الحلقة الثامنة والثلاثون

12.8K 902 3
                                    

خرجنا جميعاً إلى شوارع المنطقة الشرَقية .. كانت المرة الأولى التي أُغادر بِها ذلك البيت منذ دخولي زيكولا قبل أيام .. كانت نادين مُحِقةً بأن نغادر قبل دلوف الجند إلى البيوت .. وأن نتوارى وسط هَرَجّ أهل زيكولا المتزاحمين .. خاصةً أنَ الحاكم قد أمَر بِتَوفير عربات خشبية تنقل أهل زيكولا بعيداً عن المنطقة الشرَقية دون مقابل .. كنا في حاجةٍ إلى كل وحدةِ ذكاء .. كانت أسيل لا تزال تثق بي .. وأعلم أنَ مُنى تثق بي هي الأخرى .. وإن لم تنطق بِشيء .. الآن لم يعُد لنا سبيل إلا إيجاد ذلك الباب .. قبل أن يُمّسِكوا بنا أو نُقتَلّ مثلما فَعلوا مع يامن..

كنا نسير بين الزحام .. تُمّسِك مُنى بيدي وَتَمّسك قمر بيَد إياد .. وتتحرك أسيل مِن خلفنا ببطء يجاورها الأماريتي الذي كان يتحرك مُتألِما بعد تَورُم كاحله، ومِن أمامِنا سارت نادين .. وكنا نتوقف إن توقفت أسيل تعباً .. ثمَ نكمل طريقَنا .. كانت المرة الأولى التي ألمح بها الخوف على وجوه أهل زيكولا لَطالما سمعت على مدى أوقاتي هنا عن قوة الجيش الزيكولي التي وصلت إلى حد الغرور .. فإستخدمَه الأماريتي سلاحاً له .. لولا هذا الغرور لَما فُتِح بابها لِيَدلُفّ بِأسيل إلى زيكولا، دهاء مَلك واحد هزَم كل هؤلاء القادة المتعجرفين الأغبياء.

تقدمت بنا المسيرة إلى الطريق الرئيسي .. الممتد مِن باب زيكولا .. كانت العربات الخشبية على مقرُبةٍ منه .. تُحَمِّل صناديقها الضيقة بعشرات مِن الرجال والنساء والأطفال قبل أن تنطلق جيادها مبتعدة عن المنطقة الشرَقية .. يحمل كل منهم ما يستطيع حمله مِن أثاث بيته .. ويحمل بعضهم أجولة ممتلئةً عن آخرِها .. حين أسقطت إمرأةٌ جوالَها مِن أعلى العربة وسُكِبَت محتوياتهُ كانت ثياباً إنقض عليها الواقفين لاغتِنامها مُتنازعين حتى مُزِقت منهم دون أن يَعبَئوا بِصُراخ السيدة ولم تتوقف النزاعات عن الإشتعال بِجوار العربات، ما إن يَجذِب أحدهم جوال الآخر .. تُسّكَب محتوياته على الأرض .. ثمَ يدُب العراك .. ويسرع آخرون لإقتناص ما أسقطته الأجولة إن كانَ طعاما فيُسرعون لِنَفض التراب عنه وإلّتهامُه.

لم أرَ مِن قبل خوف وجوه أهل زيكولا مثلما كنت أراه تلك اللحظات أسفل أنوار المشاعل .. زيكولا القوية التي تُباهي أهلَها دوما بقوتها .. بات أهلها عند أول اختبارٍ حقيقي وجوها ذابِلَة مصدومة تخشى لحظاتها القادمة، أرض الرقص والاحتفالات لم تعُد إلا أرضً لِلخوف .. أعلم إنهم يلعنون أسيل في داخلهِم .. منذ تَسربت إليهم الأخبار إنَ الأماريتي قد أشعل هذهِ الحرب مِن أجلها .. لكنهم قد تَجاهَلوا عمداً إنهم مَن إقتنصوا ذكاءها كاملا دون أن تضر واحداً منهم يوما..

على مدار مسيرتنا .. كانت الأحاديث و الإشاعات تَتنَاقل بِجوار مسامعنا .. مَن يقول أنَ بحر مينجا صار لوناً أسوداً بِالكامِل .. وَسيسمى قريبا بِالبحر الأسود .. ومَن يقول أن كُرات مجانيق أماريتا تصل إلى الشمس .. أدركت وقتها أنَ هزيمة زيكولا صارت مسألة وقت ثمَ أوقف تفكيري بوقً أُطلق عالياً .. فقالت لي نادين وَهيَ تنظر إلى الأماريتي وقمر:

الآن حكِم عليهما بِالبقاء في زيكولا .. لقد عادت طلائع الجيش الزيكولي .. لن يُسمح لِأحد أن يغادر الباب مجدداً..

