الفصل الحادي عشر

1K 50 26
                                    

الفصل الحادي عشر

قرر أن يكتفي بهذا القدر من السباحة وخرج من البحر ليجدها تجلس على الشاطيء تبني قصرا من الرمل، يعلم جيدا أنها لو كانت بكامل صحتها لما خرجت من البحر إلا بعد غروب الشمس، لكنها اكتفت بالجلوس على الشاطيء لتداعب قدميها مياه البحر بعد أن حرمت من الاستماع به.
وقف  قليل يتطلع إليها وهو يعدل شعره ثم جلس بقربها وهدم القصر الذي كانت تبنيه
حاولت إزاحة يده
وهي تقول بغضب طفولي:
- توقف نادر كدت أن انهي القصر لا تكن فظا
قهقه وهو يزيح يدها و يتابع مايفعله قائلا:
- هذا ليس قصرا بل منزل للنمل عزيزتي انتظري وسترين كيف تُبنى القصور.
وقفت وضربت بقدمها في الأرض وقالت بغضب: 
قلت توقف نادر أحذرك لا أريد مساعدتك لست عاجزة لكي تبني لي قصرا من رمل!
رفع رأسه ليصطدم بالدموع التي ملأت عنيها وأنفها الذي تحول للون الأحمر وقد أنذر وجهها بأنها ستدخل في نوبة بكاء!
تركته وأسرعت ناحية الشاليه الخاص بهم، حاول أن يلحق بها لكن صوت والده أوقفه؛ أشار له والده أن يجلس بالقرب منه ففعل بعد أن وضع منشفة كبيرة على كرسي البحر وجلس عليه ممدا قدميه.
دون أن يلتفت له قال والده بصوت هادئ:
لم تجد شخصا مطابقا بعد؟
هز نادر رأسه بعلامة النفي، ليشعل والده سيجارة ونفثها عدة مرات قبل أن يتابع:
حالة نورهان تتأخر وللأسف لم أستطع أن أجد لها فرصة العلاج بالخارج مرة أخرى، كما أن إيجاد متبرع هنا أمر شبه مستحيل، لا أعرف ماذا أفعل؟
بلع نادر غصة مرة ثم لبس نظارته الشمسية كي يداري عينيه التي بدأت تتسلل لهما الدموع وقال: لا تقلق سوف أجد مطابقا لها قريبا.
سحب والده نفسا آخر من سيجارته وقال: وعندما تجد كيف سندفع له ثمن الكلية؟
أم أنه سوف يعطيها ابتغاء مرضاة الله؟!!!
عقد نادر حاجبيه فهو لم يفكر في قصة المال هذه أبدا، كل تركيزه كان منصبا على وجود متبرع مطابق، كيف لم يفكر بأن ذلك المتبرع يرغب في قبض الثمن؟
هل نسي ما حدث مع ذلك الذي كاد أن يكشف خطته؟ ألم تدفع له فتنة مبلغا كبيرا من المال كي يبتلع لسانه ولا يتحدث أمام صديقتها؟
عدل من رقدته عندما تذكر تلك الحادثة وارتسمت ابتسامة ماكرة على وجهه، لقد وجد من يدفع له ثمن الكلية، المهم أن يضمن ولائها له.
عاد ليستلقي على كرسي البحر ، قائلا لولده بثقة:
لاتقلق يا أبي، دعنا نجد المتبرع فقط والباقي  تشغل بالك به.
بات يعرف مكانته عندها وأنها مستعدة لفعل أي شيء يطلبه منها ، كما أنه تأكد من حالة والدها المادية وكم صعقه ذلك، لم يكن يدري بأنها بهذا الغنى أبدا، صحيح أنها ترتدي مصوغات ذهبية غالية لكنها لا تمتلك أي ذوق كما أن الحي الذي تسكن به يعتبر نوعا ما شعبي؛ كل شيء بتلك الفتاة عكس الظاهر لا يعرف إذا كان هذا يجذبه لها أو ينفره منها؟
رغم مرور عدة أشهر على علاقتهما غير محدودة التسمية ورغم أنه لمح لها بالزواج وهي وقعت بالفخ فورا، لكنه يشعر ببعض الانجذاب لها ليس بسبب جمالها و أنوثتها الطاغية فقط، لا يعرف بالضبط السبب الحقيقي ربما ذلك العشق الذي يراه في عينها الموجهة له وحده؟
أو ربما استماتتها في تلبية جميع طلباته مهما كانت، صحيح أن تلك لم تكن مشكلة بالنسبة له فقد تعود أن يسحر الفتيات ويجعلهن ينفذن طلباته بسهولة، لكنها أحيانا تسعى لتلبية طلباته قبل أن يطلبها حتى!
