببصرها لذاك النائم هناك...
حمرة الخجل تصيب من وجنتيها وهي تتقدم نحو فراشه ...
لم تكن المرة الأولى التي ترى فيها غرفته بحكم جيرتهما القديمة ،لكنها كانت المرة الأولى التي تدخلها وهو فيها !
ابتسمت بحنان وهي تراقب ملامحه المتعبة قبل أن تجلس جواره على طرف الفراش ...
لقد كان يحتضن "الوسادة" الحمراء بشكل القلب الشهير والتي أهدتها له في عيد ميلاده السابق ، والتي نزعتها الآن منه برفق لتربت على كتفه بتردد هامسة باسمه !
همستها الخافتة لم تحرك فيه ساكناً بطبيعة الحال فتنحنحت لترفع صوتها بعض الشيء وهي تعاود التربيت على كتفه ...
لم تزل تفعلها حتى هب من نومه فجأة ليتطلع إليها بقلق هاتفاً بصوت متحشرج:
_رانيا ...حصل إيه؟!
رمقته بنظرة مشفقة وهي تدرك أثر الضغوط التي يواجهها عليه ...
ربما لو كانا قد تعرضا لموقف كهذا في وقت آخر لسبقته ابتسامته العابثة ومزاحه الذي يثير خجلها !
لهذا ابتسمت ابتسامة واهنة وهي تقول بنبرتها الرقيقة:
_قلقت عليك...موبايلك مقفول...جيت أطمن!

عاد برأسه إلى الوراء مطلقاً آهة توجع قبل أن يتناول هاتفه ليقلبه بين يديه قائلاً بضيق:
_فصل شحن...معلش...اتلبخت ونسيت أشحنه!

قالها ثم انهمك في توصيل هاتفه بالشاحن المجاور فترددت قليلاً قبل أن تمد أناملها لتمسك كفه قائلة:
_شكلك تعبان قوي...ارجع نام...مش مهم نروح مشاويرنا النهارده.

نظر إليها نظرة طويلة حملت كل مشاعره ...
حزنه...قلقه.. عجزه ...كل هذا الذي حاول تجاهله الآن كي لا يثقل عليها !!
صمت طويلاً ونظراته ترتاح على ضفاف عينيها شيئاً فشيئاً...
ابتسامة صغيرة بدأت تلقي ظلالها على ملامحه ...
قبل أن يهمس لها أخيراً:
_بصيلي كويس ...شايفة دي؟!
قالها مشيراً لشفتيه ثم احتضن كفها براحتيه مردفاً:
_انتِ الوحيدة اللي ممكن تخليني أبتسم كده دلوقت وسط كل اللي أنا فيه !
التمعت عيناها بعاطفتها لتتلعثم حروفها كالعادة مع قولها:
_كلامك ده بيحسسني بالذنب أكتر..أنا حاسة إني مابعملش حاجة...مش قادرة أساعدك في ظروفك دي .
_خلليكي جنبي بس...دي أكبر مساعدة ...مش طالب منك أكتر من كده !
والحرارة التي نطقها بها كانت تشع صدقاً ودفئاً زاد ارتباكها الخجول...
حتى قبل أن يميل على كفها بين راحتيه بقبلة عميقة جعلتها تسحب كفها بسرعة ...
قبل أن تهب واقفة لتهتف باضطراب:
_طيب ياللا نخرج ...يامن لو عرف إني جيت لك هنا وكمان قعدت في أوضتك لوحدنا هيقلب الدنيا!
ضحك لارتباكها الواضح وهو يقوم بدوره ليقول لها مشاكساً:
_أنا اللي هابلغ عنك...هاقولله صحيت لقيتها في سريري...أنا مش عارف البنات جرى لها إيه ؟! كل راجل يشوفوه عايزين يخدشوا حياءه كده ؟!
ثم خبطها بخفة على رأسها مردفاً:
_معندكيش إخوات ولاد!
_أشرف!
هتفت بها باعتراض ووجنتاها تحترقان تماماً بخجلها بينما تبتعد عنه وسط ضحكاته التي تعالى صوتها تحت مسامع والدته حيث كانت تراقبهما خلسة بارتياح ...
قبل أن تدخل الغرفة لتهتف به باستنكار حنون:
_قلت إيه كسفت البنت قوي كده ؟! أنا عارفاك قليل الأدب!!
وكأنما عاد إليه حزنه الذي كان قد تناساه بدخول والدته ليسألها بقلق:
_عاملة إيه دلوقت يا ماما ؟! المُسكّن الجديد عمل حاجة؟!
_زي الفل يا حبيبي ...سيبك مني و شوف عروستك...هاخدها تشرب حاجة على بال ما تغير هدومك !
قالتها وهي تجذب رانيا المرتبكة من ذراعها لتغادر معها الغرفة حيث بقيتا تتحدثان لبضع دقائق قبل أن تنضم إليهما نشوى شقيقته.
وأخيراً لحق بهن أشرف ليصطحب رانيا للخارج تحت نظراتهما المتفحصة باهتمام لهما ...
وكيف لا ؟!
و"أشرف" هو كل ما تبقى لهما من سند الدنيا!!

