الفصل السابع والثلاثون: على صفيح ساخن

40 1 4
                                    

شيئاً فشيئاً اشتدت حرارة الجو في القاعة وأخذ العرق يتفصد من نواصي الحاضرين بعد أن أخذت الشمس مكانها في كبد السماء، وبدأت تهاجم بأشعتها قاعة الاجتماع دون هوادة، مذكرة إياهم أن هذا ميدانها وموضع سلطانها. رآهم يتحركون بين الطاولات بكؤوسهم التي تطفح بشتى انواع المرطبات علها تخفف لفحات الكرة المتوهجة فوقهم.
كان المكيف الوحيد المعلق في أحد جدران القاعة عاجزاً تماماً عن تكييف الجو الجحيمي، و رغم أنه من المفترض أن فصل الخريف قد حل و الجو أقل حرارة، إلا أن إقليم الصيف يحب تنبيه قاطنيه إلى أنه لم يكتسب إسمه من فراغ.

لاحظ «دانيارين» من موقعه أن أكثر الحضور إستهلاكاً للمرطبات هم من ينحدرون من الأراضي الخضراء النضرة، ممن لا يعرفون عن الصيف سوى أنه فصل عابر من فصول السنة، و من بينهم كان الملك «لافاتيس فيرا آرتسيف» ببشرته الفاتحة وشعره الأسود و طوله الفارع اللافت ووجهه الناحل المسحوب، حيث ارتفع بقامته عن الجميع، ظل دانيارين يحدق بملامح الملك التي تشي بأنه في أواخر الأربعينات أو أوائل الخمسينات، وقد زحف الشيب على صدغيه، وتنساب لحيته على خده حيث يتصارع الشباب والشيخوخة، تارة يغلب الشيب وتارة يتراجع في ظل تقدم السواد.

يعتبر الملك و أهله غرباء عن إقليم الصيف، و حتى بعد قضائهم سنوات عديدة بين شعبه الفخور، غير أن جذورهم القادمة من الأراضي المخضرّة لم تعتد بعد رمال الصحراء، و جفاف الجو، و لفحات الهواء الساخن الكفيلة بجعل شفاهك تتشقق، لكن عائلة «آرتسيف» تبذل جهدها في الإندماج والتأقلم و على رأسهم الملك، إذ يدأب على ترتيب لقاءات و مآدب تؤلف بين القبائل والعشائر التي أقسمت له بالطاعة، و هذا اللقاء إحداها ففي نهاية كل أسبوع يستضيف شخصيات هامة و يحافظ على العلاقة الجميلة التي بناها بينهم. إلا أن أعراف الإقليم الصحراوي تفرض وجودها شاء من شاء وأبى من أبى، فحتى داخل الحجرة التي جمعت جميع أطياف مجتمع إقليم الصيف عزيزاً كان أم ذليلاً، إلا أن الخطوط العريضة بين الطبقات الاجتماعية ما زالت واضحة، فهاهي عرقية «الغاليراز» -التي تقع في قاعدة الهرم الاجتماعي- ينحشر أعيانها في زاوية قذرة من زوايا القاعة، فئة يشكلها مزيج من الكادحين والعبيد السابقين قبل أن يندثر عصر الإسترقاق. بينما تتوسط المكان عرقية «الكيتراز» الذين يرون أنفسهم مركز الثقل في الإقليم الصيفي، وهم مجموعة من التجار و أرباب بعض الأعمال الحرة الأخرى، يحافظون على مسافة جيدة عن الطبقة الأدنى، أما في رأس الحجرة و عند الدكك وقف بفخر أعيان عرقية «الريشراز» الذين يعدون أنفسهم أسمى عرق في الإقليم بالكامل. من الصعب على المرء محاولة تجاهل وجودهم في القاعة، إذ أنهم يحرصون على إبراز انفسهم أشد الحرص، فهم يرفلون في ثيابهم الحرير القرمزية الفاخرة، مثل ديوك رومية مختالة، و ينظرون بشمم الى الحضور. وعند الطاولة المفروشة بقماش أبيض ناعم وقف اثنين من طائفة أنغاجوفاني بثيابهم السوداء ونظراتهم الوقورة.

المغناطيس: الشظاياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن