دقات مُخيفة ـ الحلقة التاسعة عشر

15.4K 899 26
                                    

كنا نُصارع الوقت بحق .. جسد الطبيبة بات نحيلا للغاية .. شُحوبِها كما هو لم يتغير .. كنت أجلس بجوارها بغرفتها أثناء خِطاب الملِك وعلِمت ممَن حولي إنَ سيدي قد عَزَم على غزو زيكولا مِن أجلها .. وتأكد حَدسي بأنها ستصبح سيدةَ أماريتا الأولى .. قبل أن تخبرني السيدة نجود بعد ساعات مِن الخِطاب بأن أستعد للرحيل مع سيدي والطبيبة على متن سفينة كانت ستغادر شاطئ أماريتا مع غروب شمس ذلك اليوم..

غرُبت الشمس وانطلقت بنا سفينة مَلَكِية عُمالها كثيرون حَمَلتني أنا وسيدي والطبيبة وإثنين مِن حُراس القصر لم يغادروا جِوار عربة خشبية كانت معنا على متنها .. علمت فيما بعد أن أحدهما قد زار زيكولا مِن قبل، وقُسِمّ قبو السفينة إلى غرفتين اتخذ الملك إحداها وأمرني إن أمّكُث بجوار الطبيبة بالغرفة الأخرى .. بعد أن أطمأن أنني أستطيع تثبيت سوائلها المغذية بِذراعها كما علمني طبيب القصر.

و مرت أيام سبعة ببحر مينجا دون أن أعي بم يفكر سيدي أو إلى أين تتجه سفينتنا ما أوقِن أن مَلِكنا لا يضع بباله شيئا سوى شفاء الطبيبة .. وحين أشرقت شمس يومنا الثامن دَلَف إلى حُجرتنا وقال لي دون مقدمات:

اليوم سنصل شاطئ مينجا الشمالي .. ستحملنا العربة إلى مَقرُبة مِن أرض زيكولا .. وسَنتخذ مبيتاً لِأيام بصحرائها حتى يُفتح بابها .. بعدها سنعبر إلى أرضها .. منذ أن تطأ أقدامنا الشاطئ ولم أعُد مَلِك أماريتا .. إنني السيد تميم تاجر الذهب القادم من الشمال إلى زيكولا .. والحارسان معي ليسا إلا مساعديّ.

فأومأت برأسي إيجاباً .. وأدركت سر ذلك الشرود الذي لم يفارق وجهه أيامنا السابقة.

مع غروب شمس ذلك النهار حملنا زورق صغير إلى الشاطئ بينما حَمَل آخر العربة وجواديها والحارسَين .. ثمَ أبحرت السفينة مُبتعدةً عنا وغابت شيئا فشيئا عن أنظارِنا مع إنسِدال ظلام الليل.

بِتِنا ليلتنا الثامنة بخيمة أعدها لنا الحارسان على شاطئ مينجا .. وإبتسمت حين تَذَكرت القافلة التي حملَتني أنا والطبيبة مكبلتين إلى هذا الشاطئ قبل خمسة أشهر .. كانت الطبيبة وقتها تَشُع طاقة وأملاً .. ودارت برأسي كلِماتها إلَي قبل مغادرتنا السجن الغربي بأنَّ أماريتا طريقها إلى سرداب فوريك قبل أن تُعيدها إلى حين غلبني الفضول وسألتها مجدداً بِعربة الفُقراء عن ذلك السرداب التي تحدثت عنه .. فقالت إنا أماريتا ستصبح طريقها إلى زيكولا ومِن ثمَ إلى أرض حبيبها .. لا أعلم إن كانت تدري بأننا نمضي قدماً في ذلك الطريق الذي تمَنته أم لا.

ثمَ بلغت دهشتي ذَروتها وكدت لا أصدق عيني حين نظرت إلى السماء ووجدت ذلك النجم اللامع بها .. أُقسم أنهُ هو ما أرَتني إياه قبل ليلة رحيلنا .. وأخبرتني أنَ حبيبها قد سماه بأسمها .. كان يلمع وحيداً مميزاً كانه يحتفل بعودة سيدته إلى بلاده مرة أخرى.

وفي صباح يومنا التالي وجدت سيدي قد بدل ثيابه العسكرية ليرتدي قميصاً قماشياً واسع الجيب وبنطالاً أسفل عباءة مُزَركَشة ليشبه تُجار بلادنا .. وقاد الحارِسان العربة نحو وادٍ رمليِ امتد بين جبلَين لاحا في الأُفق .. وجلست في صومعة العربة أمام سيدي شارِد الذهن بجواري سيدتي الطبيبة النائمة .. وَكعادته لم يحرك عينيه عنها إلا للَحظات غاب معها نظرَهُ عبر نافذة العربة التي أسرعت بنا تَعبُر سهولاً وودياناً في طريقها إلى صحراء زيكولا..

