فتاة خائفة - الحلقة الرابعة

22.8K 1.1K 17
                                    

في زنزانتها، جلست أسيل تفكر بما قاله جارها السجين وبهؤلاء الفقراء الذين صاروا عبيد بغير حق، تمتلئ عيناها بالدموع كلما تذكرت نظراتهم الواهنة، وتضع رأسها بين كفيها إن شمت رائحة لحم يحترق، كانت تدرك جيدا أنه لفقير حاول الهرب، ثم خرجت مجددا أمام زنزانتها لتجد الساحة قد امتألت عن آخرها بفقراء كسا
الضعف والوجوم وجوههم مع اقتراب غروب الشمس، ووقع بصرها علي فتاة شاحبة بينهم امتلأت عيناها بالخوف، وقالت في نفسها وهي
تنظر إليها :
- أيتها الجميلة، إنك أفضل حال من سجينة تعلم أنها ستذبح
بعد أشهر، فال تدري هل تسأل أيامها أن تسرع أم تبطئ من
مرورها، اللعنة علي بلد باعت أبناءها .
ثم عادت إلى زنزانتها وأغلق الحارس بابها، وانسدل ظلام الليل
لتهدأ ضجة الساحة الخارجية ويشتعل ضجيج تفكيرها ..
***
وكان السجين الأربعيني يجلس بزنزانته في صباح اليوم التالي حين فوجئ
بأسيل تدلف إليه فأعتدل في جلسته مندهشا، فابتسمت
والأمل يملأ وجهها عن يومها السابق، وجثت علي ركبتيها بجوارها
قالت:
_لقد سألت نفس ي بالأمس لماذا تستسلم فتاة في الخامسة
والعشرين من عمرها ؟!
رغم أنها أحبت شابا لم يعرف طريقا للاستسلام قط حتي وصل الي مبتغاه، كأنه أعطاها درسًا مسبقا عما هي فيه
فقاطعها السجين متعجبا وفرحا بسعادتها الظاهرة
- سيدتي .. ماذا تريدين ؟!
فاقتربت برأسها، وهمست إليه :
- أريد أن أعبرالسور الحديدي إلى فقراء بيجانا..
فسألها مندهشا:
- تريدين الذهاب إلى أماريتا ؟!
أجابته باسمة :
- نعم ..
فسألها مازحا: هل سيلحق بك فتاك الذي تحدثت عنه الي هناك
قالت :
- لا .. لقد رحل، ولكنه لو كان هنا لما تركني أنتظر يوم ذبحي
وهناك فرصة واحدة لنجاتي،
وأردفت:
_ لا أحد يعلم مصير هؤلاء الفقراء في أماريتا، لذا لم يهدأ تفكيري طوال الليل، قد يكون مصيرا أفضل من الذبح أمام أهل زيكولا
و تابعت وهي تنظر في عينه مباشرة :
- لقد أخبرتني بالأمس أنك تعلم الكثير عن الحراس هنا، بل يدين
ٍل، أريد أن يدخلني أحدهم إلى الدائرة،
أكثرهم إليك بإفضال، أريد أن يدخلني احدهم الي الدائرة ووسط هذا الزحام لن يدري أحد بوجودي .
ثم أخرجت سوار ذهبي كان يحيط معصمها حين دلفت الي السوق يوم اعقلهت وظل معها، وقالت:
- قد يفيد هذا مع بدء الخوف من الفقر ..
فنظرالرجل إلى سوارها مترددا ثم هز رأسه وقال بعد لحظات :
- حسنا، اتركيني الآن .
***
مرت ساعات قليلة، كانت أسيل تنتظر بها أن يأتيها السجين بالرد، وصار قلبها يدق املا
للمرة الأولى بالسجن الغربي، وجال
ّ بخاطرها فجأة خالد حين جلسا سويا أمام البحيرة يحلان لغز كتابه معهم يامن...فابتسمت وحدثت نفسها؛ لن استسلم يا خالد، ثم
نهضت في حماس وكأنها لا تطيق الانتظار، وتحركت إلى زنازين مجاورة فوجدت سجينة في حجمها ترتدي معطفا قديما مبطنا