_بنت حلال بشكل...هي دي اللي هتريح أخوكِ!
قالتها والدته عقب خروجهما لترد نشوى باستهانة:
_بيتهيألك...رانيا بشخصيتها الضعيفة دي مش هتكون أكتر من حِمل جديد على كتفه...أشرف محتاج ست قوية تشيل معاه...تفهم هو محتاج إيه من غير ما يطلبه ...تسنده وتقف جنبه !
تنهدت المرأة بحرارة ثم جذبت ابنتها بين ذراعيها لتقول لها بحكمة:
_ساعات كتير قوة الست بتكون في ضعفها...المهم إنها تعرف توازن بينهم وتشوف علاقتها بجوزها محتاجة إيه...يمكن رانيا تبان ضعيفة ومهزوزة وما بتقدرش تاخد قرار لوحدها...لكن الامتحان الحقيقي وقت الجد ...ساعتها يبان إذا كان ده صحيح واللا مجرد "قشرة" من بره تظهر من تحتها قوتها وقت ما تحتاجها!
========
كان حلم عمري اللي لقيته...
كان كل شيء اتمنيته...
حبيتها كده زي ما هيّ...
ضحكتها مش ضحكة عادية...
توصفها تلاقيها ...مايتحكيش عليها!!!

انطلقت الكلمات مع ألحانها المميزة في سيارته عندما التفت نحوها ليسألها بحنين فاح في نبراته:
_فاكرة الأغنية دي؟!
عادت بظهرها للوراء مغمضة عينيها بشرود مع ابتسامة حنين صاحبت قولها:
_كنا في فرح بنت طنط جارتنا ...وقتها كنت أنت لسه في ثانوي...أول مرة كنت أشوفك بشنب...ساعتها حسيت إننا كبرنا خلاص ما عدناش عيال ...ساعة ما الأغنية دي اشتغلت لقيتك بتبصلي قوي وبتغنيها بشفايفك من غير صوت ...قلبي قعد يدق زي المجنونة...
_جيت أسلم عليكي بالإيد مارضيتيش ووشك احمر.
_وانت وشوشتني وانت متنرفز إن الفستان ضيق ماالبسوش تاني.
_عنيكي دمعوا وسبتي الفرح بدري وروحتي .
_وانت صحيت من بدري تستناني ع السلم لحد ما جه معاد المدرسة ...بفتح الباب لقيتك قصادي!
_عمري ما هنسى نظرة عينينا وقتها ...كانت أجمل من أي اعتراف...وأقوى من أي وعد !