لا يعرف إذا كان حب أم هوس به ؛ في الواقع لا يهتم بذلك كثيرا لأن المهم أن تنفذ مايريده وينقذ شقيقته.
مد يده والتقط هاتفه النقال ليجد أنها اتصلت به عدة مرات وبعثت رسائل أيضا، فكر بالرد عليها لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة و وضع الهاتف في مكانه السابق وهو يفكر بابتسامة واسعة:
الطبخة لم تجهز بعد لندعها على النار قليلا.
في نفس الوقت كانت فتنة تغلي وهي تحاول منذ الصباح الاتصال بنادر دون فائدة، فقد أخبرته سابقا بالحديث الذي دار بينها وبين لينا وأن لينا هددتها، لكنه لم يفعل شيئا بل الأسوأ أنه ذهب في إجازة مع أسرته وتركها تحترق لا تعلم ماذا تفعل.
لاحظت جيهان تقلب مزاج فتنة لذلك أصرت أن تبقى معها حتى تتجنب الاصطدام مع شقيقها
جهزت الغداء ونادت عليها لكنها لم تسمعها لذلك ذهبت للشرفة حيث تقف لتجدها تجلس و تعصر الهاتف بيدها وهي تطلق سبابا بصوت منخفض
تراجعت جيهان خطوتين للخلف وقالت:
. فتنة الغداء جاهز
انتفضت فتنة واضعة يدها التي تمسك بالهاتف على صدرها ثم استقامت بسرعة لتجد عمتها تقف أمامها، رسمت ابتسامة متوترة وتخطتها لتدخل للصالة ، تبعتها جيهان وهي عازمة على معرفة سر تلك الفتاة.
حاولت فتنة إبعاد الشبهة عنها بالحديث عن منار و ماحدث بعد اجتماع العائلة بالتفاصيل المملة، لكن جيهان لم تعلق ولم تسأل حتى عن وضع منار و رأيها فيما حدث، بل كانت تأكل دون أن تنظر لفتنة كأنها تنتظر انتهاء فقرة أخبار الطقس المملة
ادعت فتنة أنها تريد تنظيف الطاولة والمطبخ لكن جيهان نهرتها لأن الخادمة موجودة بل طلبت منها أن تجلس أمامها فورا.
بقلب يدق بقوة كطالب بليد يقف أمام المدير ينتظر أن يعطيه ملفه كانت فتنة ترتعش من الداخل، لا تعرف ماذا تقول وأي كذبة ستألفها كي تقنع عمتها بأن لينا تتخيل وأن نادر ليس له دخل في الأمر.
جلست جيهان أمامها واضعة ساق فوق الأخرى وقد تأكد حسدها بأن هناك كارثة تخفيها ابنة شقيقها.
بصوت هادي مرعب لفتنة قالت:
هاتي ماعندك دون كذب.
ازدرت ريقها في محاولة منها لتلملم أعصابها ثم قالت بصوت مهزوز:
نادر.... اتصل به ولا يرد علي، أنا لم أره من قبل حفل خطبة منار كنت مشغوله معها و أخشي أن.....
لم تكمل كلامها بل انهارت في بكاء حار، صحيح هذا ليس سبب خوفها لكن جزء مما قالته حقيقيا لذلك صدقتها عمتها فنبرتها كانت صادقة جدا و دموعها كذلك.
زفرت جيهان و ناولتها علبة المناديل وهي تقول: -اسمعي فتنة أعلم ما تمرين به كونه لم يجب على اتصالاتك، لكن هذا ليس سببا كي تنهاري بهذا الشكل أو تمضي أكثر من يومين في التوتر والحزن، في النهايه قصتكما ليست بتلك العمق أعني كم مرة تقابلتما ؟
  سكتت قليلا لتعطيها فرصه لايستهان ثم تابعت بنبره اقل حده:
-أرى أنك تكبرين الأمور، ربما هو يعتبرك صديقة ليس إلا، كما فهمت منك هو لديه صديقات كثيرات من الجنس الناعم، إذن لماذا أنت متأكدة بأنك مميزة لديه ؟!
رمشت فتنة عدة مرات وهي تنصت لعمتها لتكمل الأخيرة: 
قبل أن تنهاري بهذا الشكل عليك أن تتأكدي من مكانتك عنده و مكانته عندك.
ردت خلفها:
مكانته عندي؟
هزت جيهان رأسها وهي تؤكد على كلامها:
نعم مكانته عندنك، هل تحبينه أم هو مجرد إعجاب؟
ضعي في بالك أنك لم تدخلي علاقة حب حقيقة، كل ما مر عليك كان علاقات عابرة لم تصل للجدية أبدا بل إنها لم تكتمل لأنك شعرتِ بالملل وعدم الرغبة في التقيد حسب ما أذكر!
