الفصل __2

407 28 2
                                    

ابليس.                                                      

قراءة في شخصية إبليس...

        من منا لم يتوقف مع نفسه ليتفكر قليلاً في شخصية إبليس؟ ومن منا لم يسأل نفسه لماذا خلقه الله وهو يعلم بالذي سيفعله هذا الشيطان؟ وما الحكمة من أن يطول عمره إلى يوم يبعثون؟ وهل هناك فوائد منه؟ أعتقد أننا جميعاً قمنا بذلك بل حتى حين كنا أطفالاً صغاراً حيث كانت صورة إبليس عالقة في أذهاننا بسبب ما كانت تصوره لنا الرسوم المتحركة والقصص المصورة في هذا المخلوق الشرير الذي يوسوس للناس بالسوء وهو يشتعل ناراً ممسكاً بشوكته الحديدية.
       

على الرغم من أن التساؤلات كثيرة جدّاً حول هذه الشخصية إلا أني قررت أن أبحر فيها قليلاً, فهذه الشخصية أعلنت الحرب علينا وجعلت من نفسها عدوّاً لنا, وكما يقول المثل (اعرف عدوك..) فمن حقنا أن نعرف عدونا أكثر ونُخضع شخصيته إلى قراءة استثنائية حتى نفهمه ونتصدى لمخططاته وننظر
في إمكانية الاستفادة منه أكثر, رغم قناعتي بأن أعظم فائدة دينية من إبليس هي حين استجاب الله دعاءه عندما رفض السجود لآدم حيث قال هذا الشيطان {رَبِّ فَأَنظِرْنيِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [سورة الحجر آية 36] فرد الله قائلاً {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الّمُنظَرِينَ} [ سورة الحجر آية 37] وهنا تتجلى صورة واضحة لطلب إبليس ودعائه لخالقه بأن يطيل عمره وأيضاً إجابة واضحة من الله لهذا الدعاء والفائدة المرجوة هنا أن الله للجميع, ولا يحق لأحد مصادرة حق أي مخلوق مهما بلغ عصيانه وطغيانه في مناجاة ربه أو دعائه.. فطالما أن الله استجاب دعاء إبليس فليس هنالك أي شخص بمعزل عن الدعاء والإجابة, ولكني سأحاول البحث في شخصيته أكثر للاستفادة في أمور أخرى..
        تخيل أيها "الآدمي" أنك في الجنة بأنهارها وقصورها وما تشتهيه الأنفس.. فهل ستجد في نفسك شيئاً (يغريك) للخروج منها وهي التي فيها ملا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟ أعتقد أن إخراجك منها يتطلب مهارات عالية جدّاً في الإغراء, لذا كنت أفكر دائماً من نفسي قائلاً: ما الذي دفعك يا أبانا آدم إلى ارتكابك للخطأ الذي أخرجت نفسك وذريتك من الجنة بسببه؟ عندها قررت أن أبحث أكثر فلم أجد أمامي إلا "إبليس" فسعيت لمعرفة أي مهارة يملكها هذا الرجيم.

        أنا مؤمن بالقضاء والقدر وأن الله قد قدّر لنا أن يخلقنا ثم يهبط بنا إلى الأرض خصوصاً حين كنت أتأمل في الآيات التي تتحدث عن بداية الخلق عندما أخبر الله ملائكته في مشهد يبين إرادة الله سبحانه حين قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [سورة البقرة آية 30] فهذه الآية توضح أن الله سبحانه قد قدّر خلق آدم بأن يكون مكانه في (الأرض) ولكن لأهمية وجود سبب في حياتنا كان لابد من أن نخرج من الجنة بفعل فاعل, وهذا الفاعل اسمه "إبليس" والذي يعني "المطرود" حيث استخدم القرآن لفظ الإبلاس في مواضع عدة كقول الله {أَخَذْنَهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [سورة الأنعام آية 44] أي مطرودون من الرحمة, وإذا أردنا التقصي أكثر عن اسم إبليس على افتراض أنه كان مخلوقاً صالحاً إلى درجة جعلت الله يرتقي به من الأرض إلى الجنة في مصاف الملائكة, فمن غير المعقول أن يكون اسم (المطرود) هو اسمه الأصلي, لذا أشارت بعض روايات الحديث وكتب التفسير إلى أن اسمه كان "عزازيل" ولكنه سُمي إبليس بعد حادثة التعالي عن السجود لأبينا آدم والتي طُرد على إثرها.
     
  أثارت شخصية إبليس الجدل عن ماهيته؟ وهل هو ملاك أم من الجن؟ قالوا إنه من الجن استناداً لما جاء في القرآن {إِلَّآ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [سورة الكهف آية 50] فاعترض آخرون بقولهم إن إبليس ملاك والمقصود هنا بأنه كان من الجن هو للتشبيه فقط أي أنه سلك مسلك الجن في عصيانه ولو كان من الجن فكيف استثناه الله من بين الملائكة إذ قال {َ وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيس [سورة البقرة آية 34] ومن قواعد الاستثناء لغوياً أن يكون المستثنى من نفس الجنس الذي استثني منه, ثم بعد ذلك قال الله له {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}[سورة الأعرف آية 12] ولاحظ قول الله { أَمَرْتُكَ} وفيه إشارة إلى نفس الأمر الذي وجهه الله للملائكة بالسجود { وَإِذْ قُلْنَا  لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ِ} ثم عاتب إبليس لعصيانه في هذا الأمر؟ فكيف يعاتبه على الأمر الموجه للملائكة إذا لم يكن ملاكاً؟ ..
    
