١

69.9K 605 75
                                    


يومٌ خريفي بارد.. برودته الخافتة المرتعشة تسربت بحدة موحشة للروح قبل الجسد
إنها واشنطن دي سي.. أواخر شهر سبتمبر..شهر الخريف المرير 
تقلبات الأجواء.. واصفرار الأشجار.. ووجع الغربة
وآه يا وجع الغربة.. ما أقساها على روحه الحرة المستنزفة شوقاً موجعاً لأرضه
لا شيء يستنزف الروح شيئاً فشيئاً كإحساس الغربة، هذا الإحساس الذي يبدأ بالتهام الروح حتى يحيلها رماداً
وتكون العودة للوطن هي كعودة العنقاء التي تقوم من رمادها حين يعبرها جسدٌ حيٌّ كما تقول الأسطورة

وهكذا هو الوطن!! هو الجسد الحيُّ الذي يعيد الروح لبقايا الرماد..
وهاهو الغريب المشتاق المعتصم بجَلَده ودفء ذكرياته وحرارة حنينه يقف في موقف الحافلات القريب من منزله وقفته المعتدّة بجسده الفارع الطول
يحكم إغلاق جاكيته الجلدي على صدره العريض ليصدَّ لسعات البرد في ساعات الصباح الباكر
الشمس لم تشرق بعد، ولكن هاهي تغازل الأفق..

"شمسهم الباهتة الهزيلة!!" 
ينظر للأفق ( وهذي اسمها شمس.. خلهم يجون عندنا في الدوحة ويعرفون الشمس صدق.. آه يا شمس الدوحة.. ويا دفى الدوحة..جعلش بعد طوايف واشنطن وفوقها البيت الأبيض)

كان عنده سيارة.. ولكنه يفضل استخدام المواصلات العامة في مشوار الجامعة ذهابا وإيابا..

وصلت الحافلة في موعدها
يركب بخطواته الثقيلة الواثقة المعتادة.. يلقي التحية على "ستيفن" سائق الحافلة الزنجي المرح الذي ربط بينهما ودٌّ إنسانيٌّ عمره خمس سنوات منذ سكن في كولومبيا ديسكيرت ودرس في جامعة جورج تاون القريبة..

وهكذا الألفة البشرية تعقد أواصرها بين البشر.. لمجرد كونهم بشر
بالمعنى الحقيقي للبشر!!
لأن هناك بشراً قد لا يكون لهم من البشرية إلاَّ اسمها!!

كان من الممكن أن يلاقي سكناً ملاصقاً للجامعة ولكنه أراد سكناً يكون ملاصقا لمسجد (كافي علي غربة الجسد.. خل قربي من بيت الله يسكن روحي)

بعد إلقاء التحية.. اتخذ مكانه في الحافلة الفارغة تماماً من الركاب في هذا الوقت..
اعتاد الخروج مبكراً حتى يستغل الوقت بالبقاء لأطول وقت في المكتبة لانجاز أطروحته للدكتوراه في إدارة الأعمال.. تبقى عليه هذا العام فقط.. 
وما أطوله عليه من عام!!!.. رغم أنه كان يضغط على نفسه كثيرا للانتهاء في أسرع وقت..
(أوووف.. لو أني في بريطانيا كان خلصت من زمان)

كما هو معروف: نظام الدراسة في أمريكا أسهل في الماجستير وأصعب في الدكتوراه.
وبريطانيا هي العكس أصعب في الماجستير وأسهل في الدكتوراه
من الممكن للدارس أن ينهي دراسة الدكتوراه في بريطانيا في سنتين فقط لو كان بنظام الفول تايم.. والماجستير سنة واحدة بنفس النظام الفول تايم Full Time

أما أمريكا فهو محتاج لخمس سنوات أو أربع على أقل تقدير في الدكتوراه وذلك في حال نحر نفسه تعبا وضغطا .. بينما الماجستير: ثمانية أشهر في أمريكا تكفيه..

اسى الهجران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن