39

8 2 0
                                    

[جودي]

تبقى كل تطلعاتنا للمستقبل مجرد أوهام حتى يثبت حصولها أو عدمه، فنحن لا نتنبأ بالغد و لا نتحكم في أحداثه، و هذا ما يجعلنا نشعر باليأس أحيانا فنغفل عن حقيقة أننا إن نحن تفاءلنا، قد يحصل ما نرغب فيه. لكن الأسوء من كل ذلك هو انعدام كل رغباتنا فيبدو المستقبل مجرد عبء نريد التخلص منه قبل مجيئه.

"ما الأمر؟ هل هناك ما يزعجك؟" سأل وائل الذي كان جالسا خلف مكتبه، و بقي يحدق بي منتظرا جوابي.

"في الواقع.. أريد أن.. هل يمكنني التغيب عن مهمة اليوم؟" طلبت بتوتّر شديد، دون النظر إلى وائل الذي ضلّ صامتا للحظات، ربما بسبب الحيرة التي غمرته.

"أجل، يمكنك ذلك طبعا. سأعيّن شخصا آخر من قسمك لينوب عنك اليوم." قال وائل ثمّ أضاف "هل حدث شيء ما؟"

"لا. مطلقا." أجبته بهدوء. "لديّ الكثير من الملفات في المكتب و يجب تسليمها قبل الغد. هذا كل ما في الأمر."

"حسنا. لا بأس بذلك، مادام كل شيء بخير.." قال وائل بصوت منخفض.

كانت هناك كلمات عالقة في حلقه لكنه لم يتفوّه بها و قرر التزام الصمت، إلا أن تحركاته و نظراته خانتاه فتبيّن من خلالها أنه في حيرة من أمره. خرجت من هناك بعد أن نلت الموافقة على طلبي و اتّجهت نحو مكتبي مثقلة بالهموم و مشغولة البال.

كل هذه الأحداث زادتني قناعة أن وجودي مجرد عبء ثقيل على من حولي و أنّ رحيلي سيحررهم و يجنّبهم المزيد من المتاعب. كانت هذه الأفكار تسيطر عليّ و تسمم عقلي و قد كنت واعية تماما بهذا الأمر لكنني سمحت بوقوعه.

غيّرت طريقي نحو الكافيتريا و جلبت بعض الوجبات الخفيفة و كوبين من القهوة الساخنة و عدت للمكتب. كان رائد مستلقيا كما تركته تماما، تقدّمت نحوه بهدوء. من المحزن رؤيته بهذا الشكل.. لقد كان شاحبا جدا و علامات التعب بادية على وجهه. كل هذا بسببي أنا و بسببي أيضا هو هنا الآن رغم إصابته.

وضعت الطعام و القهوة على الطاولة الصغيرة أمام رائد و قررت أن أوقظه من قيلولته. وضعت يدي على كتفه و ربتتُ عليه بضع مرات بلطف لكنه لم يستجب.

"هيا استيقظ الآن يا رائد." قلت بصوت منخفض، حينها فقط فتح الشاب عينيه الذابلتين فجأة و أمعن النظر فيّ. "هل نمت جيدا؟"

أومأ رائد و حاول النهوض بصعوبة بسبب إصابته، ثم جلس في صمت و غطى وجهه الناعس بكلتا يديه.

"ما - ما الأمر؟" سألته و نبرة القلق واضحة من خلال صوتي المرتجف.

أزاح رائد كلتا يديه عن وجهه كاشفا بذلك ابتسامة عريضة و مشرقة بالرغم من الإرهاق الجليّ من ملامحه.

"لماذا تبتسم؟"

"لأنني أشعر بالسعادة." أجاب رائد، ثم نظر مباشرة في عينيّ، "أنا أسعد رجل في العالم اليوم."

"يبدو أنك فقدت عقلك.. تناول طعامك و سأجعل روبي تفحص رأسك هذا المساء." قلت بنبرة ساخرة و قمت نحو مكتبي لأواصل عملي.

"ألن تشاركيني الطعام؟" سأل الشاب و ارتسم العبوس على وجهه فجأة.

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Where stories live. Discover now