مسحت دموعها وهي تقول:
لا أنا متأكدة من مشاعري ناحية نادر، إنها مشاعر حب حقيقي وليست مجرد إعجاب.
تنهدت جيهان ولم ترد، فقد تيقنت بأن فتنة متعلقة جدا بذلك المدعو نادر وأي كلام يتفه مشاعرها له سوف يؤدي لنتيجة سلبية.
تركتها دقائق ثم قالت وهي تعود بذاكرتها لأكثر من عشرين عاما مضت:
تعرفين أنا لم أعرف بأني أحب إبراهيم إلا بعد سنتين من اعترافه هو لي بحبه!
ظهر الانتباه على وجه فتنة لتتيقن جيهان بأنها نجحت في مسعاها
تابعت قائلة:
في البداية لم أكن مهتمة به رغم أنه لفت انتباهي بوسامته، لكنه عكس معظم الشباب الذين في الكلية معنا لم يكن يهتم بالفتيات ولا حتى السهرات وغيره، في السبعينات كانت الأمور مختلفة عن الآن معظم الطلبة الوافدين كانوا يستغلون الوقت كي يلهون ويفعلون أشياء بعيدا عن أعين أهلهم ، لكن إبراهيم لم يكن ضمن تلك المجموعة بل إنه دائما في سعي لتطوير نفسه، تعرفين كنا دائما نلتقي في دورات اللغات خارج أسوار الكلية، وهذا قوى العلاقة بيننا وأصبح لدينا ذكريات معا، رغم أني كنت أيضا لا أرغب في إقامة أي علاقة تعطل دراستي من جهة أو تجعل جمعة ينفذ تهديده من جهة أخرى.
قاطعتها فتنة متسائلة:
أي تهديد، هل كان والدي يهددك لا يمكن أنتما دائما على وفاق دائما.
ابتسامة هازئة ارتسمت على وجهها قبل أن تجيبها: 
على العكس أنا وجمعة كنا دائما على خلاف ولم نتفق أو بالأحرى لم يكف جمعة عن مضايقتي و تصيد الأخطاء لي إلا بعد موت أمي ؛ أبي رحمه الله لم يكن يرفض لي طلبا وعندما تحصلت على مجموع عالٍ وقررت الدخول لاختصاص الاقتصاد والعلوم السياسية وهو غير موجود في مدينتنا وافق فورا لكن جمعة عارض كالعادة ليس لشيء سوى أن يضايقني ويمنعني من ما أحبه، وقد تطور الأمر بعد أن أخبره أصدقاؤه أن الفتيات في العاصمة منحلات وأني سوف احذوا حذوهن حتى أن أمي وقفت في صفه كالعادة، لكن أبي وقف ضدهم وأصر أن ألتحق بالكلية كما أرغب و بدأت الدراسة فعلا؛ وقتها جمعة لم يتركني وشأني بل كان يأتي للتأكد من سلوكي وأني لا أفعل ما يخدش رجولته.
كانت فتنة تستمع لكلام عمتها باندهاش، تارة تشهق وتارة تشعر بالحماس دون أن تتدخل في الحديث.
أخذت نفسا عميقا قبل أن تكمل:
كنت أشعر بأني تحت المجهر، كل خطوة أخطوها مراقبة تعرفين كنت أتجنب عمدا أن أتحدث مع زملائي الذكور حتى لا يراني ويفتعل فضيحة ليمنعني من متابعة دراستي، قد يكون ذلك هو السبب الذي جعلني لا أرى إبراهيم أو أنتبه لمشاعري ناحيته التي نمت بداخلي دون إرادة مني.
بنبرة حالمة سألت فتنة التي نفضت عنها حزنها قائلة:
كيف نمى حبك له وأنت لا تتقابلي معه أو تتبادلي معه الحديث؟!
نظرت لها وقالت وهي تغمز بعينها:
ومن قال أني لم أتبادل معه الحديث؟
أخبرتك أني كنت آخذ دروس للغة حيث أني لم أكن أتقن اللغة الأجنبية مثل باقي الطلبة وقد تصادف أن إبراهيم مثلي وقد تشاركنا في جميع الفصول بعدها دون أن يعلن أحدنا للآخر بأنه تعمد ذلك.
اتسعت ابتسامتها و أكملت ، كانت لقاءاتنا بريئة لا تتخللها أي أحاديث تدل على مشاعرنا، فقط ما يحدث في يومنا وبعدها تطورت لتشمل ما نحب في العموم وما نكره ثم تبادل الكتب الدراسية في البداية ثم تطورت لتشمل كتب تاريخية أو فلسفية كما يحب إبراهيم ، وبعد سنتين من اللف حول أنفسنا وجدت إبراهيم يأتي في يوم ويخبرني عن عاداتهم و أنه من المفترض أن يتزوج قريبته بعد أن يتخرج من الكلية لكنه قرر ألا ينفذ ما تريده عائلته لأنه يحبني ويريد أن يتزوجني.
