الفصل العشرين

1K 52 18
                                    

الفصل العشرون

منذ أن تلقى الاتصال من شقيقته وهو يتنقل من طائرة لأخرى ، لم يجد طيران مباشر يعيده للوطن في الوقت المحدد، خصوصا وأن شقيقته شددت عليه بوجوب حضور الدفن معهم والذي لحسن حظه سيؤجل لليوم الثاني بسبب انهيار سالم   وانتظار حضور أقاربهم من المدينة الأخرى .
رغم أن الرحلة في العادة لا تأخذ أكثر من أربع ساعات من الدولة الأجنبية التي كان بها لوطنه ، لكنها أخذت أكثر من أربعة عشر ساعة لأنه اضطر للتوقف في عدة مطارات وبعدها أخذ طائرة من العاصمة لمدينته فلم يصل لمنزل الشيخ عثمان إلا قرابة منتصف الليل تقريبا وقد أنهكه التعب كما فعل مع زوجته والتي لم يعارض في رغبتها بالحضور معه لمؤازرته قد يكون ذلك جيدا لإذابة الجسر الذي أقيم بينه وبين أولاد أخته من جهة و والده من جهة أخرى .
منذ موقف العزيمة في بيت السماك و عودة حارث و أيوب بالتحديد تغيرت نبرة والده في الحديث معه ، أصبحت أكثر جفافا وقلت الاتصالات بينهما كثيرا، حتى موضوع خطبة در صاف و حارث لم يعطه الفرصة كي يتكلم ويبدي رأيه فيه بل كان يخبره بما اتفقوا عليه وطلب منه الحضور لحفل الزفاف مع زوجته.
استقبلهما جبريل الذي بدا عليه الحزن جليا وهو أمر لم يكن مستغربا لكن ردة فعل جيهان هو ما أثار انتباهه ،فقد أطلقت شهقة تدل على الخوف عندما رأت وجه جبريل و شحب وجهها بشدة كما أنها انكمشت على نفسها مثل الذي رأي شبحا أو يختبيء من حيوان مفترس على استعداد للانقاض عليه!
مرت بضع ثوانٍ قبل أن تستعيد توازنها وتقف بطريقة شبه طبيعية لم تخلُ من التوتر الواضح لكنه تجاهل الأمر وسلم على جبريل  والذي رفضت جيهان أن تفعل مثله للغرابة بل ظهر عليها  أو ربما استنجاد ليدخلوا منزل الشيخ عثمان الذي كان يجلس في المجلس الخارجي مع خيرية في مشهد غريب نوعا ما لعيني إبراهيم الذي توقع أن تكون موجودة في منزلها مع المعزين لا أن تجلس مع والدها في أول ليلة للعزاء!
بعد تبادل كلمات العزاء المعهودة سأل إبراهيم :
-كيف توفيت سهيلة ، أعني لقد سمعت أنه حادث سيارة لكنني  لم أعرف التفاصيل  وكيف لم يصب سالم معهم؟
بغل هتفت خيرية وقد انقلبت ملامحها للشر وهي تقول:
-كله من هناء هي من قطعت الخيط وتسببت في سيل الدماء عندنا لقد قصدت موت حارث لكنها جاءت في سهيلة و حفيدتي .
نظرت لها جيهان التي لم تعد لطبيعتها بعد ببلاهة فهي لم تفهم كلمة من ما سمعته  وكم ودت أن تسأل إبراهيم عما تتحدث عنه شقيقته لكنها فضلت الانتظار حتى يذهبوا لغرفتهم لاحقا.
بصوت يمتزج به الحزن بالحزم قال الشيخ عثمان:
- استغفر الله العظيم كفي عن قول ذلك لا تنقصك ذنوب يا خيرية، هذا قضاء الله وقدره لا راد له، أنت من عليه أن يتوقف عن اتباع تلك البدع وتصديقها فهي من أنواع السحر والعياذ بالله.
ضمت خيرية شفتيها دون أن ترد فهي لا توافق على كلام والدها لكنها لن تعارضه بالطبع.
ليتوجه الشيخ بنظره لولده وتابع بنفس النبرة وإن شابها بعض الألم هذه المرة :
-لقد كان سالم ذاهبا مع زوجته وابنته لتفقد منزل جديد في المدينة التي عينت فيها زوجته وعندما نزل سالم كي يحضر لهم بعض العصائر من محل في الطريق قامت سيارة نقل كبيرة بدهس سيارته وقتلت ابنته و زوجته فورا.
