الحلقة الأربعون

12.5K 868 2
                                    

كانت الخيول تجُر المجانيق المتبقية في طريقها إلى زيكولا حين شق غبارها خالد مُمتَطياً الجواد الأبيض لِحارس كبير القُضاة .. لم يكُف عن الصياح به كي يزيد مِن سرعته .. ظناً مِنه بأن هناك مَن يلاحقه ثمَ توقف حين التَفت ووجد نفسه وحيداً في صحراء زيكولا لا يلاحقه أحد .. فَنظَرَ إلى السماء وحمد ربه .. وجال في رأسه خوف فُرسان زيكولا أن يلاحقوه .. فيُغلَق باب زيكولا وهم بِخارجها دون أن يعبأ بهم أحد .. فيصبحوا بلا مأوى .. فَفضلوا التأنيب لهروب شخص واحد لا قيمة له عن حياة تائهة محتملة حتى ذلك الحارس القوي لم يكن لِيلاحقه بعدما شرع الأماريتي في جز عنق سيده الأماريتي الذي فهِم مقصده حين أبصرا سوياً القاضي يبتعد عن حارسُه وسط الزحام فطرأت بذهنهما فكرة سريعة فرصة لن يجد مثلها مرة أخرى أن تكون عيناَ الحارس مُشتَتة بين الزحام وقاضيه .. والتشتت الذي يخلق الارتباك والضعف في اللحظة الحاسمة .. لم يكن يتوقع أن يضحي الأماريتي بنفسه مِن أجل فِراره بِجواد الفارس .. لكنه قد فعلها وبات خارج زيكولا التي أغلق بابها بعد عبور آخِر المجانيق دون أن يعلم مصير الأماريتي أو أسيل أو زوجته مُنى.. وأكمل طريقه ترشُده الورقة المرسوم بِها الطريق إلى باب زيكولا الآخر هذا الأمل الذي لم يتيقَن مِنه، ثمَ انحرف إلى الطريق الصخري المكسر وعبره إلى وادي التلال وركَض به جواده تبحث عيناه عن التبة التي تعلوها الصخور البيضاء السبعة حتى أبصرها فأوقف حصانه وعبر التبة ليجد المُنخفض العميق فأخرج زفيره مِن هَول عمقه .. وقال: يا الله. ثم أبصر عن يمينه الحافة التي عبرها الأماريتي فاقترب منها ووجدها متأكلة ضيقة للغاية يستحيل عبورها. فقال في نفسه متجهماً: كان الأماريتي يدرك إنني لن أستطيع عبور الحافة حتى وإن عبرَتها ليس لدي أمل يؤهلني لاجتياز ذلك الباب المُنتَظَر.. ثمَ عاد إلى طريق التلال مجدداً وركب حصانه في طريقه نحو وادي بيجاناَ .. الذي رَسم بِموضِع آخر بالورقة كمكان لإطلاق السهام المضيئة .. ودارت كلمات إياد برأسه .. حين قال إنهُ أقرب الوديان إلى بحر مينجا .. فصاح بحصانه لينطلق مُكْملاً طريقه في وادي التلال .. وبعد عشرات الأمتار عبَر عربة الأماريتي كانت تقبع بالوادي دون جواد وواصل طريقه يحيطُه السكون مِن كل جانب .. فبدا يتمتم إلى نفسه: مِن أجل أسيل مِن أجل مُنى مِن أجل الأماريتي مِن أجل إياد مِن أجل قمر ونادين مِن أجل الفقيرة الإكتارية وأبنائها ومَن قبلهم مِن أجلك أنت يا يامن. ومضت ساعات أخرى تحركت بها الشمس مِن مشرقها إلى مغربها حتى حل الظلام فهبط عن حُصانه وَسحَبه سائراً في طريقه دون أن يتوقف يكرر كلماته مِن أجلك يا يامن مِن أجل أسيل مِن أجل مُنى مِن أجل الأماريتي مِن أجل إياد مِن أجل قمر ونادين مِن أجل الفقيرة الإكتارية وأبنائها. داخل زيكولا واصَل الجيش الزيكولي اصطفافه خلف سور مدينتهم وبابها .. مُدعَمينه بِمتاريس حديدية كبرى .. وأعلى سورها تناثر الرماه على مسافات متساوية يمّسكون بأقواسهم مستعدين .. ورحَل عن المنطقة الشرّقية شيئاً فشيئاً سُكانها الذين كانوا قد تزاحموا فجراً على جانبي الطريق فقَل الزِحام وزادت الأحاديث والأقاويل مجدداً عن نصر زيكولا بعد إعتقال مَلك أماريتا هذا الخبر الذي لم يكن لِيصدقوه أبداً مِن قادتهم لولا إنهم رَؤوه بأعينهم بينهم .. يرفع خنجرَه محاولاً ذَبح قاضيهم كبير المجلس الزيكولي .. المخول بأمور الحرب .. وسخِر بعضهم مِن غباء ذلك الملك .. الذي لم يتجاوز ذكاؤه أفّقر أهل زيكولا في إعتقادهم. وفي الطريق إلى المنطقة الشمالية .. سارت عربة خشبية بطيئة يجرها بغلٌ سقيم .. نَحيف مُقرح الظهر .. تحمل أسيل وَمُنى وقمر ومعهم إياد .. لا تحمل غيرهم .. بعدما خشى إياد أن يرى أحد الطبيبة .. ودفع مِن ذكائه خمسين وحدة مقابل هذهِ التوصيلة إلى صاحب العربة .. عجوز ضعيف النظر ظل يفاوضه على ثمن الإنتقال إلى المنطقة الشمالية ساعة كاملة، وغلبهُ النعاس تاركا بغلهُ يُكمل طريقه دون توجيه .. كانت وجوههم جميعاً شاردة .. لا يعلمون ماذا سيحدث خلال أي لحظة مِن اللحظات القادمة .. تتحرك عَربتهم في اتجاه الشمال حيثُ أمل مجهول قد وضعه أمامهم الأماريتي. لم تُحرِّك مُنى عينها المُلتمعة بالدموع عن السماء التي التحمت بالرمال على امتداد بصرها .. ولم تتوقف شفتاها عن التمتمة بالدعاء كي يعود خالد .. ولم يتوقف عقل أسيل عن التفكير بمصير تلك الحرب ومصير الأماريتي الحَبيس بمكان لا تعرفه مثلها مثل إياد الذي نظر إلى سور زيكولا الشاهق بعيدا وقال في نفسه؛ لطالما كنت مليئا بالأسرار ايها السور، وبِجوارهِ قمر التي وضعت ذقنها على ركبتيها المضمومتين إلى صدرِها .. لا يفارق بالها مشهد سيدها مكبلاً مجروراً إلى عربة وسط الفُرسان .. بينما كانت عيناه تنظر واثقة بين الجموع .. باحثةً عن شخص واحد يُطمَئن أنهُ مازال حراً .. نعم .. كانت الطبيبة التي تجلس بجوارها.