كان كلاهما يكمل الحديث لصاحبه وكأنهما يريان بنفس العين ...
يشعران بنفس القلب ...
يهمسان بنفس لغة الحب!!
لهذا فتحت عينيها أخيراً قائلة بنعومتها التي لا تتكلفها:
_انت ما ادتنيش فرصة أحلم...كل حلم كنت بتحققهولي قبل ما أتمناه .
_ومش هابطل أعمل كده لآخر يوم في عمري!
قالها وهو يضغط كفها بقوة رفيقة فابتسمت وهي تغرقه بنظراتها العاشقة الفقيرة للكلمات ....
قبل أن يلتفت نحوها بقوله:
_حددي مشاويرنا بالترتيب عشان ما ننساش حاجة...آه...وماتنسيش تعملي قائمة بأسماء المعازيم عشان ما نتزنقش في حجم القاعة.
فاستخرجت من حقيبتها ورقة تناولتها لتقول وهي تنظر فيها:
_داليا كتبت لي الحاجات اللي فاضلة...ويامن اللي هيحدد موضوع المعازيم .
رمقها بنظرة جانبية ضائقة رغم تفهمه ل-طبيعتها المتواكلة- لتواصل هي حديثها المرتبك :
_هنعدي الأول نشوف الستاير...وبعدين السجاد ...لأنهم قريبين من بعض...ولو فضل وقت ممكن نشوف النجف.
كانت تتحدث وهي تقرأ من الورقة باضطراب فبدت ك"كتكوت مبتلّ" كاد يغرق في شبر ماء!
فابتسم مشفقاً عليها من ارتباكها ليقول مطمئناً:
_ما تقلقيش...أنا معاكي لحد ما نخلص كل حاجة براحتنا...على أقل من مهلك!
التفتت نحوه بنظرة امتنان طويلة لم تفارقها طوال رحلتهما التي بدت لها ممتعة رغم كل شيء...
ذاك العالم "البكر" الذي سترسم هي كل خطوطه...
بداية من رجلها الذي اختارته...
ومروراً بهذه الدوامة اللذيذة من التفاصيل الصغيرة ...
سجاد...مفروشات...ستائر...أجهزة...أثاث...ملابس...
وانتهاءً بحلمها الأعظم الذي هو بحجم عمرها كله ...
ثوب الزفاف لليلة العمر!
لهذا ما كادت تنتهي من آخر محل زاراه معاً حتى توقفت مكانها لتقول له بصوت مرهق:
_كفاية عليك كده ...هاتصل بداليا تجيلي ...فاضل مشوار واحد لجورج الترزي...بروفة الفستان!
فالتمعت عيناه بلهفة أنسته التعب مع هتافه :
_معقول خلصه بالسرعة دي ؟! هاموت وأشوفه!

_ما ينفعش نروح سوا ...بيقولوا فال وحش لما العريس يشوف عروسته بالفستان قبل الفرح !
قالتها باستنكار واهٍ يناسب طبيعتها الخانعة ليجيبها بنبرة حازمة:
_لو متخيلة إني ممكن أخللي حد غيري يروح معاكي تبقي غلطانة...
ثم تلونت عيناه بطيف عاطفته وهو يحتضن أناملها بكفه بقوة مردفاً:
_اللي حلم بيكِ وإنتِ لابساه أكتر مني يشوفك بيه قبلي!
هزمها الحنان المتملك في عبارته لتجد نفسها تطيعه كالعادة !