حولق إبراهيم فيما ظهر التأثر  على وجه جيهان  وقد سالت الدموع على وجنتيها مما جعل إبراهيم  يربت ع يدها بحنان ، لترفع خيرية حاجبها في استنكار  ومطت شفتيها بصوت يدل على ذلك لينظر الشيخ باتجاه ابنه وزوجته ثم عاد بنظره لخيرية وقال :
-اصحبي ضيفتنا معك لبيت العزاء يا ابنتي.
لم يكن يطلب بل كان يستأذن!
هذا ماشعر به إبراهيم من نبرة والده و نظرته لشقيقته التي يبدو بها بعض ال الاعتذار!!!
على ماذا يعتذر والده ؟
بل منذ متي يستأذن في أمر بديهي كدخول زوجته لمنزل شقيقته؟
لحظة هو لم يقل زوجة أخيك ، أو حتى يدعوها باسمها بل قال ضيفتنا !
ماذا يعني بذلك؟
هل هو غاضب من عزيمة السماك ويلوم جيهان عليها؟
لذلك يتعامل معها ببرود؟
معقول أن يبدي أشماس  و حارث عليه وعلى زوجته؟!!!!
تطلع حوله في الغرفة يبحث بعينه عن حارث ثم قال بتساؤل :
- أين حارث؟
توقعت أن أجده في انتظاري عند وصولي في المطار مثل كل مرة ، لكني لا أراه.
رد جبريل بصوته الرخيم الذي يطابق صوت والده ليجعل جيهان تنكمش على نفسها أكثر في حركة لم تغب عن عيني خيرية؛  بأسف :
-حارث متأثر جدا فهو من تعرف على الجثث لأن سالم أصيب بانهيار عصبي؛ لولا وجود أيوب بقربه لكان أصيب هو الآخر بانهيار مثل عمه.
ليردف الشيخ عثمان بحزن حقيقي:
-توقعت انهيار حارث منذ مدة ما مر عليه ليس سهلا؛ من لطف الله علينا أنه أرسل لنا أيوب ليكن له الأخ الذي يسند عند ميله ويخرجه من بئر حزنه قبل أن يغرق فيه.
هز جبريل رأسه بعلامة موافق قبل أن يقول: -كان معك حق يا جدي عندما اعتمدت عليه فهو أهلٌ لها.
خيل لإبراهيم بأن عيني والده ابتسمت لثوانٍ قبل أن تعود لسابق عهدها؛ يعرف حق المعرفة برغبة الشيخ في تزويج أشماس من أيوب لكن كلام حارث عن ميلها لسفيان لازال يشغل عقله، خصوصا وأن شهورا قد مرت ولم يتغير شيء في وضع ابنة أخته وأيوب بل منذ عودة سفيان بالتحديد الذي عين في مدينتهم للمصادفة!؛ فهل تتلاعب أشماس به بدون إراده كي تجذب سفيان؟
وقفت خيرية ليرفع عينه لها و يقطع حبل أفكاره ؛ فتوجهت بحديثها لوالدها قائلة :
-ضيوفك على رأسي ياشيخ .
عقد إبراهيم حاجبيه في غير فهم لعدة ثوانٍ قبل أن تشير بإصبعها لجيهان في حركة لم تعجبه وكاد أن يتكلم لولا، وجود والده والظرف الذي يمرون به لتقف جيهان وتتبعها دون أن تنطق بعد أن ألقت عليه نظرة راجية ،
ليقول لها بعينه لا بلسانه:
-اطمنئني لن يؤذيك أحد .
أنزلت جيهان عينها  وتبعتها لمنزلها الذي لا يبعد إلا خطوات بسيطة شعرت خلالها جيهان أنها تسير أميال لتلقى حتفها !
بمجرد أن دخلت من البوابة الحديدية والتي كانت مغطاة بخيمة عزاء حتى وقفت خيرية والتفتت لها قائلة بنوع من الشماتة :
-تفضلي هذا منزلي ملكي أنا لم يستطع أحد أخذه مني أو زلزلته، كل من حاول عاد حافي القدمين.
ابتلعت جيهان ريقها دون رد لا هذا المكان ولا الوقت المناسب للرد عليها.
لتتابع خيرية وقد ارتسمت ابتسامة هازئة  على طرف شفتيها لتميل ناحيتها قائلة:
-هل رأيت جبريل ابني؟
نسخة من والده حتى في الصوت صحيح ها !
عادت جيهان للوراء وقد شعرت بالخوف ، لم تفكر لثانية واحدة عندما علمت بخبر الموت أنها ستواجه خيرية أبدا ؛ بل صبت جم تفكيرها على مواساة زوجها الذي كان في حالة لم ترها عليه من قبل، هي أصلا كانت تعد نفسها لحضور فرح حارث وقد وجدتها فرصة كي توطد العلاقات مع عائلة الجعفري وتزيل سوء التفاهم الذي حدث سابقا في منزل أخيها .
