23

11 4 0
                                    

عبرتِ السيارة بوابة كبيرة ثمّ توقّفت أمام فيلا فخمة.. كانت الأضواء مشتعلة في كلّ مكان ممّا جعل الليل يبدو كالنهار تماما. نزل السّائق من السيارة و فتح لي الباب، انحنى بطريقة رسمية و أشار لي بالنزول. ما إن نزلت حتى لمحتُ شابّا وسيما مفتول العضلات يقترب مني بوجه بشوش باسم. كان داني يبدو كرجل أعمال من أحد المسلسلات الآسيوية في بذلته الرمادية و قميصه الأبيض. لم يكن يرتدي ربطة عنق و كانت بعض أزرار قميصه مفتوحة. تقدّم نحوي بخطوات متّزنة و هادئة، وقف أمامي و لم يزح عينيه عني ثمّ قال "تبدين فاتنة اليوم.."

خرجت كلمة "شكرا" من فمي بشكل عفوي و ابتسمتُ لأعبّر عن امتناني. آنذاك، كان كل المدعوين في الداخل و بعض السيارات لازالت تعبر بوابة الفيلا بشكل مستمرّ. أمسك داني يدي و وضعها حول ذراعه و سرنا معا للداخل.

كنت أرتدي فستانا أسود قصيرا بدون أكمام و حذاء أسود أيضا بكعب عال مما جعل فرق الطول بيني و بينه صغيرا.. أصرت سالي على شراء هذا الفستان القصير و لم أستطع رفض طلبها. و بينما كنت أسير ممسكة بذراع داني بين الحشود من المدعوين شعرتُ بأعين الجميع تتّجه نحوي، لكنني حاولت تجاهل الأمر.

"اجلسي هنا" أشار داني نحو طاولة شاغرة في قاعة الاحتفال بعد أن قام بسحب الكرسيّ. جلست دون أنطق بكلمة، ثم جلس هو أيضا إلى جانبي.

"أليس لديك ضيوف آخرون لترحب بهم؟"

"هناك أشخاص وظيفتهم التّرحيب بالضيوف، لا داعي لأن أكون هناك شخصيّا." أجاب داني مبتسما.

بينما كنا جالسَيْن معًا نتجاذب أطراف الحديث، وقف شخص أمام طاولتنا.. رفعت رأسي لأرى من يكون، و إذ به نائب مديرة شركتنا وائل.

"من الجيد رؤيتكَ ثانية سيد داني" تصافح الرجلان، ثم جلس وائل برفقتنا.

"سررت باستضافتك سيد وائل.. شكرا على حضورك اليوم." ردّ داني المجاملة.

"أرى أنكِ هنا أيضا." نظر وائل إليّ و ابتسم، "تبدين رائعة!"

"شكرا لك سيدي." لمحتُ بعض الانزعاج الظاهر عليه، لكنني تجاهلت الأمر.

بعد فترة قصيرة انضمّت إلينا المديرة شخصيّا. لقد كانت تبدو أنيقة على الرغم من كبر سنها.. كانت ترتدي فستانا أزرق قصيرا ذو رقبة دائرية و أكمام طويلة و تحمل حقيبة يد برّاقة. جلسَت على الكرسي المقابل لي و وضعت حقيبتها أمامها ثمّ نظرت لي و قالت "كنت أتوقّع رؤيتكِ هنا.. هل التقيتِ بوالدك؟"

"والدي؟" ذِكرُ هذا الشخص أمامي يجعلني أتوتر و أنزعج، على الرغم من ذلك حاولت أن لا أبدو منزعجة أمامهم.

"أجل، والدك هنا أيضا.. لقد التقيتُ به عندما وصلت." قالت المديرة بهدوء تام.

أحسست بدرجة حرارة جسمي ترتفع فجأة و دقات قلبي تتزايد، لم أقل شيئا و لم أدري ماذا أفعل.. هل اعتذر من داني و أرحل؟ لا أريد أن يراني والدي هنا، قد لا يدعني أرحل مجددا.

نظر داني و وائل للمديرة باستغراب، ثمّ سأل وائل " هل تعرفين والد جودي معرفةً شخصية؟"

"أكيد أعرفه.. لقد التقيت به منذ عدة سنوات عندما كنت ناشطة في الميدان السياسي."

