38

10 3 0
                                    

[جودي]

أشعر كأنني أغرق في محيط لا متناهي من التعاسة و التّيار يشدني نحو الأسفل بقوة كبيرة، كلما حاولت التملص منه ازداد قوة و عنفًا حتى كدت أخسر المعركة.. فقدت السيطرة على كل شيء و لم يعد بمقدوري تحمل المزيد.

"جودي، حبيبتي.. " نادتني أمي بينما كانت في المطبخ تعدّ الطعام و بينما كنت أجلس على الأرض أعبث بألعابي. رفعت رأسي و نظرت نحوها، كانت تلك أمي بالفعل، شعرها الأسود الطويل منسدلا على كتفيها و عينيها العسليتين مشرقتين كما كانتا منذ دهر مضى، لكن الصوت لم يكن صوتها. حدقت مطوّلا نحوها و كأنني أستغرب رؤيتها لكنني رغم ذلك وقفت من مكاني و تركت ألعابي و مضيت باتّجاهها.

ساد الظلام و اختفى البيت في دوامة عنيفة من الذكريات فوجدت نفسي أنظر للأعلى في تلك الليلة البائسة نحو أمي المنهارة كليا و الواقفة على حافة الموت. أريد أن أشيح بنظري و أبدأ في الركض نحوها لكنني مقيّدة بأغلال و سلاسل فولاذية تمنعني من الحراك. أحاول أن أصرخ "لا ترحلي!" لكنني لا أستطيع أن أفتح فمي. يختفي الجميع من حولي فجأة و أبقى وحيدة أمام أكثر المشاهد التي عشتها رعبا.

"هل تذكرين كيف كان والدك يأخذنا معا لتناول المثلجات كل مساء أيام الصيف؟ و كيف كان يجلس معنا لتناول الطعام على نفس الطاولة؟ و كيف كان يلعب معك في أوقات فراغه؟ و..." استمرّت أمي في تذكيري كيف كانت حياتنا من قبل. استمعت إليها و اقتربت منها شيئا فشيئا و رميت بنفسي في حضنها لكنها لم تحضني بل دفعتني بعيدا و قامت من مكانها ثم غادرت و تركتني لوحدي.

"لا ترحلي! أرجوك لا ترحلي..." صرخت بأعلى صوتي لكنها لم تستجب.

استفقت لأجد نفسي مستلقية على الأريكة في غرفة الضيوف، نظرت حولي باحثة عن روبي لكني لم أجدها. حاولت الوقوف من هناك لكنني شعرت بالدوار و أوشكت على السقوط أرضا.

"هل أنت بخير؟" كان رائد يقف خلفي تماما و قام بمساعدتي لكي أستعيد توازني.

"أجل.." جلست مجددا على الأريكة و جلس رائد بجانبي. "كيف حالك؟ هل تتألم كثيرا؟"

"لا، أبدا! لقد قامت صديقتك بعمل جيد حقا." أجاب مبتسما.

"يسرني سماع ذلك.." ابتسمت بالرغم من الحزن الذي غمرني حينها. "ارتح قليلا الآن. سأذ..."

أمسك رائد بيدي و قاطعني قائلا "علينا أن نتكلم أولا."

جلست بجانبه دون أن أنطق بكلمة.

"لقد عرفت هوية الشخص الذي قام باستهدافك البارحة." نظر رائد في عينيّ مباشرة و كأنه يريد طمأنتي و أن كل شيء سيكون بخير.

"لا نية لدي في معرفة من يكون.."

"أعرف ما الذي تفكرين فيه" قال رائد بهدوء، "اعلمي فقط أنني سأكون في صفك أيا كان عدوك."

"هذا وعدٌ لن تستطيع الحفاظ عليه"

"بل سأفعل ذلك! تذكري كلامي جيدا." كان واثقا جدا من نفسه حتى كاد يجعلني أصدقه.

لم يدم حوارنا طويلا فقد قمت لأستحم وأغير ملابسي حتى لا أتأخر عن العمل و حين ما كنت على وشك الخروج، لمحت رائد في كامل أناقته ينتظرني في غرفة الجلوس.

"هل أنت جاهزة؟" سأل رائد مبتسما.

نظرت نحوه باستغراب و لم أجب عن سؤاله. وقف من مكانه و اقترب مني في صمت أيضا ثم فتح لي الباب "هيا لنذهب الآن."

ينتابني إحساس غريب.. هل سيحدث شيء آخر اليوم أيضا؟

سرنا معا نحو موقف السيارات حيث ركنت السيارة بالأمس، كانت خطوات رائد بطيئة لكنه بدى و كأنه يراقب المكان كله بتمعن. مد يده باتجاه باب السيارة ليفتحه لكنه توقف فجأة، تغيرت ملامحه و تجمد مكانه دون حراك.

"ما الأمر؟ هل تتألم؟" سألته حين رأيت ما حدث.

"قليلا فقط. لا تقلقي.." قال بصوت خافت و متقطع.

"سأقود أنا اليوم. هيا اصعد!" فتحت الباب و دفعته بلطف نحو الداخل، "لا تتذمر!" أضفت حين بدأ في معارضتي.

"هل لدينا عمل ميداني اليوم أيضا؟" سأل رائد بعد برهة و هو يتفقد هاتفه.

"لا.." أجبته بينما كنت أقود السيارة نحو مقر عملي. كنت آمل أن يقبل وائل بإلغاء العمل الميداني لليوم أو بتكليف شخص آخر ليقوم به بدلا مني حتى لا يحدث شيء مماثل لما حدث بالأمس.

"يجب أن أكلم مديرتك بشأن ما حدث لكي تمنحني المزيد من الصلاحيات داخل الشركة.." قال رائد بتردد، "هذه أوامر والدك."

أومأت فقط و لم أقل شيئا.. سأدعه يفعل ما يشاء إذا كان ذلك سيضمن سلامته أيضا.

"ماذا تريدين أن تتناولي على الغداء؟" سأل رائد فجأة.

"هل سيقوم والدي بإرسال طباخه الخاص؟" أجبت على سؤاله بتهكّم مما جعله يبتسم.

"هل هذا ما تريدينه؟"

"لا، لكن طياره الخاص قد يفي بالغرض"

ضحك رائد و لم يقل شيئا بعدها.

كان كل شيء يسير بشكل عادي ما عدا علاقتي مع رائد التي أصبحت أفضل مما كانت عليه منذ أربعة و عشرين ساعة فقط. كنا نتجاذب أطراف الحديث و نضحك معا كصديقين. لاأنكر أنّ ذلك كان رائعا لكنني أنزعج كلما تذكرت أنه مجرد جاسوس من طرف والدي.

جلست خلف مكتبي كما أفعل في العادة أراجع بعض الملفات أو أحرر بعض العقود على جهاز الكمبيوتر. كان رائد متكئا على الأريكة المقابلة في هدوء، أو ربما كان نائما. قررت أنذاك الذهاب لمكتب وائل و الاعتذار عن مهمة اليوم. فتحت باب المكتب بحذر لكي لا أوقظ الشاب النائم و سرت في الرواق نحو المصعد حيث التقيت ب وائل بالصدفة.

"صباح الخير آنسة جودي. كيف حالك؟"

"صباح الخير سيد وائل. هل أستطيع أن أكلمك في موضوع مهم؟"

"بالتأكيد. لنذهب إلى مكتبي."

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Hikayelerin yaşadığı yer. Şimdi keşfedin