33 - الرقصةُ الثالثة.

1.6K 182 101
                                    

33 -

متى سينتهي الألم من قاموسِ الحياة؟
متى، ومتى تختفي "متى"؟

جالسٌ على كرسيِّ مكتبهُ وسطَ غرفتهِ المبعثرة، ينظر بتيهٍ لما كتبَ في منتصفِ الصفحة، متجاهلا صرخاتِ قلبهُ الباكي، ثم سحب نفسًا عميقًا، وأكمل كتابة وصيَّتهُ بيدٍ مرتعشة، رغم تشتت الرؤية أمامه؛ وذلك لتجمع الدمعاتِ المالحة داخل عيناهُ، ورفضهُ القاطع لعدم إطلاق سراحِها، فإن سمح لدمعةٍ واحدة بأن تتساقط؛ لَتمردت عليه ذاته، وأصبح أكثر ضعفًا!

« إن وقعت هذه الورقة بين يدِ أحدٍ منكم؛ فاعلموا أن روحي الآن ليست ملكًا لي، وإنما هي ملكٌ لخالقِها.
أكتب إليكم كلمات الوداعِ الأخيرة بحزنٍ بليغٍ داخلي، فالألم يتضاعف كل يومٍ عن الذي يسبقهُ، وروحي تزداد حيرة، وما أنا بعالمٍ كيف تزول!
في البداية، أُبلغ سلامي لـ والدتي؛ السيدة نجلاء.. »

أكمل ما كان يكتب، بعد أن سمح لعبراتهِ بأن تتساقط كقطراتِ المطر فوق وجنتيهِ التي تتشابه مع جفافِ الصحراء، ومتجاهلا حُرقة قلبهِ وأفكارهُ التي تتداخل مع بعضِها البعض، وتخبرهُ أنه لن يبقى معهم لفترةٍ طويلة كما تمنى يومًا، وأن الرحيل مُقدَر مهما فعل.

سطرٌ تلو الآخر، وكلمةٌ تلي التي بعدها، وهو غارقٌ في محيطِ أفكارهِ، عقله مُقيد بعدةِ أفكارٍ صغيرة، وقلبهُ كالبطلِ الذي هُزِمَ من الشرير وأعوانهُ، لكنهُ لازال على قيدِ الحياة، وهذا الأمر قاسٍ على قلبهِ وبشدة!

ترك القلم من يدهِ بعد أن أنهى كل ما يريد إخبارهم به، واضعًا إياهُ على الورقِ، ومن ثم نهضَ ساحبًا نفسًا طويلا، ونظر لهيئتهِ المبعثرة في المرآةِ، لم يكن هكذا من قبل، لم تكن ملامحهُ باهتة كذلك.. ولكنها عواملُ الزمانِ التي تساعد في إظهار ما يحاول المرء دائمًا إخفائهِ!

زفر بمللٍ، ومن ثم فتح باب الغرفة، خارجًا منها وكأنهُ كان قابعٌ داخل كهفٍ مُظلم، وخرج الآن إلى الضياء.. وقد تسللت رائحةُ طهيِّ والدتهُ المميز إلى أنفهِ، فابتسمَ تلقائيًا، واتجه بخطى شِبه ثابتة نحو حجرةِ المطبخ، قائلًا بنبرةٍ يسودها المرح رُغَم نزيف روحه:

- عليكِ شوية أكل يستاهلوا جايزة كبيرة يا نوجا.

ألقى لها قبلةً ممتنة، وهو يجلس على أحدِ الكراسي المتواجدة بالحجرة، فضحكت نجلاء بخفوتٍ، ونبست بحبٍ:
- حبيبي يا شُهيب.

- كده كفاية ملح يا نوجا؟ ولا أزود؟

تساءلت شهد بهدوءٍ واهتمام أثناء مساعدتها لنجلاء في طهي الطعام، قاصدةً جذب انتباة شُهيب لها، وإدراكه بأنها هُنا.. فتنحنح شُهيب بعد أن لاحظ وجودها هي أيضًا، ومن ثم هتف بهدوءٍ مجيبًا هو عليها بدلا عن نجلاء:

- بلاش ملح كتير في الأكل عموما؛ عشان كُتره بيتعب.

هزت رأسها بتفهمٍ للأمر، بعدَ أن أكدت لها نجلاء صحة ما قال شُهيب، ثم أكملت ما كانت تفعل، ملتزمةً الصمت، تُفكر في كلِ شيء منذُ البداية، وكيف انساقت خلف مخطط والدتها، وخدعت الجميع.. إلى أن خفق قلبها بخوفٍ من مجردِ فكرةً عابرة بعد أن طرح عقلها عليها سؤالا يتضمن "ماذا سيحدث إن علِمَ أبيها بما تفعل؟" ازدردت لعابها، وتركت ما في يدها، ولم تكد أن تتحدث معتذرةً من نجلاء وطالبةً الخروج، حتى قاطعها صوت رنين هاتفها الموضوع أمام شُهيب على الطاولةِ، والذي نظر للشاشةِ سريعًا، ناطقًا بعقدةِ حاجبين:

أيلول Donde viven las historias. Descúbrelo ahora