الحلقة الثامنة والعشرون

12.4K 935 22
                                    

صارت الأصوات خارج الإطار الخشبي أكثر صَخباً .. حين توقفت العربة للمرة الأولى منذ تحركنا .. ورأيت أحذية حُراس باب زيكولا الجلّدية تقترب مِن العربة .. وسمعت صوت بابها يُفتح فحبست أنفاسي وما لبث أن أُغلِق بعدها بِلحظات حتى تحركت العربة مجدداً .. وأكملت طريقها إلى داخل زيكولا.

وتبدل الطريق الرملي أسفَلي إلى طريق مُعَبَد بِقطَع صخرية أسرع معها جواد العربة .. وكاد يسقطّني لولا الوشاحَين المثبَتين أسفَلي .. وإنحَرَفت العربة عدة مرات بشوارع زيكولا قبل أن تبطئ مِن سرعتها وينحرف جوادها للمرة الأخيرة ويتوقف ووجدت الأماريتي يطرق بيده الإطار الخشبي ويقول:

لقد وصلنا أيها الغريب

فإنزلقت بجسدي عن الوشاحَين وزحفت خارجاً، كانت العربة تقف أمام درج بيت يحيطَه سور مِن قوائم حديدية أدركت أننا عبرناه مِن إنحرافها الأخير .. كان الأماريتي ينظر بعيداً كأنه يتَيقَن بألا يَراني أحد .. ثمَ أشار إليَّ بأن أدلُف مُسرعاً إلى داخل البيت الذي فُتِحت بابه فتاة عشرينية لم أكن أعرفها .. ابتسمت وهمست إليَّ فَرِحة:

لم يكُف النجم عن الضِياء ليلة أمس..

ثمَ أشارت إلى غرفة علوية وقالت:

إنها بِالأعلى..

فَرَكضّت أخطو درجات السُلَم الداخلي إلى الطابق العلوي وفَتحت باب غرفتها لِأراها .. كانت نائمة في سكون .. قصيرة الشعر شاحبة .. فقدت مِن الوزن ما جعلها نحيلة للغاية .. وجعل وجهها ضامراً بارز العظام .. فأرتجف جسدي وخَفق قلبي بقوة .. وتقدمت نحوها لا أستطيع تمالُك دموعي .. وجلست بجوارها وأمسكت بيدها وإنهمَرَت دموعي بغزارة حين نظرت إلى وجهها الساكن .. وتذكرت ضحكاتها الجميلة ونظراتها إلى السماء عبر نافذة عربتها بحثا عن النجم أسيل .. وقبَّلت يدها باكياً حين تذكرت كلماتها بأنها لن تُغادر زيكولا إلا لسبب قوي للغاية .. كنت أنا هذا السبب .. فتمّتمت إليها أسفاً .. وكان الأماريتي ومُنى ونادين والفتاه العشرينية يقفون خلفي دون أن أهتم لِوجودهم ثمَ غادرت مُنى وتبعتها نادين .. وظل الأماريتي وخادمته .. فقال الأماريتي هادئاً:

لقد عانت كثيراً ..

فَمسحت دموعي بِذراعي وإلتفت إليه فأكمل:

أحضرت إليها أمهر الأطباء في بلادي لم يستطيعوا فِعل شيء سوى تلك السوائل التي تحمي جسدها .. وأعلنت الحرب على زيكولا .. ثمَ جئت بها إلى هنا خشية أن أفقدها إن طالت الحرب .. وأخرج زفيره وتابع:

لكنني فَشلت في إعطائها وحدات ذكائي .. فقلت بلهجتي الزيكولية:

لست مجرد رسول إذن كما أخبرتني نادين

فقال:

إنني الملك تميم مَلك أماريتا .. وكما وعدت أصدقاءك سأوقف تلك الحرب بعد عودتك

وأكمل:

لقد علمت بشأن قُبلة أسيل إليك

وابتلع ريقه وتابع:

لم يذكر قانون زيكولا شيئا عن معاملات الخائن القديمة .. لا أريد منك سوى أن تُعيدها جزءا مِن ثمن قُبلَتِها تستطيع أن تستعيد به وعيها.

كنت أرى نظراته إلى أسيل كلما تحدث .. فأدركت أنهُ يحبها كثيراً .. وأومأت إليه برأسي موافقاً .. وإلتفت إلى أسيل .. وأمسكت بيدها وأقتربت مِن شفتيها .. لم أكن اعلم كم أمتلك مِن وحدات الذكاء .. لكني حدثت نفسي بأن أعيدها ألفي وحدة مقابل قُبلتها .. كان ضِعف ما دخلت به إلى زيكولا مرتّي الأولى .. دون أن أعبأ بمصيري بعدها، وأغمضّت عينيَ ولامستُ شفتيها.

