28 - ما يُكسر؛ يُصعب إصلاحه

2.3K 227 186
                                    

28 -

مهما مرَّ على الإنسانِ من زمنٍ سيظل القلب موطنُ الآلامِ.

ظللتُ أدعو ربي ليالي
حتى أعودَ إلى دياري
وألقاكِ يا روحُ فؤادي
كنتُ أود لُقياكِ يا راجية
وأبكي بين أحضانكِ الحانية
لكنني متُ مِن شوقي، وقد خاب أملي
فأضحى رجائي سرابًا
وبكى قلبي دماءً!

- هادي، يلا يا حبيبي عشان تفطر!

صوتٌ هاديء تسلل لمسامعِ هاوي وهو نائمٌ على فراشهِ الوثير، فانتفض سريعًا جالسًا على الفراشِ بعدمِ إدراك لما استمع، حتى رآها! .. رأى والدتهُ الجالسة على طرفِ فراشهُ، مُبتسمةً لهُ بحُبٍ كما كانت تبتسم دائمًا؛ فخفق قلبهُ بعنفٍ وفرك في عينيهِ مستنكرًا وجودها، لكنها لم ترحل.. فضرب رأسهِ بيدهِ، ونبس بتيهٍ:

- أنتِ.. إزاي، عايشة؟

هزت رأسِها إيجابًا وهي تقترب منهُ أكثر كما يفعل هو، غير مُصدقًا ما يحدث وأنهُ يراها للمرةِ الأولى بعد فُراقٍ طويل، حتى قُطعت المسافةُ الفاصلة بين كليهما، وأصبح قريبًا منها للحدِ الذي جعلهُ يبكي وهو يراها تمد كلتا يديها، وتحتضن وجههُ بهما، فانهمرت عبراتهِ الساخنة على وجنتيهِ، سقوطًا على أناملها الناعمتين.. ليتمتم بنبرةٍ مهتزة:

- ده حلم؟ ولا أنتِ قدامي بجد؟ .. طب هو أنتِ ليه مشيتِ من الأول؟ ليه سيبتيهم ياخدوني من حضنك، ويبعدوني عنك!

بكى من فرطِ مشاعرهُ التي لم يستطيع التحكم بها، وازداد انهمار عبراتهِ أكثر دون توقفٍ، فتابع بألمٍ وهو يُبعد يديها عن وجههِ المُلطخ بدموعٍ مالحة، واحتضنهما بيديهِ، أثناء إضافتهِ بقلبٍ يكاد يخترق قفصهِ الصدري، ويشكي آلامهِ لها بمفردهِ:

- هو.. أنا ليه بتعاقب بالطريقة دي؟

- كان غصب عني يا نور عيني، أنا آسفة يا ابني.. أنا آسفة يا حبيبي.

ردتهُ والدتهُ بنبرةٍ باكية وهي تتفحصهُ بشوقٍ بالغ، وما لبثت إلا أن سحبتهُ لداخلِ أحضانِها بقوةٍ، تعانقهُ وعناقها الدافيء جعلهُ يبكي أكثر.. بقهرةٍ ممزوجة بشوقٍ وحُب، هو يعلم.. يعلم أن كُل هذا خُدعة داخل عقلهِ، لكنهُ يشعر بأن الأمر حقيقةً مُطلقة، وأنهُ الآن بين أحضانها بالفعل، تمسد على ظهرهِ ماسحةً همومًا جعلتهُ يشعر لمدةٍ كبيرة أنهُ يحمل ثقلا خفي، وهي بحركةٍ اعتيادية منها أزالت تلك الهموم عن عاتقيه.

فـ العقل البشري قادرٌ على تجاهلِ ما لم يروق لهُ.. حتى وإن كان واقعًا، وقادرٌ أيضًا على الاقتناع بما هو سرابًا؛ لأنهُ يروق لهُ وحسب!

ابتعد عن عناقها ليتعمق في فحصِ ملامحها أكثر، ويرى كيف كان أثرُ الزمنِ عليها، ولكنهُ ما إن ابتعد عن عناقها؛ حتى رأى جسدها وهو يتبخر كالرمادِ أمام ناظريهِ، فصرخَ وهو يحاول إعادتها كما كانت:

أيلول Where stories live. Discover now