وبعدها بدقائق كانت تقف أمامه بثوبها الذي اختارته شديد البساطة مناسباً لملامحها الهادئة...
تطريزه المنمق بحبيبات اللؤلؤ الصغيرة زادته رقة إلى رقته خاصة مع طرحته المسدلة التي امتدت بطوله بل أطول بقليل ...
لتشكل خلفها ما يشبه ذيلاً من ورود "الدانتيل" و"اللؤلؤ"!
_"أوفر" قوي مش كده ؟! حاسة إن الناس هتضحك عليا عشان طرحته طويلة قوي ...
قالتها وهي تفرك كفيها بتوتر وعيناها تتحاشيان لقاء عينيه بخجلها المعتاد لتردف :
_داليا اللي اختارت الطرحة كده ...ممكن نغيّر...
_شششش!
تمتم بها وهو يتقدم منها ليمسك كتفيها فيجبرها على النظر إليه مع همسه:
_احنا ما تفقناش على كده!
اتسعت عيناها بجزع وقد ظنت الثوب لم يعجبه ...فابتسم ليردف بصوت متهدج :
_ما اتفقناش تكوني جميلة كده...تجنني كده !
عضت شفتها بخجل وسط أنفاسها المتلاحقة لتعاود الهروب من نظراته الحارة مع استطراده الدافئ:
_ارفعي راسك وافرحي معايا من غير خوف ...انتِ الحقيقة اللي أجمل من الحلم ...
ثم تنهد ليردف ببعض الأسى:
_والضحكة "العزيزة" وسط أيام الحزن!
=========
_بقوللك...لو فاضي النهارده ننزل بعد العيادة نلف شوية وناكل ال...البتاع ده اللي كان عاجبك!
قالها يامن لصديقه مدعياً اللامبالاة ليوافقه الأخير وهو يرد مرحباً:
_أوبا سينابون !! أي اقتراح فيه أكل أنا راشق معاك .
أغلق الاتصال وهو يعود بظهره للوراء ليستند على كرسي مكتبه .
حسناً...هو يعترف أنه يفعلها هذه المرة طوعاً كي... يطمئن عليها!

فمنذ تلك الليلة التي تركها فيها في تلك المنطقة الجبلية وهي اختفت تماماً من محيط عالمه فلم يعد يراها ...
تراها استجابت لتهديده ويأست من ملاحقته؟!
أم أن أحدهم قد آذاها تلك الليلة ...ربما تبعها ذاك الوغد الذي كان يتشاجر معها؟!
وغد؟!
ولماذا يكون هو الوغد؟!
ألم يفترض -هو- قبلاً أنها هي الآثمة ؟!
أم أن انهيارها الباكي تلك الليلة أمامه زعزع هذا المعتقد؟!
زفر بقوة عند الخاطر الأخير ثم غمغم بسخط محدثاً نفسه:
_اطلعي من دماغي بقى يا شيخة!!

قالها ثم ضغط زراً خاصاً أمامه ليطلب من مساعدته إدخال أول مريض وكأنه يحاول الهروب من تفكيره فيها ...وقد كان!!
مرت به الساعات كعهدها سريعة في عمله الذي يعشقه ولا ينكر أنه كان يتوقع مع كل مرة يفتح فيها الباب ليدخل منه أحدهم أن تكون هي ...
لكن توقعاته باءت بالفشل لهذا ازداد مزاجه عصبيةً وهو يغادر العيادة نحو المطعم الخاص بها...