كنتُ أقف خلف سيدي الملِك .. حين اقترب خالد مِن الطبيبة .. ولمعت عيناي بالدموع حين رأيت دموعَه .. أريد أن أَصيح إليها:

انهَضي سيدتي .. إنَ حبيبك قد أتى.

ثمَ توقف الزمن مِن حولنا .. وسمعت صوت دقات قلبي وأنفاسي حين الّتف اليها وأمسك بيدها وأغمض عينيه وقبَل شفتيها قُبلة طالت تساقطت معها دموعه لِتُلامس وَجنَتيها، فنظَرت إلى سيدي فوجدْته ثابتاً لا يحرك ساكناً .. ثمَ إنتهى خالد .. فأمسَك برأسه .. فسأله سيدي إن كان بخير فأجابه؛ نعم..

وحدَّقنا جميعا بالطبيبة وعاد خالد إلى الخلف خطوات .. وأسند ظهره إلى الحائط، كانت عيناه تنظر إلى سيدتي في ترقب .. وَتُتمِتِمّ شفتاه بكلمات لم أسمعها .. ومرت لحظة وراء أخرى دون أن يحدث جديد، فوجئت به يندفع نحوها مجدداً .. يريد أن يعطيها مزيداً من وحداته .. لولا يد سيدي التي أمسكت بِساعدِهِ و أوقفتْه .. فحاول أن ينتزع ذراعه فصاح إليه سيدي ذاهلاً وهوَ ينظر إلى الطبيبة:

- انظر..

أُقسم إنني لم أُصَدِق عيني .. وسقطت على رُكبتَي أرتجف حين وجدت شفتاي الطبيبة قد صارتا ورديتين اللون غير شاحبتين .. وصرخ لساني دون إرادتي .. ووضعت رأسي بين كَفي يكاد قلبي يقف .. لم أتمالَك نفسي مِن البكاء، واقترب سيدي مِن الطبيبة التي كانت لا تزال نائمة .. واحتضن رأسها .. بينما جثا خالد على ركبتيه .. وأغمَض عينيه الدامعتين .. ودلفت نادين وزوجة خالد إلى الغرفة مجدداً بعد صرختي كانت المرة الأولى التي أرى بها دموع سيدي حين حدثَها:

ستنهَضين وستنعمين بحياتك مَليكَتِي.

كنا ندرك أنَ عقلَها يحتاج وقت تدريجي كي يستعيد وعَيَها .. مثلما أخبرنا طبيب القصر، ووقفت زوجة خالد حائرة تنظر إلى زوجها وتنظر إلى الطبيبة .. وجلس خالد مُسّنِداً ظهرهُ إلى الحائط .. يتمتم بكلماتهِ مرةً أخرى .. وينظر إلى سيدي الذي يحتضن سيدتي ويقبل رأسها .. قبل أن يلتفت إليه ويقول:

إنَ بلادي بلاد كرم .. ستحُل بها أنت وزوجتك وأصدقاؤك .. لكم منها ما شئتم..

فأومأ خالد إليه برأسه إيجاباً .. ولم ينطق كان ينظر إلى الطبيبة فحسب، ثمَ نظر سيدي إلى نادين وقال:

ستطلق السهام المضيئة الليلة .. سَتوّقَف الحرب .. وسيعود إليكِ يامن .. أخبرَني إنهُ يحبك .. فأبتسمت..

كانت أكثر لحظاتنا سعادة .. باتت الأمور واضحة أمامي .. سيدي سيوقف حربه ضد زيكولا .. وسَنُغادر هذا البلد الملعون .. مع عوده جيشها إلى داخل سورها بعد أيام .. وخالد وزوجته قد ينتقلان معنا إلى أماريتا وإن كنت لا أعلم كيف ستعيش زوجته بالقرب مِن الطبيبة .. وقد رأت بعينيها حب زوجها إليها .. والأمر ذاته لِمَلِكُنا الذي لا يعلم بعد رد فعل الطبيبة حين تستيقظ وتجد خالد أمامها، ودق قلبي خشية إن تكون هذهِ اللحظات ليست إلا لحظات خادعة .. تسبق عاصِفة مهلكة .. لن تهدأ حتى تعصف بنا جميعاً......

امـاريـتـا - مڪتملة √حيث تعيش القصص. اكتشف الآن