الفصل الثالث

2K 47 0
                                    


قضت ساعات السفر الطويلة فى صراع مع أفكارها، أتعترف بخطئها وتتلقى عقابها مهما كان أم تتدعى تُعرضها للسرقة أو أى حُجة أخرى لتخفيف العقاب ولو قليلاً فهى فى كل الأحوال معاقبة لا محالة، لم تسطع أن تصل لقرار فالخوف يسيطر على تفكيرها السليم
أخيراً وصل القطار محطة محافظتها وعليها أن تستقل وسيلة نقل أخرى إلى قريتها، وضعت كفها على خافقها الذى أعلن فزعه منذ الأن
تنهدت بقوة تحاول التحلى بالهدوء فالقادم عسير ثم استعانت بالله ونهضت بساقين لا تكاد تحملاها من الخوف
ترجلت من القطار بنظرات متوجسة وخطوات مترددة وماهى إلا عدة خطوات قليلة خطتها للأمام حتى شعرت بقبضة حديدية تقبض على ساعدها بغل
"حساااام" صرخت شمس بهلع حين التفتت بحدة نحو صاحب القبضة الممسكة بها ووقعت نظراتها على ملامح شقيقها العابسة
ازدرت ريقها بصعوبة وجاهدت لخروج صوتها تحاول تبرير سبب غيابها ولكنه لم يُمهلها النطق
إنما جذبها بعنف لتتحرك معه دون كلمة واحدة حتى سيارته التى فتح بابها بعصبية ودفع شقيقته للداخل بقسوة وهى لاتكاد ترى من سيل عبراتها المندفعة على وجنتيها وهى تُساق إلى محاكمتها الحتمية وقد طارت الكلمات والمبررات من عقلها فعجزت عن الدفاع عن نفسها
دار حسام حول السيارة ليتخذ مقعد السائق بينما مسحت شمس عبراتها بباطن كفها لتوضح الرؤية مرة أخرى أمام عينيها
حينها لاح فى المرآة الجانبية للسيارة خيال جسد ضخم فى المقعد الخلفى فالتفتت برأسها بتوجس قبل أن تشهق بصدمة ظهرت جلية فى مقلتيها وتمتمت بخفوت :- يوسف
كان يوسف قابعاً فى المقعد الخلفى مكبل الذراعين مبعثر الثياب يرفع رأسه بصعوبة واضحة ويبدو على وجهه علامات التعب والإجهاد وكأنه خرج من عراك للتو
ما أن اتخذ شقيقها مقعده حتى انطلق لسانها مع زخات دموعها ترجو شقيقها بصوت منقطع الأنفاس فزعاً
:- حسام ... يوسف مالوش دعوه بحاجة ... ده ساعدنى فـ آآآآ
صفعة قوية محملة ببراكين الغضب والغل والرغبة في الانتقام سقطت على وجهها وانتزعتها من مكانها ليرتطم وجهها فى تابلوه السيارة وتسقط بعدها في أرضية السيارة منكمشة على نفسها متألمة باكية
مال يوسف بجذعه للأمام وصاح بقوة فى حسام مدافعاً عنها
:- مفيش داعى للعنف ده .. أنت مش فاهم اللى حصل .. أنا بحاول أشرحلك طول الطريق وأنت رافض تسمع ... أفهم الحكاية الأول وبعدين أحكم عليها وعليا
استدار حسام بجذعه للخلف ودفع يوسف فى صدره بقبضة مكورة جازاً على نواجذه بحقد
:- أخرس يا عويل .. ما أسمعش صوتك النچس
أعتدل حسام فى مقعده وأدار مفتاح السيارة قبل أن يحذر للمرة الأخيرة
:- مش رايد (عاوز) أسمع نفس حد منيكم لغاية ما نوصل للدار وهناك هتاخدوا چزاكم أنتوا الأتنين
ثم انطلق حيث دارهم ليتلقوا عقاب جريمة لم تُرتكب

