9'

102 14 0
                                    

     نجد أن القرآن الكريم أشار لوجود شخصيات مختلفة تندرج تحت ما توصل له علم النفس, بالإضافة إلى أن القرآن أشار لكيفية التعامل المثلى مع كل شخصية بما يتناسب معها..

       فإذا أردنا أن نحلل شخصية "فرعون" مثلاً فسنجد أنها مزيج بين شخصيتين, الأولى هي الشخصية "السيكوباتية الإجرامية" وذلك يتجلى في ما جاء في القرآن في سورة البقرة {وَإِذْ نَجّيْنَكُم مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُنَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِحْونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسِآْءَكُمْ}[سورة البقرة آيه 49] ولا يقدم على قتل الأطفال الرضّع إلا من تجرد من أبجديات الإنسانية وتحلى بأعلى صفات المجرمين, أما الشخصية الأخرى فهي الشخصية "النرجسية" ويتضح ذلك فيما ورد في القرآن في سورة النازعات {فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَأ رَبُكُمُ الْأَعْلَى (24)} [سورة النازعات أيه 23, 24]..

       يخبرنا علم النفس الحديث بأن أفضل طريقة للتعامل مع شخصية بهذا المزيج الخطير هو تجنب شرورها, ونجد أن هذا يطابق ما جاء في القرآن الكريم في سورة طه, عندما أرسل الله موسى وأخاه هارون إلى فرعون فأمرهما بأن لا يستفزاه وأن يتجنب شره بالقول اللين {اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيْنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [سورة طه أيه 44]..

     
  بينما نجد في شخصية أخرى وهي شخصية الملك "النمرود" أنها مزيج من شخصيتين أيضاً وهما الشخصية "الحدية" والشخصية "النرجسية" فهو إذاً متطرف شديد لآرائه ويعظّم نفسه كثيراً, وهنا يشرح لنا علم النفس الحديث أن الطريقة الأمثل في التعامل مع هذه الشخصية هي بعدم الاعتراض على آرائها أو مغالطتها, ولكن لا مانع من مناقشتها بشرط أن يكون دون اصطدام أو اعتراض وذلك لامتصاص الموقف ولإشباع حاجة في نفسية هذه الشخصية على أنها لا تخطئ, وربما يتضح ذلك في الطريقة التي أوحى الله فيها لنبيه "إبراهيم" بأن يحاور "النمرود" دون اصطدام أو اعتراض كما ورد في سورة البقرة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِمُ رَبِي الَّذي يُحْيِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَهِمُ فَإِنَ اللهَ يَأَتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ واللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّلِمِينَ} [سورة البقرة أيه 258].

      
   جاء في القرآن عن شخصية النبي "يعقوب" عليه السلام, أن شخصيته مزيجٌ بين الشخصية الشكاكة والقلقة, وهذا يتضح في سورة يوسف, حيث يخبرنا الله أو أول ما فعله "يعقوب" عندما أخبره ابنه "يوسف" عن منامه أن قلق عليه وحذره من أن يقصها أخوته {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَنَ لِلْإِنسَنِ عَدُوٌ مُّبِينٌ} [سورة يوسف أيه 5], وحين استأذن إخوة "يوسف" منه أن يأذن لهم بذهاب "يوسف" معهم قال بكل قلق وشك {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَفِلُونَ} [سورة يوسف أيه 13], ثم يذكر الله لنا أنهم بعدما رجعوا بدون أخيهم "يوسف" عرفوا بأن أباهم شكاك ولن يصدقهم ولو كانوا صادقين, فبادروا بهذا القول على أنفسهم {قَالُوا يَأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَدِقِينَ} [سورة يوسف أيه 17].

       ثم بعد ذلك يستمر القرآن في سرد ما يثبت أن شخصية النبي "يعقوب" قلقة وشكاكة, وذلك حين أمر أبناءه بأن لا يدخلوا من باب واحد خوفاً عليهم من أن يُصابوا بالعين {وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخلوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَّفْرِقَةٍ} [سورة يوسف 67] فيجيب الله على ما فعله "يعقوب" بقوله {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهَمُ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّن اللهِ مِن شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَهَا} [سورة يوسف 68] بمعنى أن ما فعله "يعقوب" لن يغني عن شيء لو كان الله قد كتبه على أبنائه ولكن ذلك لحاجة في نفسه, وهنا أشار القرآن بشكل صريح إلى أن ما فعله "يعقوب" أمرٌ نفسي وله علاقة بتكوين شخصيته النفسية..

ويتشارك النبي "سليمان" مع النبي "يعقوب" في الشخصية "القلقة"(1) وما يترتب على هذه الشخصية من دقة الملاحظة والحضور الذهني, حيث يخبرنا القرآن عن أن الله سخر لسليمان ملك الجن والإنس وسائر المخلوقات, ومع ذلك كان فيه من القلق والحرص على ملكه أن لا يغيب عن ذهنه أي منهم, ويتجلى ذلك في ما ورد بسورة النمل من قول سليمان {وَتَّفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لَآ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مَنَ الْغَآئِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَاذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِتَنِّي بِسُلْطَنٍ مُّبِينٍ} [سورة النمل أيه 20,21].

        والأمثلة على دقة الموازنة بين الشخصيات وبين أفعالها وطرق التعامل معها كثيرة في القرآن الكريم, فيخبرنا القرآن حول هذه الأمثلة ما جاء ذكره عندما بشر الله إبراهيم بإسماعيل وإسحاق, فعندما بشره بإسماعيل قال {فَبَشَّرْنَهُ بِغُلَمٍ حَلِيمٍ}[سورة الصافات أيه 101] ولكن عندما بشره بإسحاق قال{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَمٍ عَلِيمٍ} [سورة الحجر 53], والموازنة القرآنية بين شخصية الحليم والعليم تكمن في ما ترتب على هذه الصفات لاحقاً, فلو لم يكن إسماعيل عليه السلام حليماً لما وافق على أن يذبحه أبوه إبراهيم حين قال له {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَأنظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللهُ مِنَ الصَّبِرِينَ} [سورة الصافات 102] أما علم إسحاق فهو ما توارثه بعده ابنه يعقوب وسائر نسله من بعده والذي قال عنه الله {وَإِنَّهُ لَذُ عِلِمٍ لِّما عَلَّمْنَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف 68]..

       وقس عليها ما ورد في الكثير من الصفات الشخصية للأنبياء في القرآن والتي تتوازن بشكل دقيق مع سيرتهم الذاتية, كوصف موسى بـ {الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [سورة القصص أيه 26] ووصف يوسف لنفسه {إِنِّي حَفِيظُ عَلِيمٌ} [سورة يوسف أيه55].

ـــــــــــــــــــــــ

1-القلق والشك كمصطلحات علمية وصفات بشرية يخضع لها سائر البشر مع الحفظ الكامل لمقام الأنبياء عليهم السلام

أقوم قيلا Where stories live. Discover now