ورغم أن المكان لم يتغير كثيراً عن زيارته السابقة لكنه شعر بالاختلاف في نفسه هو ...
ذاك المزيج الغريب من الرهبة والتوجس ...وإن لم يخلُ من متعةٍ خفية لم يدرك سرها !!
لهذا ما كاد صديقه يصل حتى قرر أن يصارحه بكل ما يشغل باله ...ليختم حديثه بقوله:
_هتجنن يا مروان...مش فاهم هي عارفة عني كل حاجة ازاي...وعايزة مني إيه أصلاً.
صمت صديقه لحظات مفكراً قبل أن يقول بتعجب:
_كأنك بتتكلم عن واحدة تانية غير جيسي اللي نعرفها ...دي مناخيرها دايماً في السما ...وبعدين انت قلت انها ولا مرة حاولت تكلمك ...مش يمكن فعلا مجرد صدف!!
هز رأسه نفياً مكابراً ليقول ببعض الحدة:
_هي حتى ما أنكرتش لما واجهتها .
_وانت شاغل بالك ليه؟! عاجباك؟!
قالها صديقه وهو يتفحص ملامحه باهتمام فتجهم وجهه وهو يجيبه بنفس الحدة:
_انت عارف كويس اني ماليش في الليلة دي...واشتريت دماغي من سكة الستات دي كلها !
هز صديقه رأسه بعدم اقتناع فزفر بقوة ليشيح بوجهه مردفاً:
_كل الحكاية اني موسوس زي ما بيقولوا ...مبحبش يبقى فيه حاجة تخصني ومش فاهمها .
_سبحان الله ...الدنيا دي غريبة جداً...انا اعرف ناس هيموتوا عليها وانت خايف منها وبتقول بتجري وراك ؟!
قالها صديقه ببعض المرح كي يحاول أن يصرفه عن هذا المزاج الكئيب لكن يامن عاد يسأله بجدية:
_تعرف اتطلقت ليه؟!
هز رفيقه رأسه نفياً وهو يجيبه :
_محدش عارف بالظبط...كلها إشاعات وانت عارف الناس ما بتصدق ...بس طليقها كل شوية يعمللها مشاكل ...لدرجة إنها لجأت للبوليس آخر مرة ...بس الحيوان ده واضح انه ما حرمش بدليل اللي انت قلته من شوية...أنا متأكد إن هو اللي كان بيتخانق معاها قدام المول من وصفك .
_وليه ما يكونش "الحيوان" ده هو صاحب الحق؟! والهانم "البريئة" هي اللي ظالماه؟!
قالها بسخريته السوداء كعادته لكن صديقه عاد يقول مؤكداً:
_أنا أعرف جيسي من زمان...من أيام ما كانت بتلعب تنس في النادي ...محدش عرفها وقرب منها وما حبهاش...ما اصدقش عنها حاجة وحشة أبداً.
_هو ده الفرق بيني وبينك...انت على نياتك وبتتخدع في الناس ...
قالها يامن بنفس النبرة المتهكمة ....ليرد صديقه بإشفاق:
_وانت بتضيع حلاوة الحاجة اللي بين ايديك بالشك والوساوس...صدقني الدنيا أبسط من كده ...
ثم صمت لحظة ليردف بتردد وكأنه يخشى مسّ جرح صديقه القديم:
_صوابعك مش زي بعضها يا يامن!
عقد يامن حاجبيه وهو يفهم ما يرمي إليه صديقه فاستشاط غضباً وهو يهتف بانفعال:
_لا ! زي بعضها ...وكفاية كلام في الموضوع ده !
لم يكد يتم عبارته حتى وصل النادل بما طلباه ليضع الصينية أمامهما فبادر صديقه بسؤال النادل:
_مدام ياسمين موجودة؟! كنت عايزة أهنيها على الديكورات الجديدة للمحل!
فابتسم الرجل ليقول بنبرة مهذبة:
_موجودة يا فندم هابلغها حاضر!
قالها ثم غادرهما فالتفت صديقه نحوه ليغمغم برفق:
_كده اطمنا عليها ...
ثم غمزه ليردف مازحاً:
_مش انت جايبنا هنا عشان كده؟!

لكنه لم يستجب لمزاحه وهو يطالع قطعة "السينابون" أمامه بشرود ...
شكلها "الحلزوني"يذكره بمتاهات حياته التي عاش يتخبط فيها حتى وصل إلى ما وصل إليه ...
يلومونه على شكوكه ووساوسه ولا يدرون أن هذا هو درعه الأخير كي لا يُخدع مرة أخرى ...
فقد تعلم بأسوأ طريقة أن جروح القلوب لا تندمل بل تبقى ندوبها بشعة المظهر تذكرنا بما خسرناه وتحذرنا من السقوط في فخ جديد!


_أنا سديت نفسك واللا إيه؟!
قالها صديقه بمرح تشوبه لكنة اعتذار فالتفت نحوه يامن بابتسامة
واهنة... قبل أن يربت على كتفه ليقول بامتنان:
_انت عارف ان انت صاحبي الوحيد اللي مستحمل جناني ده؟!
فضحك صديقه ليعيد الحوار نحو نفس الجهة:
_لو كنت صادق في كلامك اللي قلته من شوية عن جيسي يبقى فيه أمل تلاقي حد غيري يستحملك.
_ليه بتقول جيسي دي؟! اسمها ياسمين .
قالها بفظاظته المعهودة فانفجر صديقه بالضحك وهو يخبط كفيه معاً قائلاً بين ضحكاته:
_أهه لسه ما بدأناش وغيران عليها ...دي هتشوف أيام كحلي!!
_غيرة إيه بس يا بني آدم انت؟! الحكاية ...
انقطعت عبارته عندما رآها من بعيد تتقدم نحوهما بخطواتها الرشيقة وعيناها ترمقانه بنفس النظرة اللائمة التي لا يفهمها ...
كانت ترتدي "سالوبيت" من الجينز مع قميص أصفر وحجاب قصير لفته بطريقة "سبانيش" الشهيرة بلون أزرق غامق مع حذاء رياضي أصفر!
ومع قامتها الضئيلة بدت له كمراهقة تتلمس طريقها نحو المدرسة ...
لا يزال عاجزاً عن تصديق أنها امرأة خاضت أي تجارب !

