2

42 4 0
                                    

[جودي]

أحيانًا نكون ضحايا لمشاعرنا و أفكارنا و ماضينا و تسجننا ذكرياتنا في دوّامة لا مخرج منها و كلّما حاولنا تحرير أنفسنا سحبتنا أكثر فأكثر نحو الأسفل حتى لا نكون قادرين على مواصلة العيش بسلام.

أطفأتُ نور غرفتي و استلقيتُ على سريري بُغية النّوم لأنّني أعمل باكرا صباح الغد. نظرتُ إلى ساعة المنبّه على الطّاولة المجاورة لسريري و قد كانت تشير إلى السّاعة العاشرة إلا ربع.

حاولت أن أنام لكن بدون جدوى. بعد مدّةٍ تحققتُ من السّاعة مجدّدا و كانت قد تجاوزت العاشرة بالفعل. كنت قلقة و كل ما يجول بذهني أنّ مديرتي ستوبّخني إن تأخرت عن عملي غدا. لقد بدأت العمل في هذه الشّركة منذ فترة قصيرة فقط و لم أكن أرغب في أن أبدو كشخص مستهتر و لا مُبالي، لأنّني فعلا لستُ كذلك.

أغمضتُ عيناي في محاولةٍ يائسةٍ أخرى علّني أنام، لكن ما لبثتُ حتّى فتحتهما مجدّدا و بدأت أحدّق بالآثار التي يخلّفها ضوء مصباح الشّارع المتسرّب من النافذة على طول سقف غرفتي.

كان اليوم حافلا جدّا و مميّزا و قد حظيت بوقت ممتع و بعض اللّحظات المحرجة أيضا.
أقامت مديرة الشّركة التي أعمل فيها حفلا صغيرا في نهاية الأسبوع بمناسبة نجاح أحد أهمّ المشاريع التّجارية لهذه السّنة. أنا بطبيعتي الانطوائية و كَفتاة غير اجتماعيّة قرّرت عدم الذهاب عندما استلمت الدعوة منذ أسبوع، ليس لسبب سوى لكوني لا أشعر بالارتياح في الأماكن المكتظّة بالأشخاص خصوصًا الذين لا أعرفهم معرفة شخصيّة أو لا تربطني بهم علاقة وطيدة. إلا أن قراري هذا ذهب مهب الريح حين اتّصلت بي مديرتي شخصيّا و أصرّت على قدومي قائلة "بما أنّك أحدث أفراد أسرتنا فأنت لم تحضري أيّ احتفالات أو اجتماعات غير رسمية من قبل، لذلك أرجو أن تأتي لكي تُكوّني علاقات مع بقية زملائك و زميلاتك في الشّركة."

حسنا، لم أكن أملك خيارا آخر سوى الذهاب لهذه الحفلة، لكن ماذا أرتدي و كيف أتصرّف؟

بصراحةٍ أنا لم أحضر حفلا في حياتي من قبل... و قد أصابني التّوتّر و الذّعر لمجرد انعدام إمكانية التغيب عن هذا الحدث.

صباح يوم السبت، ارتديت ملابس عادية كالّتي أرتديها يوميّا عند ذهابي للعمل و ذهبتُ للشّركة كأنه يوم عمل عادي..

أفكارٌ كثيرةٌ كانت تجوب ذهني بينما أسير في أحد شوارع المدينة نحو إحدى أضخم البنايات حيث توجد شركة الاستيراد والتصدير التي أعمل بها.

عبرتُ الباب الزّجاجي نحو الرّدهة حيث يوجد مكتب استقبال تجلس خلفه فتاة لطيفة، تبادلنا التّحية و اتّجهت نحو المصعد و أنا أردّد في ذهني "أرجو أن لا أكون أول الواصلين"
خلال دقائق وجدت نفسي أمام قاعة المؤتمرات الرئيسية حيث تقام الحفلة، أخذتُ نفسًا عميقًا، أمسكت حقيبة يدي بإحكام و فتحت باب القاعة باليد الأخرى..

'يبدو أنني آخر الواصلين' قلت لنفسي و سرت بمحاذاة الجدار محاولة تفادي نظرات الحاضرين قدر المستطاع. جلستُ في آخر القاعة، مصمّمة على الرّحيل بعد نصف ساعةٍ على الأكثر. يكاد صوت الموسيقى الصّاخبة يخرق طبلة أذناي. 'سأصاب بصداع شديد الليلة'.

فتّشتُ داخل حقيبتي عن هاتفي و هرعتُ أتفقّد حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي. فجأة سمعت صوتًا ينادي باسمي، رفعت رأسي و نظرت باتجاه الصوت. كانت نادين تلوّح لي بابتسامة عريضة على شفتيها و هي قادمةٌ نحوي تحمل كوبين من الشّاي و قطعتي كعك. تعملُ نادين في قسم المالية، في فريق المحاسبة الخاص بالشّركة. هي فتاة اجتماعية و محبوبة من طرف الجميع. تكلّمنا مرّتين أو ثلاث فقط منذ أن بدأت العمل هنا و قد كانت لطيفة جدا معي.