******************

بعد ما يقرب ساعة من الزمن وفى ظلام الليل اخترقت السيارة طرقات القرية الغير ممهدة وواصلت طريقها حتى دلفت إلى فيلا عائلة العزازى محملة بشحنات من المشاعر المتباينة المنبعثة من راكبى السيارة بين خوف وقلق وحقد وغضب ورغبة فى الانتقام
ظهر الخوف جَلَّى على ملامح شمس التى هربت الدماء من وجهها فتحول للون باهت شاحب وزاد معدل تنفسها خوفاً من لقاء والدها المرتقب ... شعرت أنها فقدت القدرة على الحركة فلم تستجيب لأمر حسام حين طالبها بالترجل من السيارة
بينما ترجل هو وفتح الباب الخلفى ليجذب يوسف بعنف من ذراعه ودفعه أمامه فى اتجاه الفيلا
حانت منه التفاته نحو شقيقته التى تجمدت بمكانها داخل السيارة فأهتاجت أعصابه حين لم تستجيب شمس لأمره ففتح باب السيارة وجذبها من شعرها وجرها عنوة خارج السيارة
تابعها يوسف بنظرات متعاطفة وأومأ بخفة برأسه نحوها يؤازرها فى محاولة فاشلة لطمأنتها رغم قلقه الداخلى فما حدث حتى الأن لا يبشر بخير
تحركوا بخطى بطيئة نحو باب الفيلا المشرع يتبعهم صوت حسام الحانق يحثهم على إسراع الخطى وبمجرد دلوفهم للمنزل تعالى صوت فرح الشقيقة الصغرى لشمس تهبط  مسرعة على درجات السلم للقاء شقيقتها بلهفة وخلفها تهبط  نسمة زوجه حسام  ببطء بسبب حملها
صاحت فرح بلوعة وهى تهم باحتضان شقيقتها
:- شمس ... شمس ياحبيبتى الحمدلله إنك بخير
أوقفها حسام بإشارة من يده ودفع شمس أمامه بقسوة هاتفاً بحزم
:- بَعدى عنها يافرح وأطلعى فوج
بكت شمس شوقاً لشقيقتها وتمنت أن تحتضنها... أن تطمئن بين ذراعيها ولو للحظات ولكن حسام دفعها أمامه وأحتجزها بغرفة الضيوف ثم أصطحب يوسف لغرفة أخرى مهملة ببدروم الفيلا
ربما تُستخدم للتخزين حيث أحتجزه هناك بعد أن فك كفيه وتحرك لمغادرة الغرفة ... بادره يوسف بسؤال يلح على عقله
:- أنت أزاى عرفت مكانى ... أقصد مكان شمس!!
التفت حسام من أمام الباب وألقى نظره استهزاء نحو يوسف موضحاً ببساطة
:- مش محتاچة سؤال يا متعلم ... من موبايل شمس ... أول مافتحته عرفنا مكانها ... واحد من شركة المحمول بلغنى بالعنوان طوالى (لوى شفته بنصف ابتسامة يتباهى بعلاقاته الواسعة مردفاً) ألف مين يخدم
عاد واقترب من يوسف مستطرداً بسخط :-  ولسوء حظك أنى كنت فى القاهرة بدور عليها .. وفى نص ساعة كنت جدام دارك ... وشفتكم بعينى نازلين من شجتك ويا (مع) بعض ومشيت وراكم لمحطة الجطر
حرك يوسف رأسه بتلقائية قائلاً بهدوء
:- وأنا مش هنكر إنها كانت فى شقتى ... بس ادينى فرصة أوضحلك كل شئ
رفع حسام كفه فى وجه يوسف يوقف حديثه قائلاً بتصميم
:- هتجول كل شى ... بس مش دلوك .. لما أطلب منيك الحديت
التفت حسام مغادراً بكبرياء وغضب بنفس الوقت تاركاً يوسف يقف بمنتصف الغرفة حائراً يتطلع حوله فى الغرفة المليئة بالأشياء المهملة القديمة
ثم تقدم نحو نافذة مرتفعة نسبياً عن الأرض مغلقة بقضبان حديدية تطل على حديقة المنزل ومن خلفها عبر السور الحديدى يمتد البصر لحقول خضراء شاسعة تتمايل بنعومة مع نسمات الخريف الباردة بإيقاع يبعث السكينة فى النفس
تنهد بآسف مُحدثاً والده الراحل (ها قد عدت لبلدتك يا أبى .. البلدة التى هربت منها يوماً خوفاً من الثأر وعشت بعيداً عن الأهل والأقارب حتى مماتك .... ها قد عدت إليها محملاً بذنب لم أقترفه)

التقينا فأشرق الفؤاد بقلم / إيمان سلطانWhere stories live. Discover now