رائحة عطرها "الملونة" تعاود غزو حواسه مع اقترابها أكثر ...
كيف يمكن أن تثير ضيقه بكل هذه القوة ...
ومع هذا يريدها أن تقترب أكثر ...
أكثر ...
ربما لو تذكر أين رآها من قبل لاستطاع حل لغزها الذي يعكر صفوه !!

_إزيك يا مروان؟! قالولي إنك عايز تبارك لي!
قالتها وهي تتجاهله تماماً موجهة حديثها لصديقه الذي وقف ليقول لها بمرح ودود:
_بجد بفرح قوي بنجاحك...مطعمك بقى أشهر مطعم سينابون في البلد ...طول عمرك بتعرفي توصللي للي انتي عايزاه من أيام بطولات التنس.
رفع يامن حاجباه بغرور يجيد ادعاءه وهو يحافظ على جلسته المستقيمة متجاهلاً إياها كما فعلت هي ...
لكنه اختلس نظرة واحدة لوجهها الذي بدا له الآن شديد الحيوية بعيداً تماماً عن ذاك الذي رآها به تلك الليلة الأخيرة...
خاصة مع قولها الواثق وبنبرة ذات مغزى شعر بها يامن:
_شكراً...معاك حق...مفيش حلم مستحيل ...احنا اللي ساعات بنزهق بسرعة وبنسيب احلامنا تضيع من ايدينا!
ثم التفتت نحو يامن لتردف بمزيج من عتب وكبرياء:
_أنا شايفة الدكتور شرفنا هنا تاني ...مبسوطة ان المطعم عجبه !
قالتها ولم تنتظر رده بل غادرتهما بخطواتهما الواثقة لتعود وتختفي خلف ذاك الباب هناك تاركة إياه يغلي بين غيظه من طريقتها وفوضى ظنونه التي تنهشه...
من تكون هذه المرأة؟!

لكن أفكاره انقطعت برنين هاتفه الذي تناوله لينعقد حاجباه بشدة وهو يتعرف إلى هوية المتصل...أو بالأدق المتصلة!!!
وميض الشاشة المتكرر يتزامن مع ذكرياته السيئة معها ...قبل أن يتمتم من بين أسنانه:
_سيلين؟! ودي إيه اللي فكرها بيا دي دلوقت؟!
=======
_أسوان إيه دي اللي عايزة تروحيها لوحدك أسبوع؟! انتي اتجننتي؟!
هتف بها باستنكار وهو يواجه داليا التي عبست ملامحها مع ردها:
_مين قال لوحدي؟! دي رحلة تبع النادي وكل صاحباتي رايحين...
ثم صبغت صوتها ببعض الدلال لتردف:
_ولو قلقان عليا ممكن تيجي معايا!
لكنه عاد يصيح بنفس اللهجة المستنكرة:
_آه ....أسيب عيادتي ومصالحي والف وراكي في كل حتة شوية ؟!
دمعت عيناها وهي ترمقه بنظرة عاتبة فتفحصتهما نبيلة ببصرها قبل أن تقول لابنة شقيقتها ببعض الحزم:
_روحي اتغدي دلوقتي يا داليا ...وسيبيني مع يامن شوية.
أصدرت زفرة حانقة وهي تلوح بذراعها لتغمغم وهي تنصرف بخطوات مندفعة:
_إيه الخنقة دي؟! كل حاجة غلط ...كل حاجة ما تنفعش...عيشة تزهق!
_بتبرطمي بتقولي إيه يا هانم؟!
هتف بها بخشونته المعهودة وهو يكاد يلحق بها لكن والدته جذبته من ذراعه لتجلس وتجلسه جوارها قائلة بنبرتها القوية:
_اهدا عليها يا يامن ...مش كده ...البنت ما غلطتش !
فالتفت نحوها ليهتف بحدة مبالغ فيها:
_عايزاني أسيبها تسافر لوحدها ؟! مابتسمعيش عن اللي بيحصل اليومين دول؟!
ابتسمت وهي تتعلق بذراعه قائلة:
_طب إيه رأيك نسافر كلنا معاها ...أنا كمان نفسي أغير جو!
_لأ!
وجد نفسه يقولها باندفاع لتطرق بعدها برأسها للحظات سبقت قولها وقد خالط كبرياءها الكثير من الأسى :
_مفيش فايدة...هتفضل كاره ظهورنا سوا قدام الناس...كل مرة لازم تحصل مشكلة عشان توافق .
كز على أسنانه بغضب مكتوم وهو يود لو ينكر استنتاجها لكنه لم يستطع ...
هل ستفهمه لو قال لها أنه يود لو يصطحبها لكل مكان متنعماً بجنة حنانها التي افتقدها في سنوات كان أحوج ما يكون إليها ...
لكنه في نفس الوقت يخجل من تواجده معها !
لا ..ليس خجلاً فقط ...بل غضب وسخط وغيظ و...غيرة؟!
إنه بالكاد يتقبل خروجه معها للتسوق بين الحين والآخر والذي ينتهي غالباً بمشاجرة نتيجة مزاجه المشحون ...
كل عبارات المجاملة التي تلاحقها أينما ذهبت من معجبيها تلهب رجولته بالسياط ...
تذكره بعهد أبيه القديم ...

_ابعد عنها أد ما تقدر يا ابني ...كانت غلطتي يوم ما خدت واحدة مش من توبي ...غلطة بدفع تمنها لحد دلوقت وشكلي هافضل ادفعه عمري كله ...بس المهم عندي إنك ما تشيلش الحمل اللي مالكش ذنب فيه .

تنهد بحرارة عند الذكرى الأخيرة ليدعو لأبيه بالرحمة سراً قبل أن يرفع عينيه إليها...
ليفاجأ بلمعة الدموع في عينيها والتي جعلته يزفر بقوة قبل أن يهتف بضيق:
_ولازمته إيه العياط دلوقت؟! كل حاجة لازم تقلبيها دراما كده ؟!
أشاحت بوجهها دون رد وقد أنذرت ملامحها بانهيار قريب جعله يخشى العاقبة كالمرة السابقة ...
فتنهد بحرارة ثم قال بنبرة لانت نوعاً:
_خلاص بقى...الحكاية مش مستاهلة ...انتي عارفة ظروف شغلي.
لكنها ظلت مشيحة بوجهها لترد بنبرة مستعطفة:
_انت بتتلكك...ممكن تسيب العيادة للدكتور اللي معاك زي ما بتعمل في أجازاتك...لكن انت اللي مش عايز تقرب مني...مُصرّ تحسسني دايماً إني بعيد .
مط شفتيه بضيق للحظات ليفاجئها بقوله في استسلام غريب على طبعه العنيد:
_خلاص...أنا موافق...أنا كمان محتاج أغير جو!
قالها ثم قام من جوارها ليتوجه نحو الشرفة القريبة التي استند على سورها وهو يتابع مدخل البناية بشرود حيث تجمع بعض الأطفال يلعبون الكرة ...
فابتسم بشرود وهو يتذكر قبساً من طفولته البعيدة انتهى أيضاً بتحذير أبيه..

العب معاهم بس اوعى تقول لحد أمك تبقى مين...هيخلوك تريقتهم في الرايحة والجاية...
أنا خرجت بيك من بلدنا وجيت هنا عشان أحميك من كلام الناس...ما تضيعش تعبي يا ابني!

_مالك يا يامن؟! بقى لك كام يوم مش عاجبني؟!
قالتها نبيلة بنبرتها ذات الكبرياء والتي خالطها الآن بعض القلق فالتفت نحوها بوجه اعتادت جموده ...
لكنه كان ينبض الآن بألم استنفر -أمومتها- فأردفت بحنان:
_اللي تاعبك انك دايما بتكتم جواك ...احكيلي ايه اللي مغيرك .

كانت شبه واثقة أنه لن يصرح لها بشيء كعهده لهذا توقعت صمته الطويل بعدها ...
لكنها لم تتوقع أن يبوح بهذا حقاً :
_سيلين اتصلت بيا من كام يوم .
_سيلين مراتك؟!
_طليقتي !
هتف بها بحدة وملامحه تعود لاشتعالها فأشارت له بكفيها لتهدئه مدركةً حساسيته من هذا الأمر ...قبل أن تعاود سؤالها باهتمام:
_كانت عايزة إيه؟!
بدا على وجهه التردد للحظات قبل أن يلقي قنبلته:
_حامل في التاسع!
شهقت بعنف ليردف هو بتهكم غاضب:
_بتقول إنه ابني وعايزة ترجعلي بالحجة دي...فاكرة إنها هتلوي دراعي..نازلة مصر بعد أسبوعين وعايزاني أكون في شرف استقبالها .
_وهتعمل إيه؟!
سألته بقلق ولازالت المفاجأة مسيطرة عليها ...
هي -مثله- لا تريده أن يعود لتلك المرأة ...
ليس فقط لأجل أفعالها السابقة الشنيعة معه ...
لكن لأنها هي تريده هنا معها ...في بلده !
لقد ظنت بعد سفره أنه لن يعود هنا أبداً ورغم أنها لم تقلها له صراحة...
لكنها شعرت أن روحها ردت إليها عندما عاد منذ بضعة أشهر مقرراً استقراره الأخير هنا بعد غربة طالت لسنتين !!
والآن ...ماذا سيحدث بعد هذه المفاجأة غير المتوقعة ؟!
هل سيتركها من جديد؟!
_أتأكد منين إنه ابني بعد اللي حصل؟! واحدة زي دي ممكن تعمل أي حاجة عشان توصل للي في دماغها !! وحتى لو اتأكدت هاسيبهولها مش عايزه!
انتشلتها عباراته الساخطة من شرودها فانعقد حاجباها وهي تغمغم بارتباك:
_معقول؟!..هتسيب ابنك ؟!
ضحكته الساخرة المكتومة كانت كرصاصة عتاب في صدر أمومتها...
تذكرها ب"ماضيها القديم"!!
فازدردت ريقها بتوتر بينما أشاح هو بوجهه عنها ليقول بفظاظة:
_مش هاعيد مأساة أبويا تاني...حتى لو طلع ابني خلليها تشيل مسئوليته ...مش عايز حاجة تفكرني بيها ...اتفاقي معاها كان واضح م البداية ...جواز مصلحة ...هي اللي خانت اتفاقنا!
أطرقت برأسها وهي تشعر بالخزي في موقفها هذا ...
هي تعلم أنه الآن لا يرى في طليقته إلا صورتها هي ..
صورة المرأة التي تضحي بأي شيء لأجل مصلحتها خاصة بعدما فعلته به في غربته ...
لهذا صمتت طويلاً قبل أن تسأله بصوت خفيض:
_وناوي تعمل إيه؟!
_هاطفشها!
هتف بها بخشونة وهو يخبط بقبضته على سور الشرفة بعنف قبل أن يردف بعينين مشتعلتين بالغضب:
_لازم تتأكد إن ما بقالهاش مكان في حياتي ...ولا هيكون ...ومش هتصدق غير لما تشوف بعنيها!
=======



سينابون .. ج 1 .. ج 2 .. للكاتبة نرمين نحمد اللهWhere stories live. Discover now