ومضت ساعات أخرى لم تقف خلالها العربة مرة واحدة .. حتى وصلت بنا أعلى إحدى الهِضاب مع اقتراب الشمس مِن المَغيب .. ثمَ أبطأت مِن سرعتها وتوقفت للمرة الأولى وهبطنَا إلى الأرض .. وبدأ الحارسان يعدان الخيمة مرة أخرى .. بينما حَمَل سيدي الطبيبة بين ذراعَيه وتقدَم بها ثابتاً تجاه حافة الهضبة .. فأسرعت خلفه حتى توقف على حافتها ونظر إلى أسفل بعيداً حيث ظهرت مدينة كبيرة ذات منظر بديع مِن أعلى بِها مبانٍ شتى تتخلَلُها مساحات خضراء كأنها أراضي زراعية ومسطحات مِن الماء يحيطَها سور صخري شاهق فاق كل أسوار المدن الأخرى التي رأيتها مِن قبل .. وبعدما طالت نظرته سمعته يهمِس إلى الطبيبة قائلاً:

تمنيت لو تدركين أين نحن الآن، ثمَ أكمل بعد لحظات:

لنرى ماذا تخبئ لي ولك هذهِ الأرض الملعونة..

كانت المرة الأولى التي أرى بها أرض زيكولا .. لَطالما سمعت عنها وعن لعنتها .. لكنني لم أظن يوماً أن أقترب منها إلى ذلك النحو .. حدَثني شاب بيجاني ذات يوم عن رحلته إلى تلك المدينة .. وعن تعامُلَهِم بوحدات الذكاء دون غيرها مِن البلاد .. وعن يومهم الذي يحتفلون به .. فيذبحون الأفقَر بِها .. فلَعنَتُها في نفسي .. وزاد حبي لبلادي قبل أن تدور الدائرة .. وتصبح بلادي أكثر لعنة وتُرسلِنا إلى أماريتا .. وها أنا أجلس بخيمة على أقرب الهِضاب إليها .. في إنتظار أن تحدُث المعجزة ويُفتح بابُها كما خَطط سيدي..

مَكثنا في خيمَتِنا لِأيام .. يمر وقتنا ببطء .. لم أشهد لهُ مثيل .. لا أذكر أن فارق سيدي حافة الهضبة إلا قليلاً .. كانَ ينظر بعيداً إلى زيكولا ويظل شارداً لِأوقات طويلة .. قبل أن يهبط ظلام الليل فيعود بظَهَره إلى الرِمال ليُحَدق بنجوم السماء حتى يغلبه النعاس .. ثمَ ينهض مع شروق نهارنا التالي .. فيشبه يومنا سابقه .. فإن شَعر بتسرب اليأس إلى قلوبنا اقترب مِنا وحدثنا بأنها ستُفتح بابها .. ثمَ يمسح بيده على وجه الطبيبة ويَهمس إليها بأنها ستنجو..

ثمَ حدث التغير الأول يومنا التاسع .. حين فوجئت بسيدي يصيح فجأة بِثلاثتنا - أنا والحارسَين - بأن نقترب مِن الحافة .. وأشار إلى عَربتين تسيران بطريق يتجه إلى زيكولا .. ثمَ حدث الأمر نفسه في يومنا العاشر والحادي عشر ومرت عربات أخرى كانت أكثر عدداً بالطريق ذاته .. ثمَ انخلع قلبي يومنا الثاني عشر .. حين حاصَرَنا مِن كل جانب صدى صوت لِدقات طبول إنطلقت فجأة مع شروق الشمس .. كان إيقاعها قوياً مخيفاً .. ثمَ توقفت لِتصرخ الأبواق عالياً .. ثمَ دُقت الطبول مرة أخرى إيقاعاً منتظماً رَج صداه الصحراء مِن حولنا .. فوجدت سيدي يقف منتصباً على حافة الهضبة .. لا يحرك ساكناً فاقتربنا منه لنرى رايات حمراء كبيرة قد عُلقت على سور زيكولا .. ولاح بالأفق بعيداً غبار كثيف يتصاعَد إلى السماء تلاشت معه رؤية ما خلفه من سور زيكولا ومبانيها .. فَنَطق الملك هائماً:

- اليوم، كُتبت النجاة للطبيبة...

امـاريـتـا - مڪتملة √حيث تعيش القصص. اكتشف الآن