32

15 3 0
                                    

[جودي]


أوقف رائد سيارته الرياضيّة السوداء أمام مبنى الشركة فنزلتُ لكنّه نزل هو أيضا.

"انتظريني هنا، سأركن السّيارة و أعود" قال رائد ثم أسرع مغادرا.

'لابدّ أن هذا الشخص أبله، لماذا يعتقد أنني سأنتظره؟'

دخلتُ إلى مكتبي الذي كان مظلما، أشعلت النّور و فتحت النافذة لتهوية المكان، ثمّ تحقّقتُ كالعادة من جدول أعمالي اليوميّ. لدينا اليوم اجتماع رؤساء الأقسام لتقديم التقارير الشّهرية. ألقيتُ نظرة على ملف التّقرير بنسخته الالكترونية و تحقّقت منه بسرعة لأتأكد من خلوّه من أية أخطاء، ثمّ قمت بطباعته فورا. حملت الملف و توجّهتُ نحو مكتب رئيسة 'قسم الإدارة القانونية' الخاصّ بالشركة. كان مكتبها في نفس الطّابق، تفصله غرفتين فقط عن مكتبي.

"هذا هو التّقرير الذي طلبتِ مني كتابته." وضعتُ الملف على مكتب رئيسة القسم و وقفت انتظر أوامرها.

"جيّد. يمكنك الانصراف الآن." قالت و لم تشح عينيها عن الكتاب الذي كانت تقرأه قبل مجيئي. تبدو  رئيسة القسم كإحدى زوجات الأب الشريرات من القصص الخرافية، ملامحها حادّة و صوتها تبدو عليه القسوة و تصرفاتها مع الآخرين خاليةٌ تماما من المشاعر مما يجعل الأشخاص من حولها مرتبكين و متوترين.

خرجتُ و أغلقت الباب ورائي بلطف ثم زفرت أخيرا نفسا طويلا لم أعِ أنّني كنت أكتمه حتى خرجت من هناك. سرت عائدة إلى مكتبي حتّى سمعت صوت رائد يناديني.

"آنسة جودي.." اقترب الشاب منّي بهدوء ثم أضاف "لماذا لم تنتظريني كما طلبت منك؟"

"لقد كان لديّ عمل مستعجل لأقوم به. يجب أن أذهب الآن." استدرتُ و واصلت سيري نحو مكتبي لكن رائد تبعني إلى هناك. "لماذا تتبعني؟ اذهب إلى مكتبك، ألست موظفا هنا؟"

"أنا ذاهب إلى مكتبي.." أجاب رائد و فتح الباب.

"لكنّ هذا مكتبي.."

"أجل، أنا مساعدك و هذا مكتبي أيضا.." قال الشّاب و دخل إلى الغرفة.

"أنت تمزح! جد مكانا آخر! لماذا تشاركني مكتبي؟" صرخت على الشّاب الذي اقتحم مساحة عملي الشخصية بدون إذني.

حمل رائد كرسيّا و وضعه قرب النافذة و جلس هناك غير مكترث لما كنت أقوله. بدا لي بعد لحظات كمن يراقب أو يبحث عن شيء ما، فقد أمعن النّظر مطوّلا عبر النافذة، ثمّ في كل زاوية داخل غرفة المكتب و بين الرفوف..

بعد مدّة نطق الشاب قائلا "هل أجلب لكِ بعض القهوة؟"

"أنا لا أحب القهوة.." قلت هذا فقط لكي يكفّ عن إزعاجي.

"حقا؟ هذا غريب.."

"و ما الغريب في الأمر؟"

"أعلم أنك تطلبين يوميا كوبا من القهوة على الساعة التاسعة صباحا.. متى تغيّر ذلك؟" قال رائد ممازحا.

ربّما يعتقد رائد أن هذا الأمر مضحك لكنّني لا أعتقد ذلك. لقد كان هذا انتهاكا واضحا لحياتي الشّخصية. لماذا يعرف جواسيس والدي كلّ تفاصيل حياتي؟ شعرتُ فجأة برغبة شديدة في الصراخ لشدّة إحباطي.. كنت محبطةً فعلا بسبب ضعفي و قلّة حيلتي أمام نفوذ والدي و مكره.

لقد فعل والدي كلّ ما في وسعه ليجعلني تعيسة، لكن لماذا؟ في تلك اللحظة تمنّيت لو أنني أختفي من هذا العالم نهائيا لتنتهي تعاستي. لطالما تساءلت 'لماذا لا أستطيع الهرب من كل هذا مهما حاولت؟ لماذا ظلّ يلاحقني كظلّي لسنوات و لم يسمح لي بالاستقلال عنه؟'

لم تكن لي رغبة في الجدال مع هذا الشّخص الغريب لذلك خرجت من هناك مسرعة بدون وجهة محددة. نزلت إلى الطابق السفليّ حيث تقع الكافتيريا الملحقة بالشركة، كنت سأطلب كوبا من القهوة كالعادة لكنني توقّفت.. استدرت لأعود أدراجي فلمحت رائد يراقبني من بعيد. هذا الشخص ليس حارسًا شخصيا بل مجرد جاسوس دسّه والدي في الشرّكة حتى يكون قريبا مني أكثر من أي وقت مضى.

أردتُ فقط أن أبقى بعيدة عنه قدر الإمكان.. بذهن شارد و تفكير مشوّش، سرت مبتعدة من هناك، و من دون أن أنتبه كنت وجها لوجه مع ساندرا التي كنتُ أتفادى رؤيتها منذ مدّة. حاولتُ تجاهلها و المغادرة قبل أن تبدأ تلك المرأة في إزعاجي لكنّني فشلت.

"هذه أنتِ مجددا! أيتها المستشارة القانونيّة.." كانت ساندرا ترتدي بذلة رسمية زهريّة اللون و حذاء أسود بكعب عالي. نظرَت إليّ نظرة ازدراء ثمّ أضافت، "سمعت أنك ذات نفوذ و لا يمكنني طردك من الشرّكة.. لكن هل تعلمين أنني أستطيع جعلكِ تستقيلين من عملك بإرادتك؟"

وقفتُ في صمت أستمع للهراء الذي كانت تقوله، ثم مشيتُ مبتعدة عنها هي الأخرى.. كما قلت سابقا، لم أكن في مزاج للجدال مع أحد. عدت إلى مكتبي و بقيت هناك حتى فُتِح الباب و دخل رائد يحمل كوبين من القهوة في كلتا يديه.

سلّمني رائد أحد الكوبين و احتفظ بالثاني، ثمّ عاد إلى مكانه بالقرب من النافذة و لم يقل شيئًا. سرعان ما انغمستُ في عملي و لم أعد أشعر بوجوده معي في نفس الغرفة. لقد فوجئت فعلا لِكَوْن رائد هذا يجيد فنّ الصمت، فقد كان صمته أفضل من ثرثرته بكثير.

"إنّه وقت الغداء! ألم تنتهي من عملك بعد؟"

"ليس بعد. اذهب أوّلا!" رفعتُ رأسي و نظرتُ نحو مصدر الصوت و قلت بلامبالاة.

"هل ستُفوّتين وجبتك اليوم أيضا؟"

'ألم ينتبه بعد أن معرفته لمثل هذه التفاصيل أمر مزعج بالنسبة لي؟' نظرتُ نحوه و الانزعاج واضح على ملامحي و لم أقل شيئا.

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Donde viven las historias. Descúbrelo ahora