كنا قد توقفنا بين أهالي زيكولا المتكدسين على جانِبَي الطريق في انتظار عربات تَتجه إلى المنطقة الشمالية، بعدما غادرت جميع العربات ممتلئة عن آخرها .. ثمَ مرت الجماعة الأولى مِن فُرسان زيكولا .. كان التجهُم والشرود على وجه قمر بادياً .. غير أنَ وجه الأماريتي لم يتبدل .. لا أعلم إن كان يثق بِجيشه الذي سيقتحم هذا السور مِن أجله .. أم أنهُ سعيد لبقائه بِجوار أسيل .. كانت نظراته إلى الجنود العابرين ثابتة .. شعرت أنهُ يفتخر بقوة جيشه التي أعادت أولئك المغرورين إلى جُحرهم مجدداً، الآن باتَ الأمر محسوماً .. لن يهدأ الجيش الأماريتي حتى يستعيد مَلِكه الذي يقف بجواري .. سيأتون مِن أجله لا مَحالة..

لم تأتي العربات الخشبية المتجهة إلى المنطقة الشمالية مجدداً .. وغادرتنا نادين .. ولوحت إلينا بيدها بصعوبة .. وهيَ أعلى عربة مزدحمة بِالرجال والنساء .. بدأت طريقها إلى المنطقة الجنوبية .. كانت عيناها تَلّتمِع بالدموع لِفُراقنا .. لم تعُد الفتاه ذاتها التي قابَلّتُها قبل أشهر بِالمنطقة الشمالية..

ثمَ اقترب الفجر مِن البزوغ .. وكان الجنود المُشاه لا يزالون يعبُرون إلى داخل زيكولا .. بعضهم جرحى تفوح رائحة الحريق مِن ثيابهم .. حين همس إليّ الأماريتي وأشار بعينه إلى فارس شاب حَليق الرأس بِجوار عربة خشبية فخمة خرج منها ثَري مُسن مُتورِد الوجه يرتدي عباءة ثمينة .. وقال:

كبير القُضاة وحارسه..

كان القاضي على نفس الجانب الذي نقف به .. يتحدث إلى المُتزاحمين مِن حوله يُطَمّئنهم بِأن عَوّدةِ جيشهم ليست إلا لتحقيق نصرٍ حتّمي .. ويحفزهم واثقاً بِأنْ لا يخشوا على جيشهم القوي .. وأن يكُفوا عن نقل الإشاعات التي ستعصف بهم، كان حارسه صارم الوجه .. يمتطي حصاناً أبيَضاً مُميزاً عن بقية الجياد التي رأيتها في زيكولا .. كانت عيناه تَتقلَّب بين جميع الوجوه مِن حولِه.

ثم إنتهى عبور الجنود المشاه .. وكانت المجانيق في طريقها لتعبُر سور زيكولا .. كان غبارُها أمام الباب المفتوح على مصراعَيه واضحاً بعيداً مع زوال ظلمةِ الليل، ونظرتُ إلى الأماريتي فَرأيته يُحدق بِالحارس أيضاً .. وسألّته هامساً حين خطرَت بِبالي فكرة مفاجئة:

لماذا عدت؟

قال:

إنني أفي بوعودي..

ثمَ شعرت أنَ ما فكرت به قد جال بخاطره هو الآخر .. فسألّته مجدداً وأنا أنظر إلى مُنى وأسيل:

هل تثق بجيشك؟

فأومأ لي برأسه إيجاباً .. فقلت وأنا أثِق بك أيها الملك

فقال:

وأنا أيضا .. أثِق بك

فتيقنّت أنهُ أدرك حقاً ما أُفكر به .. ثمَ تحرك ببطء تجاه كبير القُضاةِ وحارسِه .. وتحركت مِن خلفهِ تاركاً مُنى وأسيل وقمر مجاورين لِإيّاد الذي إندهش مِن تحركِنا المفاجئ سوياً بين الزحام ومبتعدين عنهم.....

امـاريـتـا - مڪتملة √Where stories live. Discover now