رفعت فتنة يدها للأعلى وهي تقبض على كفيها وقالت بمرح:
هياااااااا
ضحك جيهان على ابنة أخيها المراهقة والتي تعتبر بأن ما يحدث فيلما رومانسيا تشاهده
تابعت وهي تتأمل عينيها التي تلألأت بنجوم السعادة قائلة:
في البداية لم أجاوبه بل هربت من أمامه، ولم أخرج من سكن الطالبات لمدة يومين بعدها، راجعت خلالها مشاعري ناحيته و رغم أني لم أكن من محبي الارتباط برجل من بلد آخر خصوصا بلد إبراهيم بسبب ما أسمعه عن عاداتهم الصعبة وتعاملهم مع زوجة الابن من بلدنا؛ ربما لو كان من دولة أخرى كان الأمر أسهل عندي لكن مسألة أنه مكتوب لابنة عمه جعلتني أتريث في اتخاذ قراري، وقد صبر إبراهيم علي كثيرا ولم يتعجلني، صحيح أنه زا د في دلاله لي و أغدقني بحبه لكنه لم يضغط علي بطريقة مباشرة على الأقل
بحماس قالت فتنة وهي تضع قدميها أسفل منها على الكرسي:
ومتي اعترفتِ له بحبك ، أريد التفاصيل هيا عمتي.
سرحت بعينها  وهي تتذكر تلك التفاصيل التي لم تحكها لأحد، كأن هذه التفاصيل تعويذة سحرية لو عرفها غير أصحابها تضيع وتفقد سحرها للأبد
أخذت تدق على جانب رأسها بسبابتها كأنها تحاول التفكير أو التذكر قالت:
اممم نسيت التفاصيل ربما عندما يعود إبراهيم يساعدني في تذكرها.
ظهر الإحباط على فتنة لتسرع جيهان قائلة: -المهم أني عندما تأكدت من مشاعري ناحيته وقبل الامتحان الأخير عندما قدم لي كوب القهوة مثلما يفعل كل مرة لمدة سنتين وسألني إذا كنت أوافق على طلبه الزواج مني والباقي تعرفينه.
وضعت فتنة يدها على قلبها بطريقة مسرحية وهي تقول:
كم هو جميل الحب؛ تغيرت نبرتها وهي تسأل : -لكن كيف لم يعرف أبي بخروجك معه أعني علاقة طوال سنتين وخروج وهو يراقبك كيف لم ينتبه؟
هزت كتفيها و أجابتها: 
كما اخبرتك في أول سنتين كنا لا نخرج معا دائما في حدود الدراسة، أحيانا نقف أمام الكلية كي نشرب عصير أو نأكل من عربة طعام لكن ليس بطريقة ملفتة أو حميمية أبدا، بل مثل كل الطلبة، وهذا جعل جمعة يخفف محاصرته لي خصوصا أني لم أبقَ في العاصمه يوم زيادة بعد انتهاء الدراسة ، وبعد أن اعترف لي إبراهيم بحبه لم يتغير الوضع كثيرا، فإبراهيم حريص جدا على عدم تجاوز الحدود معي حتى لو أردنا أن نذهب لسينما مثلا يجب أن أكون مع صديقاتي وهو مع أصدقائه ولا نجلس بقرب بعض، صدقيني العلاقة بيننا كانت في أضيق الحدود لذلك أصر إبراهيم على أن يخطبني قبل ظهور النتيجة لولا تدخل شقيقته لتغيرت حياتنا تماما.
شعرت فتنة بأن عمتها على وشك البكاء لتقف من كرسيها و تجذبها من يدها وهي تقول:
دعك من سيرة السحلية تلك وتعالي نضع قناع للبشرة أشعر بأن بشرتي متعبة بسبب الاجهاد وأنت أيضا يجب أن تضعي قناع النضارة و تهتمي بنفسك قبل قدوم عمي إبراهيم هيا تعالي.
عقدت حاجبيها وهي تقول:
هل بشرتي متعبة لهذه الدرجة؟!!!
ربما يجب أن أخضع لجلسة تقشير كيمائي؟
حركت فتنة مقلتيه لليمين و اليسار واجابتها:
في الواقع أعتقد بأنك تحتاجين لحقن بوتكس فقد ظهرت بعض التجاعيد أسفل عينيك.
شهقت جيهان وأسرعت تتأمل وجهها في المرآة ثم أخذت هاتفها واتصلت بطبيب التجميل الذي يجري لها في العادة جلسات التقشير الكيمائي لتطلب منه موعدا لحقن البوتكس.

 سيل جارف  الجزء الاول من سلسلة الحب والحربWhere stories live. Discover now