لكنها الآن تود لو تلوذ هاربة خلف إبراهيم تحتمي به من بطش أخته التي أظهرت عدائها منذ أن خطت قدمها هذه الأرض .
تقدمت مبروكة  زوجةشقيق خيرية ناحيتها وقد هالها منظر جيهان المرتعب لتمسك يدها وقالت بلطف:
-تفضلي من هنا، تعرفين بأنه عزاء لذلك لن نقدر أن نضيفك بما يليق بك.
تبعتها جيهان  وقد شعرت ببعض الراحة ، كذلك فعلت خيرية ودخلت لمنزلها قائلة بسرعة :
- هذه الغرفة بها نسوة أتين للعزاء وقررن المبيت معنا يمكنك المبيت معهن.
ثم التفت لمبروكه لتقول بحزم لا يقبل النقاش: -اذهبي أنت واطلبي تحضير العشاء لأبي و إبراهيم ، فالشيخ لم يأكل شيئا طوال النهار  وأنا سوف اتفقد حارث هيا بسرعة .
كانت مبروكة مصدومه من تصرفاتها غير المبررة لها لكنها لم تجادلها بل أسرعت تأمر بتحضير طعام لعمها و إبراهيم العائد من السفر كي تأخذه له بنفسها وتسلم عليه.
دخلت خيرية للغرفة التي خصصتها لحارث في منزلها موقتا والتي يشاركه فيها أيوب أحيانا ، هذا ماينقصها دخول الغريب لبيتها وخروجه براحته كأنه بيت أهله !
لكنها لا تستطيع الرفض لأن حارث يحتاجه حسب كلام والدها و جبريل، حسنا  لا بأس المهم الآن حارث.
طرقت الباب و دخلت لتجد حارث يجلس على سريره يغطي وجهه بكفيه ليخفي دموعه  و أيوب يتلو عليه بعض الآيات القرآنية من مصحف صغير يحمله بيده ، المنظر بعث القشعريرة في جسدها فالآيات التي اختارها أيوب كانت تحث على الصبر وتقبل المصائب.
توقف عن التلاوة وأغلق مصحفه ليقوم من مكانه  احتراما لها، لكنها تجاهلته لتجلس بقرب حارث و تبعد يده عن وجهه وهي تقول بنوع من الحنان :
-كفى ياولدي هذا قضاء الله.
تغيرت نبرتها لتخرج قاسية وهي تتابع :
- أنت رجل لا يجب أن تضعف  وتبكي لمجرد رؤيتك شخص ميت.
وقف من مكانه في نفور وقال باستنكار واضح: -مجرد شخص ميت!!!!
جود كانت   طفلة لا تجيد نطق اسمي بطريقة صحيحة ، وتقولين مجرد شخص ميت؟!!
كزت على أسنانها وقالت بتوبيخ :
-تعلي صوتك على جدتك أمام الغريب؟
هذه تربية فتحية طبعا.
أشاح بوجهه عنها وأخذ يستغفر بصوت خفيض كي لا يرد عليها رد غير لائق؛ أما أيوب الذي شعر بالحرج خصوصا مع نعت خيرية له بالغريب خرج من الغرفة دون إلقاء سلام حتى ؛ ليسرع حارث خلفه يقول بصوت عالٍ :
-انتظر يا أيوب أنا آتٍ معك سأغير ملابسي فقط.
بإمائة من رأسه أعطاه الموافقة ونزل من السلالم ليخرج من المطبخ مباشرة لأنه يعلم بوجود نساء في صالة المنزل؛ قاوم رغبة ملحة بأن يختلس النظر لعله يلمح ظلها على الأقل ، فهو لم يرها أو يعرف عنها شيئا منذ قاطعهم جبريل قبل أن يعرف سبب غضبها و بكائها الحار.
هل يكون كل ذلك غيرة !!!!
لا غير معقول صحيح أنها سبق وأخبرته بعدم رغبتها في تواصله مع نهى لكنه لم يقل بأنه سوف يقطع علاقته بها؛ ولماذا يفعل من الأساس علاقته معها عادية لا تشوبها شائبة .
حقا!!!
سمعها في عقله بصوتها هي ليتنهد و يستند على سيارته  ورفع عينيه للأعلى ربما تحن عليه بنظرة من خلف الستارة 
يعلم بأنها تعرف بوجوده مع حارث في منزلها فقد أعلنت خيرية النفير وهي تصرخ بصوتها العالي كلما استأذن للدخول للمنزل بحجة أنها تنبه النساء لوجود رجل غريب كي يغطين رؤوسهن.