في المنطقة الوسطى .. احتشد الكثيرون مِن منتصف النهار حول قصر الحاكم .. تطالب هتافاتهُم بقطع عنق الأماريتي الذي يزحف جيشه نحو بلادهم، كانت أُذُناه تسمع هِتافهُم وصيحاتهِم الحانقة وهوَ يجلس ساكناً مكبلاً بِإحدى غرف القصر .. يقف أمامهُ ثلاثة مِن الفُرسان .. جامدين كَتماثيل .. يعلم في نفسه أنَ الحاكم سيلقاه في أي لَحظة مِن لحظاته القادمة .. ربما تأخر نقاشَهُ مع قاضيه ورجال مجلسه .. بشأن مصيره .. كلما مر الوقت زادت صيحات المحتشدين بالخارج، ثمَ وَجد حارس القاضي يَدّلِفّ إليه .. عابس الوجه .. ويمسك ذراعهُ بِغلّظة دون أن يقولَ شيئاً .. ثمَ جَرَّهُ مِن خلفهِ إلى ممر انتهى بباب خشبي مفتوح على مصراعَيه .. ما إن عَبَرهُ حتى وَجد نفسهُ بِبَهَّو القصر الرئيسي، كان الحاكم الذي رآهُ مِن قبل .. يلّقي خِطابهُ يجلس بكرسي كبير يتوسط البهو .. تُجاوِرهُ مقاعد أخرى على الجانبَين جلس بها رجال المجلس الزيكولي .. الذين أبصرهُم مِن قبل على جانب المِنصة أوقفه الحارس فأشار إليه الحاكم كي يلّتّْفّ بجسده إلى اليسار فحركه الحارس بيده، فَنَظَر الحاكم إلى الوشّم على كَتِفه .. وأشار مجدداً إلى الحارس كي يعيدهُ مُواجِهاً له .. وكانت الصيحات لا تزال بِالخارج .. حين قال الحاكم:

يتعجل شعبي ذبَحُك أيها الملك.

فابتسم الأماريتي وقال:

لَطالَما تعَوَدْتُم الذبح هنا أيها الحاكم

فقال الحاكم وأظهر تعجُبَه:

أعلم أنَ الجيوش والبلدان ترسل جَواسيسَها .. لكن أن يكون الملك ذاتَهُ جاسوس جيشه .. شيءٌ لم أعتدّه.

ثمَ سألهُ بِجِدّية:

لماذا جئتَ إلى بلادي؟

فقال الأماريتي:

كنت أُريد تجنب الحرب فحسّب

فضحك الحاكم ساخراً:

وكيف تَتجنَّبُها إذن؟ .....

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now