مضحك ـ الحلقة الرابعة عشر

15.4K 946 31
                                    

اسمي مُضحك، هكذا سماني أبي منذ مَوِلِدي قبل خمسة عشر عاماً، وقد أَختارني صديق شبابه السيد سيمور كي أُرافق رحلته عبر بحر مينجا .. كنت أجلس متشوقا أمام جسر الشاطئ الخشبي في إنتظار عَربته يكاد شَغَفي يصل عنان السماء كلما جال بذهني عبور الريكاتا للمرة الأولى وما إن رأيتها تقترب حتى ركضت إليها بساقي النحيفتين ورحبت بالسيد سيمور وبأبي ثمَ قدت العربة إلى أعلى السفينة بداخلها الطبيبة ..

نعم كنت أعلم إنها أمرأة قبل أن أراها حتى، لقد أخبرني السيد سيمور بهذا السر الذي لم يخبر به والدي حين ألتقيته في ألشميل قبل أن يوصيني بأمر غريب جعلني أظن أن هذا الرجل فقد عقله سأتحدث عنه لاحقاً ولكن عليّ أن أذكر ما حدث منذ شقت السفينة طريقها إلى داخل بحر مينجا.

كان أبي قد حدَثني كثيراً عن قدرات هذا العجوز وبراعته بالإبحار وقد رأيت هذا بعيني فما أن إرتقى السفينة حتى أمسك بِدفَتِها واثقاً كمَن يصغره بأعوام كثيرة وبدأ بنا رحلتنا في ثبات إلى الشمال وتعددت مهامي ما بين تسلق الصاري بين الحين والآخر لربط او حل حبال الأشرعة وتلبية أوامره الكثيرة المتتالية بكل أرجاء السفينة أو الإمساك بِدفَة السفينة وقت راحته أو أقترابه من الطبيبة ليتحدث معها ..

أما الطبيبة فغادرت العربة المثبَتة ثمَ وقفت شاردة الذهن تنظر إلى أماريتا دون أن تُحرك ساكنة لم أدري ماذا يدور برأسها وقتها ولم أقترب لأحدثها أيضاً ولكني لم أزح نظري عنها وأيقنت أن خلف هذا الشرود والتجهُم قصصاً تحتاج أياماً لِسردها بعدما وجدت دموعاً لامعة قد هربت إلى وجنتيها ..

كانت ذكيةً حين إرتدت هذا الزي فكثيراً ما تمُر قوارب قادَة الحرس لتفتيش سفن الصيد خشية أن يهرب الصيادون مِن دفع ضرائبهم عن صيدهم وقد حدث ذلك بيومنا الثاني حين إرتقى السفينة قائد مع جنوده ولم يلتفتوا إلى الطبيبة التي كانت تمسح أرضية السفينة بل سأل العجوز عن العربة والأحصنة فأجابه سيدي بثبات بالغ بِأن تلك السفينة كل ما يملك وما أن يمتلك مكاناً سيترك وقتها ممتلكاته به مشيراً إلى عربته وأحصنتهُ، و غادر القائد السفينة دون أن يدري أن ذلك الفتى الجالس على أرضية السفينة بعيداً ليس إلا أمرأة هاربة مِن هذا البلد وأكملنا إبحارنا تُحرِكنا الرياح في إتجاهنا المقصود ..

وسارت أمورنا على ما يرام وجاء نهارنا الثالث بالبحر وسمعت سيدي يقول للطبيبة إن أمامنا نهاراً آخر لِنصل إلى ريكاتا وفقاً لِسرعة الرياح ذلك اليوم، ثمَ أخبرها بأنه ينوي عبورها ليلاً فدق قلبي فرِحاً وأعجاباً ببراعة هذا العجوز لكن فرحتي لم تدم كثيراً ..