خيرية عثرة أخرى في طريقه لأشماس فهي لا تدخر جهدا لتبين له بأنها لا ترحب به كصديق حتى لحارث إذن ماذا سيكون رد فعلها عندما يتقدم لابنتها؟
ازداد شعوره بالضيق في صدره ، كل يوم تظهر له معضلة أصعب من التي قبلها وهو عاجز لم يقدر على حل أيّ منهن!
خلل شعره بأصابعه وقال بصوت ظنه خافت:
-ما الطريق لك يا من أنرت كل الأماكن المظلمة  في روحي.
-الله الله
لدينا عزاء وأنت تشعر تحت النافذة ؟
نطق بها سفيان الذي دخل يبحث عنه وعن حارث ليذهبوا معا ليجده على هذه الحالة.
انتفض أيوب داخليا دون أن يظهر عليه شيء سوى احمرار أذنيه لكنه أسرع يجيب :
-انتظر حارث حتى ينتهي من تغيير ملابسه ونذهب سويا لمنزل الشيخ عثمان.
وضع سفيان يديه في جيب بنطاله  ونظر له قائلا:
- جدي ينتظرك لتتناول الطعام معه هيا بنا وحارث سوف يلحق .
قبل أن يتحرك أحدهما أتى حارث يستغفر وقال بغضب :
-هيا بنا قبل أن انتحر أو أقتل أحدهم.
نظر أيوب لسفيان كأنه يخبره أن يصمت ويتحمل مزاج حارث حتى يعتدل؛ أغمض سفيان عينه بمعنى لا تقلق
مرت الليلة وجاء اليوم التالي وهو يوم الدفن ليتوجه الجميع للمقابر وقد استغرب أيوب أن المقابر لا باب لها  فسأل إبراهيم بصوت هامس: -أين هي مقابركم لا أرى اسمكم ؟
رد عليه إبراهيم بنفس الهمس:
-  هذا لأننا لا نملك مقابر خاصة بنا، المقابر هنا ملك للأوقاف لا للأشخاص لذلك نحن ندفن موتانا في أقرب مقبرة لنا.
ليجيبه أيوب بصوت أعلى :
-ألا تدفعون ثمن  الأرض كي تدفنوا فيها موتاكم ؟!!!
نكزه إبراهيم وقال بصوت منخفض:
-اخفض صوتك،  ونعم نحن لا ندفع ثمن المقابر هيا كي نتقدم مع الباقين.
شعر بالاحراج وتقدم مع إبراهيم لمكان دفن سهيلة زوجة سالم ابن خيرية و ابنته الصغيرة ؛ كان الجميع متماسكا تقريبا ماعدا سالم الذي كان منهارا تماما ولم يتوقف عن البكاء أبدا خصوصا بعد أن تم وضع التراب عليهما؛ كان الموقف محزنا بحق ليتذكر كل منهم عزيز فقده
سفيان تذكر والده وأدمعت عيناه عليه ليلتفت لشقيقه رؤوف و وجده هو أيضا قد امتلأت عيناه بالدموع مثله لتذكره عمته سليمة زوجة إبراهيم فهي كانت مقربه منه جدا إبراهيم حاول أن لا يتذكرها قدر الامكان لكنه شعر بعصره في قلبه موت سلميه المه كثيره هذه حقيقة لن يستطيع انكاره ابدا؛ أيوب تذكر أمه وما عانته قبل وفاتها حتى موتها لم يكن سهلا فهو لم يجد مكانا يدفنها فيه بسهولة لأنه ببساطة لا يملك أهل يقفون بجانبه مثل آل الجعفري الذي أثبتوا بأنهم فعلا عزوة تسند الظهر بخلاف أهل أبيه الذين رفضوا دفن أمه في مقابرهم بعد أن شوهوا سمعتها و هي حية لرفضها الزواج من عمه ، أما آل الجعفري فهم متكاتفون خصوصا وقت العزاء كل شخص منهم كان يعمل لمساندة الآخر دون خطة متفق عليها بينهم،  هو الذي ظن بأنه سيتحمل الحمل وحده عندما أخبره جبريل بأن يلحق بحارث، ليجد بأنه الوحيد الذي لم يفعل شيئا يذكر إلا الوقوف بجانب حارث عكس الجميع.
أما الشيخ عثمان فقد أخذ يتذكر أحبابه الذين فقدهم واحدا تلو الآخر ، وهاهو الآن يدفن ابنة حفيده بدلا من أن يُدفن هو مكانها
استغفر ربه فقد أكرمه الله بالصحة و العافية عليه أن يشكره لا أن يتسائل عن سبب طول عمره.
❈-❈-❈

 سيل جارف  الجزء الاول من سلسلة الحب والحربWhere stories live. Discover now