"من هو والد جودي بالضبط؟" كان سؤال داني موجها للمديرة لكنه نظر نحوي..

"السيد أمجد، رئيس البلاد المستقبليّ.." أجابت المديرة.

كنت قد فقدت أعصابي كلّيا. وقفت من مكاني تلقائيا، لم يعد يهمّني إن لم أبدو متماسكة.. سرت نحو المخرج بخطوات متسارعة، سمعت صوت داني و وائل يناديان اسمي لكن تجاهلت كليهما.. كنت فقط أريد الهرب من هنا..

لم يكن أحد يعلم عن نوع العلاقة التي تربطني بوالدي.. أما داني صديق طفولتي، فلم يكن يعرف هوية الشخص الذي من المفترض أن يكون والدي. لم يكن لهذا الشخص أي دور في حياتي خلال طفولتي، ثمّ اختفى كلّيا من حياتي و أسّس لنفسه عائلة أخرى بعد أن تسبب في انهيار عائلتنا. لا يحقّ له الآن أن يفرض سيطرته عليّ بأي شكل من الأشكال.

ركض الشابّان خلفي، ربّما ليوقفاني و يمنعانني من الرحيل.. لكن ما إن عبرتُ باب القاعة حتى أمسك شخص بذراعي و سحبني من يدي...

سحبني الكهل من يدي بقوة فسِرتُ خلفه مرغمة حتى وصلنا إلى مكان منعزل في الحديقة. أغمضتُ عينيّ من شدة الألم الذي شعرت به في معصمي، و ما إن توقف حتى أفلتت يدي منه و بدأت أفركها بلطف.

لقد كان هذا الشخص والدي كما توقعت، علمت ذلك دون النظر إليه، فقط من خلال تصرفاته و تحركاته و صمته.. وقف أمامي و لم ينطق بكلمة، هكذا استطاع أن ينشر الرعب في قلبي قبل أن ينهال عليّ بوابل من الإهانات و العتاب و الكلمات الجارحة.. كانت تلك إحدى طرقه في إخضاع الناس له و جعلهم تحت سيطرته.

سمعتُ صوت وائل و داني يناديانني و يتقدمان نحوي قبل أن ينطق والدي بكلمة واحدة. خلال لحظات كان الشابان يقفان على جانبيّ كدروعٍ مضادة للرصاص.. حينها فقط استجمعت بعضا من شجاعتي و رفعت رأسي، نظرت مباشرة في عيني الشّخص الواقف أمامي و قلت بهدوء "أعذرني حضرة 'الوزير السابق'، يجب أن أذهب الآن."

استدرتُ و سرت ببطء في الاتجاه المخالف متجاهلة رغبة جسدي الواهن في الانهيار.. سار الشابان خلفي كزوجٍ من الحراس الشخصيين و لم يقولا شيئا. توقفت عند مدخل الفيلا و طلبت من داني أن يعيدني للبيت فورا. نادى هذا الأخير سائقه الشخصي و أمره بإرسالي لنفس العنوان الذي أقلني منه سابقا.

"سآتي لرؤيتك غدا. انتظريني على الغداء." قال داني مبتسما و أغلق باب السيارة دون أن يتلقى أي جواب مني.

اجتاحت العديد من الأفكار ذهني خلال الطريق إلى المنزل.. لو أنني كنت أقوى لما كان وجوده يرعبني هكذا.. لو استطعت التّحكم في مشاعري لما كان داني و وائل قلقين و متوترين هكذا بسببي.. ربّما من الأفضل أن أختفي من هذا العالم حتى لا أسبب المزيد من الإزعاج لمن حولي..

سارت السّيارة بسرعة مخترقة ظلمة الليل كالرّمح يخترق صدر العدوّ.. أنوار المصابيح كالأشباح تبدو و تختفي ثم تبدو ثانية و تختفي.. توقفت السيارة فجأة في مفترق الطرق عند الإشارة الحمراء. نظر السائق إليّ من خلال المرآة و قد كان كهلا في مثل عمر والدي تقريبا.

"هل أنتِ بخيرٍ يا ابنتي؟"

تفاجأت من سؤاله، هل كان يبدو عليّ أنني لست بخير؟ فكرت قليلا ثمّ أومأت بأنني كذلك.