أشرقت شمس يومنا الرابع ولاحظت شحوب وجه سيدي وسقمه عن أيامنا السابقة، حتى إنني سألته أن أمسك الدفَة بدلاً منه لِينال قسطاً من الراحة فرفض وسألني ألا أخبر الطبيبة بشيء وأمرني أن أكمل عملي بنزح مياه الأمواج الواثبة إلى ظهر السفينة، ثمَ لاحظت أنهُ يتحاشى الحديث مع الطبيبة طيلة ذلك النهار وغطى رأسه بقلنسوة كبيرة وكلما أقتربت الطبيبة للتحدث معه كلفها بشيء تفعله بقبو السفينة حتى إن إنتهت سألها قبل أن تقترب منه أن تفعل شيئاً آخر ثمَ ظهرت أمامنا أولى الهِضاب مصطبغة بحُمرة الشَفَق مع غروب الشمس فصحتُ من فوق الصاري:

ريكاتااااااااااا

ثمَ هبطت الصاري قفزاً وأسرعت إلى القبو لأُشعل مصابيحنا فوجدت الطبيبة قد أشعلتها بالفعل وسألتني أن أُعطي مصباحاً لِسيدي فأخبرتها فرحاً إننا في طريقنا إلى أولى هضاب ريكاتا وركضت إلى ظهر السفينة فتركت ما بيدها وركضت خلفي و وقفت بجواري على حافة السفينة تحدق بالهضبة الشاهقة أمامنا أكاد أسمع دقات قلبها مِن الفرحة البادية على وجهها حتى ظننت إنها ستُحضِنني أو تقبلني كما تمنيت بمخيلتي لكنها إلتفتت إلى سيدي الذي لم ينطق بشيء منذ وقوفنا وأقتربت منه بأسارير منفرجة وكادت تحدثه ففوجئنا به ينظر إليها زائغ العينين قبل أن يقيئ دماً أندفع فجأة بغزارة من فمه كان يكفي لِملأ قدراً مِن قدور الطعام ثمَ سقط تاركا دفة السفينة ..

لا أستطيع أن أَصِف تلك اللحظات أذكر أن كل شيءٍ بات سريعاً، ركضت نحوه حاملاً مصباحه ومصباحي ثم تسمرت قدماي بأرضية السفينة أمامه وكان عقلي قد شل وإنسدل ظلام الليل مِن فوقنا فأخفى منظر الدماء المُرَوِع أسفل سيدي القابع على ذراع الطبيبة التي بادت عاجزة أمام سَقَمِه وأكتفت المصابيح بإظهار ملامحنا فسألتها لاهثاً:

ماذا أفعل سيدتي؟

لم تجبني وظلت تحدق بوجهه شاردة ثمَ نزعت قميصها ومسحت آثار الدماء عن فمهِ ورقبتهِ ثمَ وجدتها تنظر إلى السماء وتحدثها بصوت سمعتهُ قائلة:

لا أستطيع أن أُعالجه ساعدني يا رب.

فوجدته ينظر إليها ويقول في إعياء:

يبدو إنها النهاية هذهِ المرة أيتها الطبيبة .. كان حدِسي صحيحاً بإقترابها .. كنت على حق حين بادرت بالأبحار قبل يوم زيكولا لكنه لم يكن كافياً.

تمنيت أن أحقق مرادك ..

فقالت الطبيبة:

عليك أن تهدأ سيدي سيستعيد جسدك توازُنَه وستصبح بخير ستنهض سيدي و ستعود إلى بيتُك ..

لا أعلم إن كان سيدي يمتلك بيتاً آخر .. ما أعلمه أن أبي قد اشترى بيته قبل رحلته هذهِ مقابل السفينة والعربة المحملة بالطعام وأجري، وبَدا أن سيدي لم يدرك ما قالته الطبيبة و وجدته يحدق بعيداً نحو السماء ويبتسم وثبت عينه كأنه ينظر إلى شخص هناك ثمَ زادت أبتسامته ولمعت عيناه بدموعٍ وقال:

إنها مثلكِ هي والخير مجتمعان..

ثم حل صمتٌ مفاجئ فقلت بحذر:

سيدتي

قالت:

لقد فارق الحياة

لحظات صمتٌ أخرى صمتٌ لا أكثر....

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now