47

4 2 0
                                    

[جودي]

كانت هناك لحظات ظننت فيها أنني سأفقد عقلي. لم يكن لي أصدقاء فقط لأنّني اخترت البقاء وحيدة.. لكن مع مرور الوقت، صارت وحدتي تخنقني. ليس من عادتي أن أخبر أي أحد عما كنت أشعر به أو عما يزعجني و لم أرغب يوما في فعل ذلك، لكن طريقتي في التعامل مع مشاكلي دفعتني لتغيير نمط حياتي و الاندماج مع المجتمع.

كانت لدي رغبة جامحة في الرحيل، رغبة لا يمكن كبحُها.. ذكرياتي المؤلمة و كآبتي و جواسيس والدي المزعجين و عدم قدرتي على الاستقرار بشكل طبيعي و سلس منذ انتقالي.. كل تلك الأمور كانت دافعا لجعلي أفكر في الانتحار. كانت هذه الرغبة تنمو بداخلي و تتغذى على تعاستي و تكبر بسرعة حتى وجدت نفسي ذات يوم على وشك الإقدام على.. أجل!

كان الجميع مشغولين بالتحضير لاحتفالات رأس السنة، سيقضونها وسط عائلاتهم في أجواء مليئة بالدفء و الحب.. بالرغم من ذاكرتي المشوشة، لازلت أذكر أمي تصنع الكعك و تقوم بتحضير عشاء مميز للاحتفال بتلك الأمسية. كنا نجلس معا أنا و هي على طاولة العشاء و ننتظر قدوم والدي الذي يتصل بنا بعد بضع ساعات ليخبرنا أنه لن يأتي الليلة لأنه مشغول.

تقوم والدتي لتنظيف المطبخ ثم تذهب مباشرة لغرفتها لتنام. كنت أسألها إن كانت بخير لكنها لا تجيبني، تمرّ من أمامي و كأنها لا تراني، و كأنني طيف من أطياف البيت.. ثمّ أقضي بقية الأمسية بمفردي في غرفتي الباردة و الكئيبة..

ربما كانت أمي تكرهني لأنني أذكرها بوالدي.. هل أنا مثل والدي حقا؟ لقد توقفت فجأة عن سرد الحكايات لي و تناول الطعام معي و عن قضاء وقت ممتع معا.. لقد تخلّت عني دون سبب و جعلتني أتحمل ذنب حزنها و تعاستها و حتى موتها.. مع ذلك لا أستطيع أن أكرهها، لكنني أكره نفسي.

كنت أسير في الشارع بمفردي، كانت السماء تمطر بغزارة و لم أكن أحمل مظلة، و كانت الرؤية شبه منعدمة بسبب الضباب.. لم يكن الطقس أسوأ ما في الأمر، بل مزاجي المتقلب و كآبتي الناجمة عن كثرة التفكير في الماضي و القلق من الحاضر و الخوف من المستقبل المجهول. لم أرد التوقف عن المشي، لذلك واصلت طريقي نحو غرفتي التي لم أعد قادرة على دفع إيجارها..

'لن يوقفني أحد إن قمت بذلك الليلة' قلتُ لنفسي.. 'سيكون المبنى شبه خال و لن يقاطعني أحد.'

كنت مستعدة لفعلها.. قد تدفعك رغبتك في التحرر إلى فعل أمور سيئة كالإقدام على قتل نفسك، لكنني لم أكن أبالي إن كان ما سأفعله أمرا سيئا أم لا. كل ما كان يشغل تفكيري أنذاك هو إيجاد الطريقة المناسبة لفعله.

"عفوا.. أنتِ جودي من قسم الحقوق، صحيح؟" أوقفتني فتاة في مثل عمري تقريبا أمام البناية التي أسكن فيها.

"أجل. كيف أخدمكِ؟"

"لقد غادرت شريكتي في الغرفة اليوم دون إعطائي المفتاح.." قالت الفتاة بخجل. "أنا آسفة، لكن هل يمكنك استضافتي الليلة فقط؟"

حدقت بالفتاة الواقفة أمامي للحظات قبل أن أجيبها.. لقد أفسدت مخططي لليلة لكن لابأس، سأؤجل ذلك للغد.

"أجل، يمكنك المبيت عندي الليلة."

"شكرا لك. أنا ليندا من قسم الرياضيات، سررت بلقائك." قالت الفتاة و ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهها.

"تشرفت بمعرفتك. لنذهب!"

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Onde histórias criam vida. Descubra agora