باب آخر-الحلقة الخامسة والثلاثون

14.5K 908 6
                                    

كان الطريق يتوسط جبلين شاهقين .. انتصبت حافتيهما بالأسفل عموديتين غير مائلتين .. بينما اقتربتا بالأعلى كلما ارتفعا .. حتى صارتا كأنهما متلاصقتين عند قِمّتَيهِما كأنهُ جبلٌ واحد شُق مِن منتصفه لِيمتد هذا الطريق.

و إنحرف الأماريتي بعد أمتار مِن رَكض حصانه بداخله .. فاختفى مدخله مِن خلّفِه وخفف مِن سرعة جواده حين بدا الطريق في التعرج والانحراف بشدة .. وبات في تعرجه يشبه مسار الثُعبان .. وبين حين وآخر كان الأماريتي ينظر إلى السماء عبر الفرجة العالية الضيقة بين قمتَي الجبلين لو أسقط أحدهم صخرة مِن أعلى لقتلَته، ثمَ أوقف حصانه حين وَجد جمجمة شخص تظهر منغمسة بِرمال على جانب الطريق وأدرك أن بقية عظام ذلك الميت تقبع بجوارها أسفل الرمال بعدما لَمحَ عظمَه أخرى منغمسة بجوارها، فجال بخاطره عربة كبرى مزدحمة بعشرات مِن العرايا .. مات أحدهم فتوقفت جياد العربة ليلقى به على جانب الطريق، ثمَ أكملت سيرها دون اكتراث حتى أنَ عربة أخرى دَهَسَت جثتَه .. فضحك قائدها مُقهقها وسط نظرات خائفة مِن أطفال مكبلين الأعناق داخل أقفاّص العربات تنظر أعينهم مُرتَعِدة إلى هذا القتيل الذي عرفوه بينهم يوماً ما.

و مضى وقت طويل دون أن يجد لهذا الطريق نهاية .. ونظر إلى السماء فعلم أنَ الشمس في طريقها إلى الغروب فأسرع مِن سرعة جواده .. ثمَ اصطبغت السماء بحُمرةِ الشَفَق .. حين أبصرت عيناه فُرجة بين الجبلين أدرك أنها نهاية هذا الطريق، فانطلق الجواد نحوها وما إن عَبرها حتى أوقف حصانه فجأة حين وَجد أمامه سهلاً رملياً آخر يمتد باستواء إلى سور شاهق اصطبغت صخوره الضخمه هي الأخرى بحُمرة الشفق .. لم يكن إلا سور زيكولا.

ترجل الأماريتي عن جواده، ونظر بعيداً إلى السور الشاهق أمامه، كانت الجبال تجاوره عن يمينه وعن يَساره، لا تسمح بمرور عربات او جياد، عدا تلك الساحة المنبسطة من السهل الرملي الممتد من الطريق الثعباني الذي قطعه بين الجبلين، ثمَ توارى بجسده حين لَمح جندياً يظهر ضئيلاً أعلى السور الشاهق.

وانسدل ظلام الليل .. فترك جواده نائما في موضعه، وجلس مُسنداً ظهره مثنياً ركبتيه يُحَمِلِق بالسور أمامه .. الذي بدا مانعاً هائلاً مِن السواد أسفل ضوء القمر الذي كان أحدباً، ثمَ مرت غيامة خَفَّت معها نور القمر فنهض مسرعا ورَكَض مثنياً جذعه تجاه السور، وحين اقترب منه لاصقه .. وتحسس صخوره .. تبحث يده عن باب لم تره عيناه لكنها كانت جميعها صَخرية .. لم يختلف ملمَس إحداها عن الأخرى فعاد ركضاً إلى موضعه حين خَفَت ضوء القمر مع غيامةٍ أخرى وجلس موضعه موارياً جسدهُ بمَخرج الطريق الثُعباني .. و واصل حملقتهُ بِالسور المظلم دون أن يُغمِض له جفن ولأن ضوء القمر لم يصل إلى الطريق الثُعباني المتَعرِج .. وبات ظلامه حالِكاً عزَم على أن يبيت ليلته على أن يعود أدراجه مع الفجر.

