١|لاذِع ومُر

1.4K 55 103
                                    

إذا لم تتمكن يداك من أمساكي حينما أسقُط
وإذا لم تستطيع ذراعيك أن تنتشلني من عمق الظلام
وإذا لم يحتمل كتفيك ثُقل خيباتي، وإذا كرهت عيناك رؤية سوداويتي، وإذا نفرت روحك روحي
هل أنتَ مُستعد لتغرق معي في الظلام؟

____

الساعة العاشرة وخمسة وعشرون دقيقة مساءً

كانت أجواء الشتاء فرضت سيطرتها على المدينة
الحُزن، والحنين، البرد ورائحة المدافئ، ورائحة المَطر العالق بالشوارع، والدفء ما أن يسير أزواج مع زوجاتهم
وأطفالهم، وترتفع ضحكات الأصدقاء، والاطفال
تتصاعد ضحكاتهم مع الأبخرة الخارجة من افواه كُل منهم، سيارات ودراجات هوائية، وحتى دراجات نارية، كانت تمر على الشارع الذي لايزال مُبللا ببقايا المطر، ينعكس على ذلك الشارع أضاءة صفراء تمنح المارة دفء عجيب وأُلفة وبهجة بألف شعور وألف تفصيل.

أما هو كان يسير وحيدًا، بعد أن قضى جولة في الشوارع
هاربًا من المنزل، من ذكريات والده، صوته الغائب ورائحته العالقة بثنايا المنزل حتى بعد سنوات، هاربًا من وجه أمه، والكره الكبير الذي يكنه لها في صدره.

بتمهُـل مُرغـم عليـه، سارَ بخطواتٍ بطيئـة وثقيلـة
يحملُ خيبات أعوامـه
فك رباط عنقـه، يسحبـهُ للأسفل بأصابعه الطويلة
يفتح زر من أزرار قميصه الأبيض، الحُرقة بصدره
اليوم، وللمرة الـلامعدودة يُرفض طلبه لأجل الوظيفة
بسبب حدته، وغرابته، وسوء مزاجه، وفظاظة أسلوبـه.

لا أُم يُسعد بأنتظارها له على الأبواب
لا أب لا أخ
هو غريب، غريب حتى نفسـه
لاصديق، ولا قريب.

تقدم من السور الحديدي، ينظر للماء العميق والبعيد أسفله، تساءل عن شعوره حينما يكون غارقًا من الخارج
كما يكون الغرق بالداخل، عن شعور والده الأخير
وخيبته، وخذلانه الكبير الذي جعله يّلقي بنفسه هكذا
دون تفكير آخر وتردد.

أنفاس ضائعة تخرج منه، أسند ذراعيه على السور
تراجع للخلف بسبب أرتطام طفل ما به، وصوت ضحكات سعيدة وصاخبـة تبع ذلك.

التفت ليراه يسير أمامه هُمام، أبتلع ريقه، يعيد بصره للصغير مؤيد الذي كان يركض مجددًا لوالده الذي تنهد لرؤيته في هذا المكان الذي لم يكن يفارقه منذ وفاة والده.

«مؤيد أذهب للمنزل، سأتبعك بعد قليل»
صوت هُمام الهادئ والثقيل وصله
وشعر بالأختناق، يود الأبتعاد والهرب
لكن لايريد أن يجعل المعني يلاحظ ضعفه
هو يكره أن يراه احدًا هشًا، فكيف بالشخص الذي يمقته جدًا من بعد محبة طويلة، ويقف أمامه الآن
بالرغم من الفارق العُمري الكبير بينهما، ومحاولات همام معه، وصبره على تمرده وعناده
هو لم يلين، أو يغير شيئًا من طباعـه
الوقاحة ذاتها، وطبعه المُر اللاذع لايُستثنى منه أحدًا.

لـولاكَ. حيث تعيش القصص. اكتشف الآن