بالفراء ذا قلسنوة، يتدلي من أسفله فستان قديم مرقعة بهتت
صبغته الرمادية، فدلفت إليها وسألتها:
_هل لي أن أبدل ثيابي معك
فدهشت السجينة، ونظرت إلى فستان أسيل الثمين الذي لم
يؤثر السجن علي رونقه، ونظرت إلى ثيابها البالية وسألتها :
_هل انت جادة ؟!
فهزت أسيل رأسها وقالت :
- نعم .. هل توافقين ؟
فأجابتها السجينة :
- بالطبع .. وكادت تنزع معطفها ..
فقالت أسيل باسمة:
_ليس الآن .. أريدك أن تأتي إلى زنزانتي قبل أن تغلق الابواب مع
غروب الشمس .
فأومأت السجينة فرحة وغادرتها اسيل، ثم وقفت برهة بالطرق
أمام الزنازين، ونظرت إلى الساحة الممتلئة عن آخرها بالفقراء، كانت
الدائرة الجيرية قد اتسعت لتصبح حافتها ملاصقة للسور الحديدي
الفاصل بين قسمي السجن، ثم تحركت إلى زنزانة الأربعيني فلم تجده
بها، فاتجهت إلى زنزانتها في انتظاره، ومرت ساعات أخرى دون أن
يظهر، غير أن صاحبة الثياب البالية لم تخلف ميعاده
اغلقت الأبواب مع غروب الشمس، ولم يظهر جارها السجين،
فجلست صامتة بفستانها الرمادي البالي، وأسندت رأسها إلى الحائط واضعة يدها على معطفها المتسخ المكوم بجوارها
وحدثت نفسها فى
خيبة أمل :
- سيغادرون الليلة .
ثم مضي وقت قليل فنهضت واقتربت من النافذة الضيقة المغلقة
بقوائم حديدية رفيعة، ونظرت عبرها إلى السماء وأطالت نظرتها،
قبل أن تتسارع دقات قلبها حين مرت غيامة أخفت معها نجوم
السماء إلا نجم واحد ظل يلمع بقوة دون غيره، فنطقت في ذهول :
- أسيل النجم !! خالد !!
و لم تكمل كلماتها حتي سمعت باب زنزانتها يصدر صريره ويفتح
ويظهر رأس حارس لم تره من قبل، وهمس إليها :
- مستعدة للرحيل ؟
فأجابته علي الفور :
- نعم ..
فأكمل :
- أين ذلك السوار الذهبي
فدست يدها بمعطفها المكوم، وأخرجته وأعطته له :
- ها هو ..
فلمعت عيناه وقال :
- لا تعلمين مدي حاجتي إليه.
ونظر إلى مالبسها :
- تعجبني ثيابك.
ثم مسح يده المتسخة بوجهها فتركت أثارا سوداء على خديها، وأكمل:
_تبدين متربة مثلهم الآن، عليك ان تسرعي
فالتقطت أسيل معطفها وارتدته، وغطت رأسها بقلنسوته
الكبيرة، وأسدلتها علي جبهتها فأخفت ملامح وجهها ثم سارت خلف
الحارس مطأطاة الرأس، ونظرت إلى الزنزانة المجاورة فوجدت جارها
السجين يبتسم خلف نافذة بابه الحديدي، ويلوح له بيده مودعا،
ويشير إليها أن تكمل فحثت من خطاها، ثم اقترب الحارس بها من ثلاثة اشخاص آخرين معهم حارس آخر، وتحدث إليه باكتمال
الأربعة الذين أمر بهم قائد الحرس أن يرحلوا مع سجناء الساحة إلي
أماريتا، وانتهى من كلماته ففوجئت أسيل بقدر من الزيت البارد
ينسكب فوقها، بعدها سارت مع الثلاثة الآخرين نحو باب صغير
بالسور الحديدي الفاصل، وما إن عبرته وأغلق من خلفهم حتي
كبلت يدها بيد فتاة أخرى حين أبصرت ملامحها بطرف عينها وجدتها
نفس الفتاة التي رأت الخوف بعينيها يومها السابق، ثم شعرت
برعشة جسدها وسمعت بكاءها مع حلول وقت الرحيل، فمدت
أسيل يدها اليسرى لتمسح دموعها عن وجهها، وهمست إليها:
_ستعودين يوما ما يا رفيقتي.
فالتفتت إليها الفتاة، وحدقت بملاممحها التي ظهرت فجأة مع
إزاحة الهواء لغطاء رأسها قليلا، ونطقت في دهشة :
_الطبيبة أسيل ؟!! ماذا جاء بك الي هنا؟! أتذهبين معنا الي اماريتا؟!
فأجابتها هامسة بعدما غطت رأسها :
- نعم ..
فأكملت الفتاة بصوٍت خافت :
_ولكنك لست فقيرة مثلنا ! ..
فصمتت أسيل برهة ثم سألتها:
_هل لِك أن تكتمي سرا؟
فأومأت الفتاة إيجابا أن تتحدث فقالت أسيل :
- إن أماريتا سبيلي الوحيد الآن إلى سرداب فوريك .
***

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now