"لم أكن أتوقع رؤيتكِ هنا اليوم" قالت نادين بعدما وضعت ما كانت تحمله على الطاولة و جلست بجانبي. ابتسمتُ فقط و لم أجبها لأن الموسيقى كانت صاخبة جدا فإذا أردت أن أقول شيئا كان يتوجب علي أن أصرخ كما يفعل الجميع من حولي.

وضعت نادين كوب الشاي في يدي و دفعت بطبق الكعك نحوي بلطف، "تناولي هذه، إنها لذيذة".

ابتسمتُ مجدّدا و همستُ لها بكلمة "شكرا"
لم تكن الحفلة بذلك السّوء فقد كان الجميع مستمتعا بوقته، البعض يرقصون على أنغام الموسيقى الغربيّة، و آخرون مجتمعين حول البوفيه يملئون منه أطباقهم، و البعض يتحدثون و يتمازحون.

نظرتُ إلى السّاعة فاتّضح لي أن ثلاثين دقيقة فقط  قد مرّت على وجودي هناك. شعرتُ بالملل لكنّ وجود نادين معي قلّل من توتري و حاولت قدر المستطاع أن أستمتع بالحفلة.

"هل لديك موعد لاحقا؟" سألت نادين عندما رأتني أتفقّد السّاعة و أجبتها بالنفي.

"سأذهب إلى الحمام، هلّا رافقتني؟" طلبت نادين و ابتسامتها المعتادة تعلو وجهها، فوافقتُ و خرجنا معا من القاعة. كلّما ابتعدنا خفتَ صوت الموسيقى و صارت الأصوات الأخرى أكثر وضوحا.

"أنت تعملين هنا منذ شهرين، ألم تحصلي على أصدقاء بعد؟" تساءلت نادين بينما كنّا نسير معا نحو الحمام.

"ليس بعد" أجبت باختصار، شعرت بالخجل و أعتقد أنها لاحظت ذلك.

تقلّبت في سريري محاولة أن لا أفكر كثيرا بأحداث اليوم. لَم أستطع النّوم لذلك جلست على حافة السّرير و حملت هاتفي، شارف الوقت على منتصف الليل و ها أنا أخسر معركتي ضد الأرق.

وضعت الهاتف على الطّاولة و سرت نحو النّافذة. سحبتُ السّتائر بلطف و فتحت الزّجاج.

هبّت نسمات هواءٍ منعشة تطايرت معها خصلات شعري، أغمضت عيناي و سحبت نفسا عميقا، عندها قرّرت ترك النافذة مفتوحة و عدت لفراشي. إنها إحدى ليالي الربيع الدافئة حيث الهواء العليل يبعث على الهدوء و الطمأنينة.

'حسنا يا عقلي، توقف عن التفكير حالا. دعني أنام قليلا'.

جاء الصباح مسرعا و لم أنم من الليل سوى ثلاث ساعات. نهضتُ عندما رنّ جرس المنبّه و توجّهت نحو المطبخ. بدا و كأنّ الفتيات (شريكاتي في السكن) لم تستيقظن بعد. فتحتُ الثّلاجة و أخذتُ علبة عصيرٍ و عدت لغرفتي لكي أجهّز نفسي.

بينما كنت أتفقد محتويات حقيبتي، سمعتُ دقّات خافتةٍ على باب الغرفة.

"أدخلي" قلت دون أن أسأل عن هوية الطّارق.

"صباح الخير" قالت سالي بعد أن فتحت الباب و دخلت. "سأطبخ الفطور، هل تريدين الانضمام إلينا؟"

نظرتُ إلى ساعتي ثم أومأتُ موافقة على عرضها. "شكرًا، سأكون هناك حالاً"

سالي هي أصغر الفتيات اللاتي تشاركنني الشّقة، و هي أكثرهنّ قربًا لي. هي طالبة في السّنة الثّانية في كلية الهندسة، جميلة و لطيفة و خجولة بعض الشّيء، لديها إحساسٌ كبيرٌ بالمسؤوليّة و لا تعتمد على أحد حتى والديها. أعترفُ أنّها أحيانًا تعاملني و كأنّني أصغر منها، تحاول دائما أن تساعدني و تعرض عليّ خدماتها.

حملتُ حقيبتي و هاتفي و أغلقت باب غرفتي خلفي و توجّهت نحو المطبخ حيث كانت سالي تصنع الفطائر. جلستُ هناك و لم أنطق بكلمة. خلال لحظاتٍ، جلبت سالي صحن الفطائر التي كانت تعدّها ووضعته أمامي على الطّاولة، ثم جلبت أربعة أكواب عصير و أربعة أطباق صغيرة، و نادت روبي و ليندا لكي تنظمّا إلينا على الفطور أيضا.

"أسرعا! سوف تتأخران على عملكما." نادت سالي و هي تسكب لي العصير.

"سنقيم Pizza night اللّيلة، لا تتغيّبي عنها كما تفعلين في كلّ مرة." قالت بهدوءٍ موجهة كلامها إليّ.

"حسنا" ابتسمت، جزءٌ مني خجل لعدم تلبية دعوتهنّ طوال الأشهر الأخيرة و جزءٌ مني ممتنّ للطفهن نحوي، و بادلتني هي الأخرى بابتسامة مشرقة.

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Waar verhalen tot leven komen. Ontdek het nu