   الإجابة على هذا السؤال شائكة ولكن آخر ما توصلت إليه من بحثي واستنتاجي أن هذا استثناء منقطع وأن إبليس من الجن وليس ملاكاً بل ويختلف عن الملائكة بأبسط خصائصه حيث ذكرت النصوص أنه مخلوق من نار بينما الملائكة مخلوقون من نور, وأيضاً بأنه قد عصى أمر الله بينما الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون, فما حدث هو أن الله أكرمه وضمه إلى صفوف الملائكة تشريفاً له حين كان صالحاً ولكن يأبى الشيطان إلا أن يكون شيطاناً.
 

      خلق الله الملائكة من نور بينما خلق الشيطان من نار, والنار تعتبر عنصراً أقوى من النور, فالنار هي التي يشع منها النور أي إن النار هي الأصل بينما النور هو نتيجة تابعة لهذا الأصل ويتضح ذلك
مما جاء في القرآن من قول الله {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَّدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الَّلهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة آية 17] حيث يُلاحظ أن النور الذي ذهب الله به هو نتيجة للنار الموقدة, ولعل هذا السبب الوحيد الذي جعل إبليس يلتفت إلى نفسه حين رفض السجود لآدم قائلاً {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف آية 12] فلو كانت الملائكة قد خُلقت من العنصر الأقوى لما استطاع إبليس أن يتفاخر بخلقه وأصله أمامهم ولكن لأنه يعلم بأن الله خلقه من العنصر بين الحاضرين التفت إلى ذلك واستكبر ليخط أول سطر في تاريخ العنصرية.
        استطعت أن أتوصل مع أحد عبدة الشيطان الذين يعيشون بيننا اليوم لأسأله عن الذي دفعه لأن يناصر الشيطان بهد كل الذي فعله بنا, قال لي "مبدؤنا يناصر الشيطان لأنه عميد الموحدين لله, فهو رفض أن يسجد لغير الله حتى حين أمره الله نفسه بذلك".. أعلم بأن مبدأهم غريب ولكني أتعجب منهم لأنهم يعرفون تبرير إبليس عن عدم سجوده لآدم حين سأله الله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص آية 75] ومع ذلك لا يزالون مصرين أن الموضوع له علاقة بالتوحيد, ولكن كيف لمن يملك قدرات عالية على الوسوسة والإغراء مثل إبليس الذي أخرج آدم من الجنة أن لا يملك ذلك في الحياة الدنيا ليجعل من بعض الناس أنصاراً له.

نعود الآن ‘إلى بعض الأسئلة التي تتعلق بشخصية إبليس ولعل أول تساؤل نطرحه دائماً لماذا خلق الله إبليس وهو يعلم بأنه سيعصيه؟ مما لا شك فيه أن هذا الأمر هو شأن إلهي ولله في خلقه شؤون, ولكن إيماناً مني بوجود حكمة ربانية خلف كل شيء سأسعى جاهداً في التفكير والتأمل لمحاولة الوصول إلى هذه الحكمة! تخيلوا أننا نعيش الحياة كلها في الليل! ولا يوجد نهار, فكيف سيكون حجم الضرر على حياتنا اليومية؟ ستجد الأراضي قاحلة بدون الشمس والحياة متوقفة ولا يوجد نباتات بسبب توقف عملية البناء الضوئي وبالتالي فقر وجوع بالمحاصيل الزراعية وكذلك جفاف لعدم وجود أمطار بسبب توقف عملية التبخر وغير ذلك حتى لو سرحنا بخيالنا إلى أننا نعيش الحياة كلها في النهار ولا يوجد ليل فأثر ذلك على حياتنا سيكون أكبر ضرراً! وتخيلوا أننا نعيش شتاءً دائماً أو صيفاً دائماً فكيف ستستمر الحياة؟ أو تخيلوا أن نعيش جميعنا في فقر مدقع أو أن نعيش جميعنا في ثراء فاحش, فهل ستستقيم الحياة؟ ومن سيخدم من؟
     
  من هنا تكمن قيمة نقيض الشيء, إن من حكمة الله علينا أن خلق لنا الأضداد فالشيء لا يمكن معرفته إلا بمعرفة نقيضه, فالنور لا يُعرف إلا بالظلام, والوجود لا يُعرف إلا بالعدم, والخير لا يُعرف إلا بالشر, والصحة لا تُعرف إلا بالمرض فكما قالت العرب بأن الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى, وكذلك الله الذي ما كان من الممكن أن يُعرف لو لم يُعارض بالباطل (1).
__________________________
1..أنظر أيضاً شفاء العليل لابن القيم.

أقوم قيلا Where stories live. Discover now