القافلة - الحلقة الخامسة

23.5K 1.1K 30
                                    

كان وقت ترحيل السجناء إلى أماريتا قد حان، وأمام باب السجن
تلاصق مئات من الجنود بخوذهم وسيوفهم ودروعهم مانعين أي من اهل بيجانا الذين تجمعوا خارج السجن أن يقترب من بابه الخارجي،
ومفسحين الطريق لعربات خشبية ضخمة كان يجر كل عربة منها
ثلاثة أزواج من الخيول يقودهم جندي يشق سوطه الهواء، وفي صناديقها الخشبية ثبتت أغلال حديدية علي مسافات متساوية . .
وحين توقفت العربة الأولى أمام باب السجن أسرع إليها ثلاثة من
ً الجنود، اعتلي اثنان منهم صندوقها بينما وقف الثالث مجاورا لسلم فولاذي ثبته، بمؤخرتها

ته بمؤخرتها، بعدها أمر قائد الحرس أن يتحرك السجناء فأطلق بوق
أعلي سور السجن، وبدأ السجناء يتحركون أزواجا تراصوا بدروعهم صانعين ممر ساحة
كبلة اليدين والقدمين بين صفين من حرا
ورماحهم صانعين ممرا طويلا بين ساحة السجن والعربات بالخارج،
وكان الجندي الذي يقف عند مؤخرة العربة يسجل بأوراقه علامتين
مع كل زوج يصل إليه من السجناء، قبل أن يلتقطهما الجنديان
الآخران أعلاها ويكبلا أغلالهما بأغلال العربة المثبتة، ثم يشيران إلى جندي الأوراق كي يمرر إليهما زوجا ليكبلاهما كما كبلا
سابقيهما، حتي امتلأت العربة الأولى، ورفع أحد الجنود راية بيضاء،
فحمل جندي الأوراق السلم الفولاذي متجها إلى عربة أخرى بينما ظل الجنديان الآخران مع السجناء أعلي العربة التي تحركت إلى
الأمام لتحل محلها عربة أخرى .
***
امتألت العربات عربة تلو الأخري، واصطفت في صف واحد علي
امتداد سور السجن في انتظار العربات الباقية، ثم تقدمت أسيل

مكبلة يداها اليسر ى وقدمها مع الفتاة الخائفة، وسارت مطاطأة
الرأس تخفي وجهها يغطي رأسها قلنسوة معطفها، ووصلتا إلى
مؤخرة عربة، وكادتا تصعدان سلمها الفوالذي فصاح جندي الأوراق
بأسيل :
- لماذا تخفين وجهك
فأسرعت الفتاة ونظرت إليه، وتحدثم فى دلال متجاهلة سؤاله
لأسيل :
- أنظر ماذا فعلت قيودكم بقدمي ..
ثم كشفت عن ساقها وفخذها كاملاا فلمعت عيناه، وكاد يمد يده
يلامسها فصاح به قائده كي يسرع فسجل بأوراقه عالمتين حانقا،
ُ ثم التقطهما جنديا العربة وكبلاهما بقيدي حديدي مثبت بجانبها،
وأسرعا إلى سجينين آخرين، فهمست الفتاة إلى أسيل ضاحكة :
- الرجال هم الرجال .
ثم تابعت :
- قمر، اسمي قمر ..
فابتسمت أسيل، وهمست إليها:
- أدين لك بحياتي الآن يا قمر.
فقالت الفتاة مازحة:
- عليك أن تتذكري هذا لاحقا
ثم رِفعت الراية البيضاء أمام العربة بعدما امتلأت، فتحركت قليلا للأمام لتحل محلها عربة نقل السجناء الأخيرة التي انتهت هي
الأخري مع منتصف الليل ..
بعدها امتطي قائد الحرس جواده ودار حول العربات وتفقدها بعينيه سريعا، وصاح بصوت رخيم بأن يستعد الجميع للرحيل،
ِفعت راية سوداء كبيرة بالعربة الأولى، وأطلقت الأبواق مجددا، وأغلق باب السجن الرئيسي، وامتطي الجنود خيولهم،
وإلتفوا حول العربات ليكونوا إطارا بيضاويا مزدوجا بأجساد خيولهم، تفصل بينهم
ً بينهم أقدام قليلة، وأمسكت يد كل منهم سوطا هوي علي جسد من اقترب من أهل بيجانا دون أن يفرق بين شيخ أو طفل أو امراة، وبدأت العربات تتحرك رويدا رويدا، تحتشد كل منها بأجساٍد مكبلة، تنظر إلى بعضها البعض وإلى سماء بيجانا التي بدأت تمطر حزنا مع
بكاء سجيناتها ووجوم سجنائها ونحيب نسائهم وشرود نظرات اطفالهم، وغادرت القافلة بيجانا كانت الأكثر قسوة في
تاريخها .
***
سارت القافلة في إتجاه الجنوب، عشرون عربة خشبية، كانت
مقدمة كل منها تحمل شعلة زيتية، وأحاط بهم مئات من الجنود علي
جيادهم، يحمل بعضهم شعلا ًمماثلة، وكانت أسيل تجلس بالعربة
قبل الأخيرة وبجوارها قمر التي قالت لها:
_اكشفي وجهك إن أردتي، لقد تركنا بيجانا، وهذان الجنديان
ومن معنا من فقــراء العـــربة ليسوا من المنطقة الغــربية، لا
أعتقد أنهم
سيعرفونك ..
فكشفت أسيل رأسها، والمست وجهها قطرات من المطر، فسألتها قمر: - هل عرفين أماريتا تلك ؟
- لا .. إنني لم أعرف إلا بيجانا وزيكولا .
- أنا أيضا لا أعرفها، إنني لم أترك بيجانا قط، سمعت أنهم
يقولون أنها بعيدة للغاية ..
- نعم سمعت هذا أيضا ..
- هل تعلمين ماذا سيفعلون بنا في أماريتا ؟
- لا ..
ثم نظرت أسيل إلى السماء بعدما انتهت أمطارها وعاد صفاؤها
فوجدت أسيل النجم، فابتسمت وقالت لقمر فرحة
- أنظري إلى هذا النجم اللامع ..
فردت قمر متعجبة من فرحتها :
- ماذا به ؟!
- لقد سماه حبيبي أسيل، وها هو يرافقني
فضحكت قمر:
_هناك حبيب إذن ..لابد أن أعرف القصة
فقالت أسيل باسمة :
- لا تتعجلي.. يقولون إن طريقنا طويل، لن يكون لدينا أكثر من الحديث فقالت قمر في خيبة أمل :
- إنني لم أحب بعد .. تجاوزت العشرين ولم أحب، مأساة أليس
كذلك ؟!
فابتسمت أسيل وأكملت حديثها إليها ..
ومر مزيد من الوقت أكملت معه القافلة مسيرتها نحو الجنوب،
وزادت برودة الجو فتالصق السجناء مرتجفين رجالا ونساءا،
يستعيرون دفء بعضهم البعض، ولم يتوقف صفيرالرياح عن دويه

