49

8 3 0
                                    

[جودي]

كانت ليندا أول شخص تطأ قدمه باب غرفتي فيما عدا صاحبة العمارة.. أغلقتُ الباب بعد دخولنا و طلبتُ منها الجلوس على الأريكة حتى أقوم بتحضير بعض الطعام. وضعت ليندا حقيبتها على المكتب الصغير المحاذي للسرير و جلست بخجل على الأريكة و انتظرت في صمت.

كانت تلك اللّيلة ستكون النهاية لكن القدر أرسل ليندا ليؤجل ما هو محتوم. تناولنا الطعام معا و تشاركنا نفس السرير على أمل أن تغادر في الصباح الموالي. صحوتُ في الصباح على صوت المنبه لأجد ليندا تعدّ الفطور و تضعه على الطاولة. بدت و كأنها كانت تشاركني هذه الغرفة منذ زمن، و كأننا لم نتعرف على بعضنا البعض ليلة البارحة فقط.

"تبدو الرائحة شهية. ما الذي تعدّينه؟" سألت تلقائيا و نهضت من الفراش لأقوم بتحضير نفسي للخروج.

"بعض الأكل الصحي.." قالت و هي تبتسم.

"هل خرجتِ للتسوّق في الصباح الباكر؟" حملت المنشفة و دخلت للحمام.

"أجل.. أردت فقط أن أعبر عن مدى امتناني و شكري.."

"لستِ مضطرة لفعل ذلك.." أجبتها ثم فتحت صنبور الماء و بدأت في الاستحمام. كان حماما سريعا، خرجت بعده مسرعة لأبدأ في القيام بمهامي اليومية.

"هل ستأتي صديقتك اليوم؟" سألتها بينما كنت أجفّف شعري بالمنشفة و جلست إلى الطاولة معها.

"لا أدري.. اتصلتُ بها صباحا لكنها لم تجب على هاتفها. سأتصل بها لاحقا." قالت و اختفت ابتسامتها فجأة.

"خذي! هذه نسخة عن مفتاح غرفتي. يمكنك المجيء إلى هنا إن لم تعد صديقتك إلى المدينة اليوم."

"حقا؟ شكرا لكِ!" اتّسعت عيناها و غمرتها السعادة و قامت من مكانها و احتضنتني.. هل هكذا يعبّر الناس عن امتنانهم و سعادتهم؟

"لا شكر على واجب." أبعدتُ ليندا عنّي و وقفت لأغادر. "لديّ بعض الأمور لأقوم بها. قد أتأخر في العودة مساء لذلك لا تنتظريني في الخارج."

صحيح أنني لم أكن أعرف ليندا معرفة جيّدة إلا أنني كنت أراها في موقف الحافلات القريب من الجامعة يوميا. كنا نركب نفس الحافلة و ننزل في نفس المحطة و نسير عبر نفس الشارع منذ انتقالي إلى المدينة. كانت بالنّسبة لي شخصا مألوفا و بالتالي لم أتردّد في تقديم المساعدة لها.

كان الشارع يعج بالمارّة في هذا الوقت المبكر، حاولت الابتعاد قدر الإمكان و الإسراع نحو المقهى حتى لا أتأخر عن عملي. لديّ دوام صباحيّ اليوم و مسائيٌ غدا و في اليوم الذي يليه. بما أنها فترة عطلة فقد قررت العمل طوال اليوم لمضاعفة أجري. كنت في حاجة إلى النّقود لتسديد إيجار غرفتي..

كان هواء الشاطئ المنعش قادرا على تخفيف الألم الذي كاد يخترق صدري و يجتاح روحي و يشتّت تفكيري.. وضعت رداء العمل الذي يحمل شعار المقهى، و بدأت في أخذ طلبات الزبائن. بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، كنت نادلة ودودة و بشوشة و محبوبة.. كان تقييمهم لخدماتي جيدا جدا ممّا جعلني العاملة المفضلة لدى رب العمل. كانت تلك الابتسامة التي تزيّن وجهي جزءا من مظهر النادلة مثلها مثل هذا الرداء الذي أرتديه، أخلعها بعد انتهاء الدوام و أغادر المقهى بدونها.

"هذه جميع الطلبات." سلّمت الدفتر للشخص الذي يصنع المشروبات هناك و خرجت في انتظار أن يقوم بمناداتي بعد الانتهاء من أوّل طلب. كان الشاطئ قريبا جدا من المقهى و قد أدمنتُ على مراقبته في وقت فراغي دون ملل.

"هل ستواصلين العمل حتى المساء؟" سأل صاحب المقهى.

"أجل." أجبت باختصار.

"ستقيم زبونة حفلة عيد ميلادها هنا الليلة.. هل تستطيعين خدمتها هي و ضيوفها لوحدك؟"

"ماذا عن ماريا؟ هل ستكون مشغولة الليلة؟"

"ماريا لن تستطيع المجيء اليوم. سأعتمد عليك يا جودي. لا تخذليني و سأكافؤك."

"حسنا."

كنتُ متعبة من كثرة الزبائن طوال اليوم و لم أكن أتوقّع أن العمل سيستمرّ لوقت متأخر الليلة.

كانت الساعة العاشرة ليلا حين جاءت صاحبة الحفلة و معها الكثير من الأصدقاء و الأقارب.. امتلأ المقهى مجددا و بدأت أدوّن طلباتهم كالمعتاد.. سلمتُ دفتر الطلبات في المطبخ و خرجت لأرد على هاتفي الذي كان يرن دون توقف.

"ألو، نعم." أجبتُ دون معرفة هوية المتصل.

"جودي.. هذه أنا ليندا.."

"آه.. حسنا. ما الأمر؟"

"متى ستعودين للبيت؟" قالت ليندا و كأنها كانت تنتظرني هناك في تلك الغرفة الصغيرة.

"بعد ساعتين على الأكثر.."

"ستتوقف الحافلات قريبا. هل أتصل بسيارة أجرة لتقلّك؟"

"لا.. لا حاجة لذلك.." كنت سأغلق الخط، لكنني أضفت "نامي، لا تنتظريني" مخافة أن تحرم نفسها من النوم لحين عودتي للمنزل.

كنت مرهقة جدا بعد انتهاء الحفلة و مغادرة الزبائن.. جلست خائرة القوى على أحد الكراسي حتى أتى صاحب المقهى.

"خذي. هذه أجرة يومك.. و هذه هي مكافأتك." قال و سلمني ظرفين صغيرين.

"شكرا." قلتُ و وضعتهما في جيبي.

"تعاليا، سأوصلكما إلى البيت في طريقي." قال صاحب المقهى موجها كلامه لي و للشاب الذي يعمل داخل المطبخ في الفترة المسائية. لم أكن أعرف أسماء أغلب العمال هنا لأن دوامي يتغير كثيرا حسب مواقيت محاضراتي و أيضا لأنني لست منفتحة كثيرا على الآخرين.

حين دخلت غرفتي وجدت ليندا نائمة على الأريكة بطريقة غير مريحة. ربما نامت بينما كانت تنتظر عودتي.. دخلت مباشرة نحو الحمام حيث اغتسلت و غيرت ملابسي. لمحت علبة الدواء على الرفّ، ففكرت 'لما لا أقوم بذلك الآن؟' فتحت العلبة و أخذت بعض الأقراص.. سينتهي كل شيء هنا و الليلة..

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Where stories live. Discover now