ابتسم السّائق و بدأ في القيادة مجددا عندما اشتعل الضوء الأخضر. كان يبدو كشخص لطيف، بل كأحد الشخصيات الطيبة التي تساعد أبطال القصص في الحصول على نهايتهم السعيدة... في الواقع، هذا ما جعلني أشعر ببعضٍ من الارتياح.

عندما تسلقت سريري تلك الليلة، كنت لازلت مرتدية فستان السهرة، نزعت الحذاء بطريقة عشوائية و رميته جانبا، خلعت الأقراط و العقد و وضعتهما على الطاولة المجاورة. استلقيت بكامل ما تبقى من أناقتي فوق أغطية السرير، خائرة القوى منهارة و مكتئبة لحد الجنون..

نظرت باتجاه النافذة التي كانت مغلقة، رغبت بشدة في فتحها، لكنّ ساقاي المرتعشتان لا تستطيعان حملي إلى هناك.. حدقت في السقف لدقائق أو ربما ساعات، لست متأكدة..

إن الوقت فعلا شيء عجيب، كالسجن تماما يحيط بنا من كل جانب و لا يمكننا التخلص منه بأي شكل من الأشكال. سجينُ الحاضر يعرف كيف يساير الزمن فلا يشعر بالضياع أو الضعف، أما سجين الماضي فهو رهينةٌ لذكرياته و أفكاره و كوابيسه و مخاوفه التي تمتد جذورها نحو الحاضر و المستقبل و إلى الأبد. توقفت عن التحديق في الفراغ و تحققت من الساعة على هاتفي.. تجاهلت الكمّ الهائل من المكالمات الواردة من داني و وائل، و نظرت للشريط العلوي حيث كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل و دقيقة واحدة.

لم يتغيّر شيء في حياتي طوال هذه السنوات.. كنتُ و لازلت جودي الفتاة الانطوائية التعيسة. حتى الخطابات التشجيعية التي أرددها لنفسي كل يوم لم تجعلني أتغير، بل كانت مجموعة من الأكاذيب التي أخبر نفسي بها لكي أطمئنها لبعض الوقت.

نظرت حولي و تيقّنت أنني لن أستطيع النوم هذه الليلة. سحبت درج الطاولة و حدقت مطولا بالحبوب المنومة، أخذت العلبة في يدي و فتحتها. هل تكفي حبة واحدة لجعلي أنام بهدوء الليلة؟ هل آخذ قرصين مثل المرّة الماضية؟ أو ربما أتناول العلبة بأكملها و أرقد بسلام. ضغطت على علبة الدواء بين أصابعي داخل قبضةٍ محكمة الإغلاق، علمت في تلك اللحظة أنني أخفقت.. أخفقت لأنني كنت أفكر بهذه الطريقة الانهزامية.. رميت العلبة عبر الغرفة فاصطدمت بباب الحمام و أصدرت صوت قرقعة خافتا بقي صداه يرن داخل أذنيّ.

كان الأرنب يرتدي معطفا أسود و يقف على قوائمه الخلفية و يحمل شيئا براقا في يده. آه، كانت تلك ساعة ذهبية، نظر إليها للحظات ثم انطلق مسرعا نحو مكان ما.. ركضتُ خلفه حتى وصل إلى جحر صغير و قفز فيه. قفزت أنا أيضا.. ثمّ رن المنبه بصوت عال فاستيقظت من حلم غريب جدا.

لم تكمل أمي قراءة ذلك الكتاب الذي يروي مغامرات أليس في بلاد العجائب أبدًا. لم نستطع معرفة ماذا يحدث لتلك الفتاة الفضولية بعد لحاقها بالأرنب.. و لأنني فقدت اهتمامي بهذا الكتاب، لم أعد أريد معرفة بقية القصة.

حملَتِ الكتاب بين يديها و ضمّته إلى صدرها و قالت "نامي الآن يا جودي و سنكمل قراءة هذا الكتاب غدا.."
لماذا جاء الغد و لم يأت موعد الحكاية بعد؟ لماذا توالت الليالي و لم نعد نقرأ الكتب الممتعة معا كما كنا نفعل دائما؟ لماذا صارت تتجاهلني و تحبس نفسها في غرفتها طوال الوقت؟

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Where stories live. Discover now