وسط ظلام الطريق، تراقصت معه نيران المشاعل لتظهر وجوها
ذابلة كساها التعب، وشفاه مشققة آثرت أن تصمت، وجفون مرهق
غلبها النعاس فسقطت، عدا أسيل التي ظلت تراقب نجم
السماء دون أن تفكر بشئ آخر، بينما نامت قمر علي كتفها .
***
كانت الرياح قد هدأت مع بزوغ فجر اليوم التالي وسطوع شمسه، أسيل ملأت صدرها بهواء منعش كان قادما من مسطح مائي رأته عينها علي امتداد بصرها، ودق قلبها حين قال أحد
الجنديين للآخر :
- انظر .. إنه بحر مينجا، لن تراه كل يوم

وواصلت العربات تقدمها في طريقها إليه، ثم اقتربت منه
فانحرفت لتسير موازية لشاطئه فأبصرت أسيل سفينة كبيرة انتصب بأوسطها صار طويل لف ثلثه الأعلى بشراع قماشي كانت تقف مجاورة لجسر خشبي طويل شق ماء البحر متعامدت، عليها
شاطئ البحر اصطف عدد من الجنود الغرباء كان مماثلا لمرافقي
قافلتها، يتقدمهم قائد شاب تقدم إليه قائد الحرس البيجاني ما إن
رآه، ثم تبادلا أوراقهما، بعدها تفقد القائد الشاب العربات بجواده
ثم أشار إلى جنوده الذين أفسحوا الطريق لتتحرك العربة الأولى
إلى
الجسر الخشبي في إتجاه السفينة، وعبرت لوح خشبي سميك مائل ثبت بينه وبين السفينة لتأخذ مكانها أعلاها، ثم حلت خيولها بجوار العربة الأولى، وعاد بهم قائدها
بهم قائدها مع جنديّ
بجوار العربة الأولى، وتعود خيولها إلى الشاطئ مع قائدها وجنديها
هي الأخري .. ثم نهضت قمر وتلفتت حولها في دهشة بعدما وجدت
ذلك البحر وتلك السفينة، وسألت أسيل :
- أين نحن ؟
- إنه بحر مينجا، كما سمعت ..
_ إنها المرة الأولى التي أرى بها بحرا .
ثم أشارت إلى السفينة العمالقة:
- ما هذا ؟
- إنها السفينة التي ستحملنا إلى أماريتا .
- هل ستحمل القافلة جميعها ؟!!
- يبدو كذلك

أجابتها أسيل شاردة كأنها لم تتوقع أن تكون أماريتا بعيدة إلى
هذا الحد، وظلت تنظر إلى العربات التي تتحرك إلى السفينة فتعود
الخيول وحدها مع جنودها، ثم حركت عينيها إلى البحر الذي لا تظهر
له نهاية، وأكملت شرودها حتي لسع قائد العربة خيول عربتها
بسوطه، فتحركت بهم تجاه السفينة، وعبرت اللوح الخشبي ثم
توقفت أعلاها مجاورة لعربات أخرى محملة بسجناء آخرين، وقفز جنديا العربة، وعادا بخيولها مع قائدها، ثم تبعتها العربة الأخيرة،
فانتشر الجنود الأماريتيون حول العربات وثبتوا عجلاتها بحلقات معدنية كليرة تناثرت بسطحها، وأوزيل اللوح الخشبي

السفينة وجسرها، وبأعلي السفينة وقف القائد الاماريتي الشاب،
وودع قائد الحرس البيجاني الذي اصطف بجنوده علي الشاطئ،
قبل أن يلتفت إلى العربات املتراصة حول صارى السفينة، ويصيح
بصوته إلى رجاله :
- فلترفع الأشرعة إلى أماريتا .
******

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now