حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]

5

بعض الذكرياتِ تُنسى لكنّها لا تختفي كليّا، تظلّ عالقة في مكان ما بين عقلنا الواعي و اللاّواعي، ثمّ تبرز إلى السّطح في غفلةٍ منّا أو عندما لا نكون مستعدين للمواجهة.. و في محاولة منّا أن ننسى آلامنا و نستمرّ في العيش، نختار أن نحيا كل يوم على حِدًا، منفصلًا عن أمسه و عن غَدِه، مُنفردا بذاته، غير متعلّق بذكرى أو بقصّة أو بشخص.. لا تخبو نيران الغضب و الحزن فقط عندما نقرّر تطويقها بجدرانٍ مرتفعة، و لا عندما نختبئ خلف قناعٍ من الابتسامات المصطنعة.. إلا أنها تختفي عن أنظار العامة من الناس.. لا يستطيع أحد أن يرى ما بداخلك ما لم تسمح له بذلك.

أيقضني صوت زقزقة العصافير القادم من نافذة غرفتي التي تركتها مفتوحة على مصراعيها في الليلة الماضية. كانت الشمس ساطعةً و الهواء عليل تراقصت الستائر على نغماته ثمّ سمحت له بالتسرّب إلى الداخل حيث أقبع أنا و كوابيسي.

'كيف يمكن لأيّ شخص أن يشعر بالتعب فور استيقاظه من النوم؟' تساءلتُ و أنا أحاول النهوض من فراشي لأبدأ يوما جديدًا، و ذكّرت نفسي ككلّ مرّةٍ بأنه سيكون أفضل من الأمس..

'سأستحمّ الآن و أرتدي ملابسي و أتناول فطوري، و سأخرج من البيت نحو عملي الذي أحبّه، و سأركب الحافلة و أجلس بجوار النافذة. سأفعل كلّ هذا لأنني قوية و لا يهزمني شيء.'

أجل، لقد كانت تلك الأمور البسيطة تبدو مُتعِبة و صعبة التّحقيق عندما أكون مكتئبة.. من الغريب أنّني لازلت أشجع نفسي بتلك الطريقة حتى بعد مرور كلّ هذه السّنوات. كانت جدّتي تقول لي أننا نحن فقط من نتحكّم بحياتنا و أنّ علينا أن نقتنع بذلك و نؤمن به حتى يتحقق.. كان هذا حين انتقلت للعيش معها في منزلها الريفيّ منذ قرابة الاثنتي عشرة سنة.. منذ ذلك الحين و أنا أردّد كلمات تشجيعية لنفسي كلّما تخاذلت أو شعرت بالتعب أو بالاكتئاب.

وقفت و بدأت روتيني الصباحيّ اليوميّ على الرغم من الإرهاق و إحساسي المفاجئ بالمرض..

'ربما ما كان عليّ ترك النافذة مفتوحة طوال الليل...'

ارتديت كنزة رمادية اللّون و بنطلون جينز و حذاء رياضيّا. كانت حقيبة يدي السّوداء الصغيرة على مكتبي بمحاذاة الحاسوب، حملتها و وضعت هاتفي و سماعاتي بداخلها ثم خرجت.

كان الجوّ لطيفا حقا.. لم تكن المسافة نحو موقف الحافلات طويلة و لأنّني غادرت المنزل أبكر من المعتاد، قرّرت أن أسير على مهلٍ و أستمتع بهدوء الصباح و هوائه المنعش.