ثمَ غلبهُ النعاس مع منتصف الليل، لم يفتح عينيه إلا مع بزوغ النهار، حين سَمع صهيل جواده فتَلفت بجانبه .. فلم يجده راقداً موضعه كما ترَكه ليلاً، فتلفت بعيداً بعَين نصف مُفرجة .. فوجده يتمشى ببطء يأكل مِن أعشاب نبتت بالقرب مِن سور زيكولا، فوثَب مِن مرقده ونظر إلى الجندي الواقف بالأعلى وكاد يركُض إلى حصانه لِيعود به ففوجئ بجندي آخر يظهر أمام حصانه ويقترب منه ببطء ثمَ إنقض عليه وأمسك بِلجامه .. وصاح إلى الجندي بِالأعلى فرِحا:

سنَتقاسم ثمنه مِن الوحدات..

ثمَ إمتطاه هابطا إلى داخل الأرض عبر باب أرضي مائل كبير أغلق بعدما إختفياَ بداخله محدثاً صريراً سمعه الأماريتي .. فهمس إلى نفسه:

جندي واحد قد يغير مسار حرب كاملة .. المجد لِطمع أهل زيكولا الأغبياء..

ثمَ عاد بِظَهِرِه خطوات إلى داخل الطريق الثُعباني .. قبل أن يلّتف وَيركض بِأقصى سرعة في اتجاه المُنخفَض الصخري.

كان الضباب كثيفاً حين أشرقت الشمس .. لِترسل إشعتها فوق ساحل بحر مينجا وأعلى قمة عالية .. وقَف جندي زيكولي نَحيف جاحظ العينين بين مجموعة مِن الجنود إعتلى كلٌ منهم قمة جبل مِن جبال الشاطئ التي ابتعدت عن ساحل مينجا الشمالي عشرات مِن الأمتار، اصطف بها جنود زيكولا مزدحمين خلف مَتارِيّسهِم الأمامية .. وَأمام مجانيقهم التي تناثرت متوازية يفصلها أمتار قليلة قبل أن ينقَشِع الضباب رويداً رويداً لِيتقلص وجه الجندي فجأة .. ويزداد جحوظ عينيه غير مصدِق ما يراه .. وفرك عينه المحمرة وعاد لِينظر بعيداً ثمَ صاح إلى جندي مِن خلفه ذاهلاً؛ انظر..

فاقترب صاحبه مِن الحافة .. وابتلع ريقه خوفاً .. واضطرب وجهه .. حين وَجد لون مياه بحر مينجا الزرقاء بعيداً .. قد تحولت إلى لون أسود لامع كان يقترب ببطء .. في اتجاه الشاطئ على امتداد عرض الساحل.

لم يكن ذلك السواد إلا اسطول الأماريتي .. الذي تجاوزت أعداده ألفي سفينة .. اصطفت جميعها في عشرات الصفوف لِتُبحِر في اتجاه الشمال تحمل كل سفينة مائة وخمسين مِن الجنود بِأسلحتهم ودروعهم .. تتقدمهم سفينة القائد جرير الذي وقَف بخوذَته ثابتاً بمقدمتها .. وتحمل سفن الصفوف الوسطى مئات مِن الجياد مع عشرات الجنود وفي الصفوف الخلفية .. اصطفت سفن كبرى يتوسط سطحها أبراج حديدية شاهقة بلغ أرتفاع قوائمها خمسة عشر مِن الأمتار كانت مجانيق أماريتا .. التي يبلغ إرتفاعها مرة ونصف مثل ارتفاع مجانيق زيكولا، واصطَف خلف كل منجنيق طاقمه المكون من ثلاثين جندياً جميعهم طوال القامه وأقوياء البِنية.

و على متن سفينة بالصفوف الأمامية صاح صبي داكن البشرة تسَلق الصاري بساقين نَحيفتين إلى الجنود المصطفين بدروعهم وخوذهم ورمحهم أسفله على سطح السفينة:

الشاااااااطئ

فصاحوا في حماس وضربوا برماحهم دروعهم، وواصل تحديقهُ فرحاً إلى جبال شاطئ مينجا الشمالي .. التي ظهرت مع زوال الضباب .. لم يكن إلا الفتى مضحك .. الذي تشبث بأعلى الصاري منذ عبور السفن هضاب الريكاتا مِن أجل مهمة واحدة .. كُلِّف بها مع آخرين اعتلوا صواري سُفُنهِم كانت ترقب السِهام المضيئة بِالسماء.

وفي الطريق الثُعباني الضيق كان الأماريتي يواصل رَكضَه قبل أن يتوقف لِيلتقط أنفاسه للحظات نظر معها إلى السماء عبر الفُرجة بين قَمتَيّ الجبلين، ثمَ أكمل رَكضه مجدداً في اتجاه المُنخفَض الصخري.....

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now